مرافعة لمقدم
مرافعة،،لمقدم،،
خلال زيارتي الأخيرة لمسقط الرأس بمناسبة عيد الأضحى،شاءت الأقدار أن أؤدي صلاة الجمعة بالمسجد الذي أقيم على أنقاض مدرستي الأولى(مدرسة عين سالم).
كانت تلك المدرسة قد بنيت على طراز متميز، روعيت فيه شروط الاستجابة للظروف المناخية القاسية،لذلك كان سقفها دائريا ييسر انسياب المطر والثلج.
احتفظ ببعض جدرانها السميكة لتسهيل عملية إقامة المسجد،فلما جلست هناك أنتظر وقت الصلاة،تزاحمت كل الذكريات في ذهني،لكن مرافعة أحد المقدمين-رحمه الله-أبت إلا أن تستأثر باهتمامي.
كنا ندرس بالقسم الثالث ابتدائي أوائل الستينات من القرن الماضي،
وكانت الدورة الطبيعية في كامل عذريتها،بحيث تتعاقب الفصول مستوفية كل ما يميزها عن بعضها في توزيع عادل لتوالي الأيام وما تختزنه من عطاءات الطبيعة.
كان التلاميذ يفدون من الدواوير المجاورة الرابضة في أحضان غابة كثيفة، وهم يتقاسمون مظاهر الحرمان بما يجعل المساواة ماثلة للعيان.
كان فصل الشتاء ثقيلا على النفوس،حيث يذيق الأجسام شبه العارية للمتعلمين كل صنوف القساوة من قر وجليد سميك، وثلوج وأمطار قد تستمر أياما عديدة.
كنا نواجه هذه الطبيعة بنعال بدائية وملابس تسترنا ولا تحمينا من الزمهرير الذي يتحالف مع الخوف من المعلمين الذين كانت العصا على رأس وسائل ،،ديداكتيكهم،،يومئذ.
لم يكن ينسينا في قساوة الطقس إلا اجترار قصة ،،عنزة السيد سوغان،،التي تحولت إلى حديث مجالسنا باعتبارها نسخة مما يجري حوالينا بشكل يومي،حيث كانت الذئاب تفترس ما شاءت من الشياه،لكنها لم تكن لتذهب نحو حتفها مثلما حصل مع عنزة،،النصراني،، التي ضحت بحياة البذخ من أجل مغامرة مأساوية !
كان معلم الفرنسية شخصا ينحدر من مدينة،،دبدو،، وكان رجلا مخلصا لعمله ويحرص على أن يوصل إلينا ما يملك من زاد-رحمه الله-
ولشدة حبه لمهنته وتلاميذه،فقد استقدم معلمنا بناء من أقارب أحد التلاميذ فبنى موقدا يسمح لنا بمتابعة دروسنا في ظروف ملائمة.
وهكذا طلب منا أن يصطحب كل واحد منا معه قطعة خشب من أجل تدفئة كافية.
انطلقت العملية، وازداد الإقبال على التحصيل ،وكانت قصة العنزة حافزا لنا لتوسيع خيالنا البسيط،حيث صار كل واحد منا يبدع مخرجات لهذه القصة التي طغت على ما سواها.
لم تمر إلا أيام معدودة على التحول الذي عرفه الفصل بعد تشغيل الموقد،حتى حدث ما لم يكن بالحسبان.
في صباح أحد أيام الخميس الذي يوافق يوم السوق الأسبوعي بالبلدة،كنا قد شرعنا في التقاط أولى ثمار الدرس، حين توقف مقدم دوار مجاور بباب المدرسة التي يتعلم فيه ابنه إلى جانبنا بعدما ركن بغلته قرب إحدى النوافذ.
فتح الباب من غير استئذان،ثم حيى المعلم بالطريقة المخزنية الخالية من اللطف لينتقل إلى صلب الموضوع مباشرة:
-ماتحمش، ماتخافش الله ،تقول للبز اجيبو لحطب ويديهم جامدين؟
استغرب المعلم هذه الملاحظة المقرفة، وحرص على أن يبين لممثل المخزن بأن ماقام به ،هو مساهمة في محاربة البرد لتسهيل التحصيل، وأنه تم باتفاق مع التلاميذ.
رفض ،،المقدم بيانات المعلم ،وأطلق العنان للسانه ليكيل له ما يختزن من تهم ووعيد حتى ضاع جل الحصة الأولى،ولم يعد إلى بغلته إلا بعد أن حذر المعلم من مغبة تكليف الصغار بجلب الحطب، لأن ذلك سيكلفه غاليا.
عندما غادر ،،المقدم ،،المكان،لم يخف المعلم انفعاله وغضبه،فطلب منا جمع أدواتنا والانصراف حتى يتوجه نحو السوق لتبليغ شكاية ضد الرجل الذي اقتحم عليه حرمة القسم ،وأسمعه كلاما يخالف كل الأعراف.
ما كاد أوائل التلاميذ يتخطون عتبة الباب حتى توقفت سيارة من نوع،،دجيب،،على متنها مدير المدارس قادما من دبدو.
سأل المعلم عن سبب توقيف الدراسة ،فقص عليه الخبر وعلامات التأثر ما تزال بادية على محياه.
طلب المدير من المعلم أن ينتظره بالخارج،ثم أغلق الباب وراح يستنطقنا لمعرفة حقيقة ماجرى،فلما كانت الروايتان متطابقتين، أمرنا بالعودة إلى بيتوتنا،بينما طلب من المعلم مرافقته إلى السوق لمقابلة القائد.
كانت الطريق غير معبدة، والأوحال في كل مكان،مما جعلنا نصل إلى السوق بفارق بسيط من الوقت مع وصول،،لاجيب،،!
لقد قمنا بتجميع كل الأخبار الممكنة حول ماجرى للغريمين تحت إشراف القائد الذي كانت ترتعد له الفرائص يومئذ، وعلمنا فيما بعد بأن ،،المقدم،، قد نال ما يكفي من التوبيخ والإهانة،كما لجأ إلى الأسلوب الناجع في البادية ألا وهو،،رمي العار،، والاعتذار للمعلم الذي عاد إلينا في الغد منتشبا باستعادة الاعتبار،وتمكن من تحصين نفسه ضد كل من تسول له نفسه حشر أنفه فيما لا يعنيه إلى أن غادر البلدة ،حيث ترك مهنة التدريس ليشتغل في بلدية تاوريرت،حيث عاجله الموت وهو في بداية حياته،أما،،المقدم،،فقد عمر طويلا وندم أشد الندم على فعلته ،خاصة وأن ابنه كان من التلاميذ الذين أنهوا دراستهم الجامعية، وكان واحدا من أعز أصدقائي،لكن القدر المحتوم وافاه ليلة زفافه في قصة سوريالية لم تنكشف خيوطها لحد الآن.
إنه الصديق عبد الله مزيان الذي كان إطارا في الجهاز القضائي بالأقاليم المسترجعة، وقد خلف غيابه صدمة قوية في كل البلدة.
تغمده الله الله بواسع رحمته ورحم والده ومعلمنا الذي ندين له بكثير من الفضل على مسارنا التعلمي.
ى
Aucun commentaire