رسالة الذبابة
لا زال الذباب على رأس الحشرات التي أكرهها وتليها مخلوقات أخرى أقل إزعاجا،رغم ما يروى عن جنع الذباب بين الداء والدواء.
ربما كان موقفي كسائر الناس تأثرا بالعادات وأنماط التربية التي نهلنا منها.
غير أنني والعديد من الناس ،إنما نغفل حقيقة لا يمكن إنكارها،وهي أن كل مخلوقات الله ليس فيها ما هو زائد ،أو بدون رسالة يؤديها في الدنيا ،بل إن كل صنع الله متقن، ولعل قصتي مع الذبابة التي أمقتها، واحد من الدروس التي يجب الاعتبار منها.
في أواخر سنة 2014،كان بيني وبين الإحالة على المعاش تسعة أيام بالتمام والكمال.
كان صباح يوم ثلاثاء،وقبيل فترة الاستراحة،قمت كالعادة بإعداد الشاي جريا على العادة المتأصلة في المؤسسة.
تناولنا كؤوس الشاي ونحن ننتشي بتبادل المستملحات،فلما انفض المجلس، عدت إلى مكتبي لاستئناف أنشطتي الإدارية لأفاجأ بصورة ذبابة تغطي بؤبؤ عيني اليسرى،فاعتقدت أنها الذبابة التي كنت أراها من حين لآخر،ثم ما تلبث أن تختفي.
غسلت عيني بالماء البارد،لكن بصري سرعان ما أخذ ينحسر تدريجيا، ليتحول إلى مجرد نقطة ضوء في زاوية العين،مما جعلني أوقن بأن المسألة تختلف تماما عما عهدته.
طلبت من أحد الزملاء أن ينوب عني ريثما أزور الطبيب،ثم كانت المفاجأة الكبرى،حين ألقى الرجل بآلته جانبا وتوجه إلي بصرامة:
ليس أمامك وقت تضيعه،فقد تمزقت شبكة عينك اليسرى تمزقا كاملا،ويجب أن تتوجه فورا إلى مدينة الدار البيضاء لعرض حالتك على الطبيب ب.الذي لا ينافسه أحد في معالجة مثل هذه الحالات!
في مساء اليوم ذاته قصدت البيضاء لأجد الطبيب .ب. الذي يحمل اسما عائليا ولد حاملوه ليتبؤوا المناصب الحساسة في كل قطاعات الدولة الحيوية خارج الوطن في مهمة علمية بباريس كما فهمت من ممرضات يتواصلن بفرنسية راقية، وقد نلت نصيبي من لومهن على قدومي من غير موعد مسبق،لكنني حملت مسؤولية ذلك للمرض الطارىء الذي لم يستشر أحدا !
غادرت عيادة الطبيب الغائب وأنا أردد في دواخلي:
هل يسوغ للأذن أن تتقبل أسماء من قبيل(بلعيد،قدور ،لقرع،فراجي،لعور،،،)في مناصب سامية كالتي يتولاها هذا الصنف من المغاربة الذين شاء حظهم أن يتركوا كل أعمال السخرة و،،الكرفي،،للفئات التي ولدت بنحس في جبينها.
دلني فاعل خير على طبيب بارع بالعاصمة فقصدته في اليوم الموالي. هو،،بروفيسور،،في أمراض وجراحة العيون يتناوب هو وزميله الذي يشاركه الدرجة على علاج المصابين.
أجرى الرجل المهذب فحصا دقيقا مصورا أكد فيه استنتاج طبيب وجدة،لكنه أضاف بأن الخطر في طريقه إلى العين اليمنى التي تعاني من ثلاثة تمزقات قابلة للتطور الأسوإ في كل لحظة !
ابتلعت مخاوفي حين صارحني الطبيب بأنه لا مفر من إجراء عمليتين، فلم يعد أمامي اختيار.
كان علي أن التحق بمصحة مخصصة لجراحة العينين تربطها شراكة بالطبيب وزميله،وذلك بعد القيام بالتحاليل والفحوصات التي تسمح بإجراء العملية.
كان معي جزء من المبلغ المطلوب، والباقي عبارة عن شيك،فلما جاء دوري،فوجئت بالمسؤولة عن الشباك تخاطبني بلهجة صارمة:
الوقت هنا ذو قيمة،فلا حاجة للكلام،فإما المبلغ عينا أو مغادرة المصحة !
خرجت ألهث لأتدبر أموري،ثم عدت بعد دقائق لتسوية وضعيتي قبل الدخول إلى قاعة العمليات وأنا مثقل بأصناف من المخاوف،حيث كان علي أن أخضع لتخدير كلي،وهو ما يعني أنني كنت مقبلا على موت مؤقت أو أبدي إن أراد الله تعالى ذلك.
