هكذا تكلم العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة : عندما تُؤَسِّسُ المساواة للّامساواة – الحلقة الرابعة-
أحمد الجبلي
إن موضوع « المساواة » من المواضيع التي امتطيت أبشع امتطاء من أجل تفويت خطاب عدائي مستفز، يتهم المخالفين بشتى النعوت من مثل التخلف واللاعقلانية والماضوية ورفض التجديد والتحديث، وهو خطاب، في آخر المطاف، يعمل على خلق توترات مجتمعية من شأنها أن تفضي إلى التقسيم والتجزئة والتشظي. مع العلم أن جميع المجتمعات التي تكدح بذاتها نحو التقدم والرقي والحضارة، تعمل على الاستفادة من جميع مكوناتها من طاقات وفاعلين مهما اختلفوا في بعض القضايا والأطروحات، ومهما اختلفت الفروق الفردية بينهم، كما أن من وعي هذه المجتمعات أن تجعل معالجة القضايا الشائكة المختلف فيها وفق اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد يتحول إلى عداء واعتداء وإقصاء.
يعد المفكر الإسلامي العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة من السباقين إلى المعالجات الشاملة والرزينة والموضوعية للقضايا المجتمعية المعروضة في بورصة الأفكار والمطارحات المجتمعية، ويعد موضوع المساواة أحد تلك المواضيع التي عرفت أخدا وردا في الساحة المغربية، وقد عالج العلامة الموضوع من خلال كتابين اثنين: أما الكتاب الأول فسماه « المساواة في البعدين الوضعي والشرعي » والذي كتبه سنة 2003، وأما الكتاب الثاني فهو من ضمن سلسلة الكتب التي نشرت له مطلع سنة 2019 وعنوانه: « عن المساواة المؤسسة للامساواة ».
وبدمج لهذين الكتابين يمكن أن نحصل على عصير حلو من الأفكار التي تضمناها حول موضوع المساواة نذكرها كما يلي:
بشكل موسوعي يذكر العلامة مصطفى بن حمزة مفهوم المساواة عند العديد من المفكرين الغربيين من أمثال أفلاطون وأرسطو وروسو وفولتير، وفي المواثيق الدولية مثل وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية والأمريكية وفي بعض دساتير الدول الغربية كالدستور الفرنسي الذي جاء بعد ثورة للمناداة بالمساواة وكذا الثورة الشيوعية التي قدمت نفسها كضامنة للمساواة بين الناس.
ليقول بأن التاريخ قد كشف زيف تلك الادعاءات لأن قيمتي الحرية والمساواة اللتين تم التسويق لهما، لم تكونا قارتين متجذرتين في نفوس المطالبين بهما. وقد تبدى زيفها (الادعاءات) من خلال أحداث كثيرة منها استباحة حكومة روبسبيير لأرواح آلاف الفرنسيين، وكانت أحكام محاكم الثورة الفرنسية بين حكمين اثنين: إما البراءة أو الإعدام. وما فعله نابليون أثناء غزوه لمصر حيث أمطر بلاد الشرق بوابل من قذائف المدفعية، وألقى بالزعماء الوطنيين من فوق الأسوار، وقتل سليمان الحلبي في مصر بطريقة بشعة حيث أُدْخِلَ الخازوق فيه وأحرق حيا.
وأما ما فعله الاستعمار الغربي في الكثير من البلاد العربية وغير العربية من استباحة للأرواح واحتلال للأرض وسلب للخيرات فيكذب ادعاءه الإيمان بالمساواة والحرية.
وبذلك يكون هؤلاء قد طبقوا مفهوم ماكس شلر للمساواة، الذي كان يرى أن المطالبة بالمساواة إن هي إلا ذريعة وهدف للذين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى المستوى الاجتماعي إلا من خلال إثارتها.
ثم إن العلامة في معرض حديثه عن المساواة، فهو لا ينفي بأنها مطلب إنساني نبيل من شأنه أن يحقق كرامة الإنسان وآدميته لكونها السبيل إلى العدل بين الناس ووسيلته، ولكن ما يرفضه هو القفز على معناها الحقيقي الذي يسعد به الناس إلى إلغاء أحكام شرعية قطعية الثبوت والدلالة ولها امتداد واحترام في وجدان الناس وضمائرهم.
كما يلفت أنظارنا إلى أن العصر الذي يتحدث فيه البعض عن المساواة هو نفسه العصر الذي يعرف أكبر وأفحش صور اللامساواة دوليا وإقليميا ومحليا، من ذلك حجز خمس دول لنفسها، دون بقية دول العالم، حق العضوية الدائمة في مجلس الأمن، ودون أن تشعر بحرج من جراء هذه اللامساواة الفاضحة. وعلى مستويات الأجور، فإن الفرق بينها ليس في حاجة إلى تأكيد، حيث إن الفرق بين أجر وأجر في وظيفة عمومية قد يكون مضاعفا بنسبة 16 مرة. وفي القطاع الخاص فالتفاوت يعرف مداه. أما على مستوى الاختلالات المجالية، فالمعروف أن المدن والجهات المحورية تستحوذ على نسبة عالية من الرواج الاقتصادي ومن الثروة الوطنية ومن الاستفادة من البنى التحتية.
ويخلص الدكتور بن حمزة إلى أن المطالبة بالمساواة كان ينبغي أن تطال مثل هذه الأمور حتى يسعد الجميع وتتحقق العدالة الاجتماعية، ولكن عوضا عن ذلك راح البعض يطالب بالمساواة ويصر عليها في أمور ذات صلة بالهوية والكينونة والدين مثل قضايا الإرث والأسرة.
