لماذا ينزعج العلمانيون من طلب التوبة والإقلاع عن المعاصي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا ينزعج العلمانيون من طلب التوبة والإقلاع عن المعاصي؟
الحسن جرودي
في الوقت الذي يتوجه فيه المغاربة، مؤمنهم وعاصيهم إلى الله عز وجل ليرفع عنهم البلاء الذي ألم بهم، نجد مجموعة منهم لا زالت تغرد خارج السرب، وتحاول كل ما في وسعها لإيهام الشعب المغربي أن ما يحدث الآن لا دخل فيه للغيب، مستعملين في ذلك مجموعة من المغالطات المنطقية التي لا يُجيد هؤلاء السفسطائيون غيرها، والتي يحاولون من خلالها إظهار الدين الإسلامي بمثابة عدو للعلم، وأن المسلمين لا يأخذون بالأسباب لكونهم يؤمنون بالمعجزات والخوارق.
سأكتفي في هذه الكلمة بتسليط الضوء على ثلاث مقالات، وردت على صفحات جريدة هسبريس الإلكترونية لهؤلاء النوابغ الذين يحتكرون الفهم الصحيح لكل الحوادث دون غيرهم.
المقال الأول تحت عنوان « جائحة كورونا ليست عقابا إلاهيا »، بتاريخ 14 مارس 2020، ينكر فيه صاحبه إرجاع مختلف الكوارث التي تحل بالناس إلى ضعف تدينهم وانتشار الفساد بينهم، لينكر بالنتيجة الدعوة إلى التوبة إلى الله واستغفاره وترك المعاصي، لأنه يرى أن هذه الكوارث ومن ثم جائحة كورونا ليست عقابا من الله. والغريب في الأمر أن صاحب المقال يُقر بصحة بما ورد في القصص القرآني والأحاديث النبوية فيما يتعلق بمعاقبة الله لمجموعة من الأقوام والأمم بسبب كفرهم وعصيانهم وعدوانهم، لكنه سرعان ما ينقلب على اعترافه مستعملا « مغالطة انحياز التأييد » أو « التأييد دون التفنيد » حيث عمد إلى تأييد الفرضية القائلة بأن كورونا ليست عقابا من الله، معتمدا على المقابلة بين التفسير بالذنوب والتفسير بالأسباب ومعتبرا أن التفسير الأول يلغي الثاني والعكس، وهذا غير صحيح، وهنا مكمن المغالطة، لأن المطلوب هو البرهنة على عدم إمكانية إدراج هذا الوباء أو غيره ضمن أمثلة القصص القرآني السابقة، وذلك بالإتيان على الأقل بدليل واحد يكون كافيا لتفنيدها كلها، وهوما يسمح له بتمحيص فرضيته، وهذا ما لا يستطيعه هو ولا غيره، لأن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يعلم المراد من الجائحة، لأن « اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (الآية74 من سورة النحل) ولأنه » لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ » ( الآية23 من سورة الأنبياء). فقد تكون عقابا لقوم في نفس الوقت الذي تكون فيه رحمة لقوم آخرين مصداقا لقوله تعالى » يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ » (الآية 21 من سورة العنكبوت) وهذا لا يتنافى في شيء مع الأخذ بالسنن الكونية التي سنها الله عز وجل. ومن المغالطات الواردة في هذا المقال أيضا مغالطة المُصادرة على المطلوب، حيث عمد إلى سرد مجموعة من الأحاديث النبوية المتعلقة بالعمل بالسنن الكونية، ليخلص من خلالها أن الاستغفار ليس مطلوبا في مثل هذه الجائحة، لا لشيء سوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُضَمِّن هذه الأحاديث خطاب التوبة إلى الله، متعمدا القفز على كل الأحاديث النبوية والآيات القرآنية على كثرتها، والتي تدعوا إلى التوبة والاستغفار، والتي نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر الآية 52 من سورة هود، حيث يقول سبحانه على لسان نبيه هود: »وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ » .
المقال الثاني ورد تحت عنوان « الاستثمار في الجائحة » بتاريخ 15 مارس 2020، حيث اعتمد صاحبه مغالطة الشخصنة، التي يعمد المغالط فيها إلى الطعن في الشخص القائل عوض دحض المقولة، أو قتل الرسول عوض تفنيد الرسالة، وهذا بالضبط ما قام به صاحب المقال عندما عمد إلى الهجوم على جماعة العدل والإحسان، ليغلق كما ورد في المقال باب « الإكثار من الدعاء والتضرع إلى لله سبحانه وتعالى أن يرفع البلوى عن الناس، بكافة الأدعية المأثورة في أوقات الاستجابة وفِي جميع الأحوال، والحسبلة والتفويض عقب الصلاة، والتصدق على المحتاجين فإنها مما يطفئ غضب الرحمان ». ذلك أنه إذا كان له كما للجميع أن يتفق أو يختلف مع الجماعة فهذا شيء، وأما أن ينفي التضرع إلى الله والأَوْبة إليه ومساعدة المحتاجين وهو أمر من صميم العقيدة الإسلامية، لا لشيء سوى أن الجماعة طلبت من الناس ذلك، فهذا شيء آخر لا يمكن لا للعقل ولا للمنطق السليمين أن يقبلا به.