استقبلني طبيب متخصص في التخدير على محياه كل مخايل المسلم الصادق،حيث قدم لي شروحا مستفيضة حول حالتي،وكيف أن كل الإجراءات قد اتخذت لتجري العملية كما أريد لها،ولا زال الرجل يرفع من معنوياتي حتى اقتنعت بأن الخوف ما هو إلا عبء ثقيل على النفس،فلأتوكل على الله.
أشار علي الطبيب المخدر بالتمدد على سرير مجهز بكل الآلات اللازمة،ثم أقبلت ممرضة حسناء كأنه اختيرت ليمد جمالها جرعة إضافية من التحمل !
حقنت الحسناء يدي بشوكة صغيرة ،ثم مررت قناعا على وجهي ليكون ذلك آخر عهد لي بالدنيا !
لست أدري كم من الوقت مر على عبثهم بعيني،حينما استيقظت على وقع لطمات خفيفة على خدي لأفاجأ برجل أسود يقف عند رأسي ،فقلت في نفسي: لعله نكير ولا بد أن يكون منكر عند قدمي !
لقد اختزلت كل شيء في ثوان،حيث فكرت في أجواء المساءلة الحقيقية،ذلك أن التدوينات الآن لا ترقى إليها تدوينات الفضاء الأزرق القابلة للحذف والتغيير،حيث حسم كل شيء في قوله عز وجل:(يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).
أرجعني الرجل الواقف عند رأسي إلى الواقع حين خاطبني بلغة البشر: على سلامتك،لقد مرت الأمور على أحسن ما يرام، ثم وضع علبة،،دانون،، رهن إشارتي لأعود إلى عالم الأحياء !
أدركت بأنني كنت قد غبت عن الدنيا لبعض الوقت عمل خلالها الطبيب -كما علمت فيما بعد-على إخراج عيني من مكانها،ثم وضعها على المشرحة ليقوم بترقيعها بما يضمن عود قليل من النور إليها لكن مع حول اضطراري يجب أن أتقبله !
عندما استرجعت عافيتي،توجهت لعيادة طبيب آخر للعينين من أجل التأكد من العين الأخرى،فلما فحصها،خلص إلى أن الأمر بسيط وبإمكانه معالجته بواسطة أشعة الليزر في دقائق معدودة !
اتفقنا على التكاليف والموعد،لكنني غيرت رأيي بمجرد مغادرة مكتب الطبيب،حيث اتصلت بطبيب وجدة استشيره،فكان أن طلب مني التريث حتى يتأكد.
وبالفعل، فقد دقق الرجل فحوصه فاعترف بأنه لم ينتبه للخطر المحدق بالعين اليمنى، وأن ما قاله طبيب الرباط هو عين الصواب،وأنه لا مفر من عملية جراحية أخرى !
بعد شهرين،كان علي أن أخضع لعملية ثانية مررت خلالها بنفس المراحل عدا أنني اقتنعت بأنني أصبحت أمام خيارين: فإما أن أجري العملية،أو أواجه الحياة بعينين لا تقومان إلا بأدنى أدوارهما بما يترتب عن ذلك من معاناة وشعور دائم بالضيم.
لا يعتقدن أحد بأن يد الإنسان بمقدورها أن تعيد صنع الله أول مرة، ولكنه لا بد من الإقرار بأن الأطر المغربية في مجالات الطب الدقيقة،هي مؤهلة لنفتخر بكفاءتها،حيث كان ضياع شبكة العين إلى زمن قريب يعني الإصابة بالعمى وكفى،ليصبح في أيامنا مرضا كسائر الأمراض ،قابلا للعلاج إذ تم ذلك في الوقت المناسب.
سأظل ممتنا للطبيب الذي تولى علاجي، لأنني تأكدت بأن هذا الرجل يبذل ما في وسعه لاكتشاف العلةد ثم لا يجامل المريض،بحيث يواجهه بحقيقة حالته مستعرضا كل الإمكانيات المتاحة.
ليس السواد والقتامة في بلدنا بالصورة الدرامية التي ينشرها البعض،لكن قطاعنا العام بحاحة إلى كثير من التوسع كما وكيفا ليستجيب للحاجات الملحة المتزايدة.
أما الذباب الذي أكرهه،فقد تأكدت إحدى أهم رسائله حين سألني الطبيب:
هل كنت ترى ما يشبه ذبابة أمام عينك ؟
ولما أجبت بالإيجاب، قال:
ذلك هو إنذار تضرر الشبكة وحاجتها إلى العلاج الفوري،وكل شخص يرى هذه الذبابة مطالب بإجراء الفحوص اللازمة ليضمن العلاج الكامل،بينما يعتبر كل تأخر تضاؤلا في حظوظ الشفاء التام.
Aucun commentaire