وفيما يخص الإرث، الذي كثر الكلام حوله، مثلا، يُذَكر العلامة بأن القوانين في المجتمعات غير الإسلامية تقر بحق صاحب المال في أن يخص فردا من أسرته بكل ما يملك، وذلك بأن يحرر وصية تحتم بعد وفاته، ولا يكون للورثة الاعتراض باسم المساواة ولا غيرها. وقد أصبحت بعض المحاكم تتلقى شكاوى بعض الوارثين الذين حرموا دون إخوتهم. والقانون مع ذلك لا ينتصر لهم بدعوى تحقيق المساواة، وإنما ينطلق من حرية صاحب الملك في أن يتصرف في ماله كيف يشاء.
ثم بعد ذلك، يقدم العلامة رؤية الإسلام للمساواة فيبدأ بالتأكيد على أنها أصل مكين وراسخ في الشريعة الإسلامية، وهي خصيصة من خصائص النظام الاجتماعي فيه. حيث شكل نداء الإسلام بالمساواة ثورة على ما ساد قبله حيث كانت اللامساواة مستحكمة بقوة العرف والقانون. ولذا كان من أول من عانق الإسلام وسارع إليه مهضومو الحقوق والعبيد والموالي الذين اكتووا بنار الطبقية والتفاوت. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على المطالبة بالحرية وتدوينها في عقد المكاتبة مثلما فعل مع سلمان الفارسي، حتى يتمتع الناس بالحرية ويلتحقوا بالمستوى الذي يليق بآدميتهم وما أراده الله لهم من كرامة. ومن نتائج هذه المساواة التي نادى بها الإسلام أن يتساوى الحاكم والمحكوم دون أن يجد رئيس الدولة نفسُهُ حرجا في الوقوف مع أي مواطن عادي أمام القضاء. وهو الأمر الذي لا يوجد له مثيل في جميع النظم السياسية.
كما يذكر العلامة بأن المساواة تعد أحد أهم الدوافع التي دفعت بالشعوب الأخرى إلى اعتناق الإسلام كما هو الشأن بالنسبة للسود في أمريكا وإفريقيا الذين دخلوا في الإسلام عن طريق إعجابهم بما فيه من تسوية بين البشر ولشجبه للتصنيفات العنصرية البغيضة.
وحتى ييسر العلامة على الباحثين والقراء سبل البحث فيما ذهب إليه الإسلام في مسألة المساواة، راح يذكر العديد من الكتب والمصنفات التي تناولت الموضوع بشكل علمي جاد وصارم منها: كتاب « الحرية في الإسلام » للشيخ محمد الخضر حسين، وكتاب « مقاصد الشريعة، و »أصول النظام الاجتماعي في الإسلام » للشيخ محمد الطاهر بن عاشور خصوصا منه مبحث المساواة الذي تناول فيه التعريف بالمساواة وموانعها في الصفحة 134. وكتاب « المساواة في الإسلام » للد. علي عبد الواحد وافي. وطبعا يعد كتاب المفكر الإسلامي العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة الذي بين أيدينا كتابا جامعا في ذلك.
إن جوهر ما يلفت العلامة نظرنا إليه في خضم حديثه عن المساواة هو أن المساواة إذا كانت تسعى لتحقيق العدل، فمن مقتضى العدل مراعاة الفروق والتمايزات الذاتية بين الأفراد واختلاف الكفاءات والقدرات وعناصر التفوق بين الناس، ومراعاة الوضعيات الجسدية لدوي الاحتياجات الخاصة المحرومين من الكثير من الوظائف التي تتوفر للمبصرين، وهو الأمر الذي لم يفت الفلاسفة من غير المسلمين أن ينبهوا إليه كأرسطو وفولتير على سبيل المثال، فمراعاة الفروق الفردية ضرورة حتمية لتحقيق العدل وإلا كانت القوانين ظالمة للرجل حين مَكَّنَ المرأةَ من رخص إدارية بسبب الولادة والتي تحدد في 98 يوما حسب قانون الشغل المغربي، وفي الحق في نصف ساعة صباحا ومثلها في المساء من أجل الإرضاع إلى أن يبلغ الطفل سنة كاملة. ومن قبيل الاستعمال السيء لمبدأ المساواة أن يطالب الرجل بحقه هو أيضا في عطلة الولادة، لأن عطلة المرأة فرضتها خصوصيتها وظرفها. أما إذا طالب الرجل بعطلة مقابل عطلة زوجته المرضع بدعوى المساواة فإنه يستغل مبدأ المساواة من أجل نهب المال العام بطريقة لا يعترض عليها دعاة المساواة.
وقياسا على هذا المثال، يذكر العلامة العديد من الحالات التي تختلف فيها القوانين حسب الجنس منها وجود قوانين أخرى للتقاعد من الشغل، وفي قوانين الرياضات حيث يجري التمييز بين الرجال والنساء، كما أن المرأة لا تندفع طواعية إلى الاشتغال في مناجم الفحم والمعادن، أو أوراش تكسير الحجارة وتعبيد الطرقات. كما يرى أنه من الغريب أن أولائك الذين ينادون بالمساواة بين المرأة والرجل هم من يطالبون بأن يكون للنساء وضع استثنائي ومميز في الانتخابات فيوجبون فصل لوائح النساء عن لوائح الرجال، ويفرضون حدا أدنى من المقاعد النيابية لتناله النساء بعيدا عن إرادة الناخبين ومشيئتهم، وعما تقتضيه الديموقراطية التي لا تمنح أحدا إلا ما أفرزته الصناديق.
يتبع
Aucun commentaire