أما المقال الثالث فهو تحت عنوان « في الحاجة إلى ضمير جمعي منتِج وفعال » بتاريخ 19 مارس 2020، يعمد فيه صاحبه إلى « مغالطة المنشأ » أو ما يطلق عليه أحيانا مغالطة لعن المصدر أو الأصل » لأنه قلَّما يُولي الناسُ ثقتَهم بآراء جاءت من مصدر يمقتونه، بغض النظر عن المزايا الفعلية لهذه الآراء نفسها، وكأنهم يقولون:لتذهبْ هذه الآراء إلى الجحيم مع أصحابها »(1). فلأنه يمقت الإسلام والثقافة الإسلامية، لا يعير أي اهتمام بالجوانب الإيجابية الكثيرة التي يتميز بها عن الكثير من الأديان والثقافات المرتبطة بها، وإنما يعمل كل ما في وسعه ليلصق به جميع الانحرافات التي تزخر بها الثقافة السائدة في المجتمعات المحسوبة على الإسلام، لذلك فهو يعتبر بأن غالبية المسلمين يتشبثون بخصوصيتهم التي ليست سوى « الإيمان بالمعجزات والخوارق والتنكر مع سبق الإصرار للعلم وللكثير مما ینتجه العقل من ثمرات المعارف الجديدة » وهو يعلم في قرارة نفسه براءة الإسلام من هذه الانحرافات، بل على العكس من ذلك، فهو يحث على العلم والعمل، بل وعلى إتقان العمل، ثم بعد هذا وذاك فكل المجتمعات تغص بالغث والسمين، فالمجتمعات التي يَنسِب إليها العلم والمعرفة ليس كل مواطنيها علماء، وإنما فيها نخبة وُفِّرت لها الظروف والوسائل لتكون كذلك، وصاحب المقال يعلم أن من بينهم علماء مسلمين عرب وعجم يشهد لهم العالم بتفوقهم، ولذلك فاللوم لا ينبغي توجيهه لعموم المسلمين، وإنما لكل الذين يعملون ليل نهار على إخراجهم عن السكة وإغراقهم في التفاهات من قبيل المهرجانات وإطلاق العنان للحريات الفردية وما يصاحبها من ممارسات تنأى عنها فطرة كل إنسان سوي، بغض النظر عن كونه يمتح من الثقافة الإسلامية أو من غيرها من الثقافات. ثم إذا اعتبرنا جدلا أن إيمان المسلمين بالمعجزات والخوارق كان هو السبب في تنكرهم للعلم ولما ينتجه العقل البشري، فما الذي منع صاحب المقال وأتباعه إذا كان له أتباع، من التفوق في العلم، وإخراجنا من الورطة التي نحن فيها، ويعفي مسؤولينا من استجداء الدول التي هي الآن بصدد البحث عن لقاح لهذا الوباء.
في الأخير أتساءل: ما الذي يُزعج هؤلاء وأتباعهم الذين أعتقد أنهم سيرحلون عنهم وسيلتحقون بجحافل المغاربة الذين يؤمنون بضرورة الأخذ بالأسباب، ويعلمون علم اليقين أن هناك ربا للأسباب يلجؤون إليه كلما حل بهم مكروه؟ ما الذي يزعجهم إذا تاب الناس ورجعوا عن غيهم وأرجعوا المظالم إلى أهلها، وأعانوا الضعيف والمعدم ؟ ما الذي يزعجهم إذا تمت إعادة ثقة الناس بربهم وفيما بينهم وتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان؟ ما الذي يزعجهم…أم أن وجودهم مرتبط بالصيد في الماء العكر المتمثل في الحرية الفردية اللامحدودة وكل البوائق التي تنتجها. فإذا لم يكن لهذه الجائحة حسنة سوى أنها أبانت عن تهافت إطلاق الحريات، فذلك كاف لرجوع هؤلاء عن غيهم والتوبة إلى الله دون أن يمنعهم ذلك من التماس طريق العلم بشقيه الشرعي والتجريبي في إطار من الحرية المنضبطة بضوابط الشرع، ذلك أن العمل بعقلية امتلاك كل واحد الحق في أن يفعل ما يشاء وقت ما شاء، لا يمكن معه إرغام الناس في هذا الظرف بالذات على لزوم بيوتهم على سبيل المثال، لأن هذا من صميم الحد من الحرية الفردية حسب تعريفهم لها. وقد يقول قائل منهم إن المصلحة العامة تقتضي هذا الإجراء، وهو مُحق في ذلك، ونحن نقول له عندما حد الله الحدود فليس لأنه في حاجة إليها وإنما لمصلحة الإنسان علمها من علمها وجهلها من جهلها.
(1) من كتاب المغالطات المنطقية لعادل مصطفى
الحسن جرودي
1 Comment
استاذي الكريم .مقال جيد ,في مضمونه وفي وقته الراهن’ ولقد صدقت في قولك :الاصطياد في الماء العاكر هذا في وقت نحتاج فيه الى الحكمة والتبصر وعدم بث اسباب الشقاق والنفاق .ماذا يريد هؤلاء بالاسلام الذي ظهر الآن اكثر مما مضى’ انه دين الوقاية من كل جائحة واوبئة’ التي سببها الخروج عن سنن الكون التي سطرها الله عز وجل , فجعل الزنا سببا لامراض كثيرة’ والربا سببا لامرض اقتصادية ’والشذوذ سببا لاختلال الموازن داخل الاسرة’ والمخدرات سببا لاختلال العقل الذي هو مدار التكليف وووووووووووووووو…………..
وصدق الله اذ يقول:-ووضع الميزان الا تطغوا في الميزان واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان-و ايضا:-وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا-