توجيهات تربوية للآباء في تربية الأبناء -3-
أحمد الجبلي
لقد كان آخر ما تحدثنا عنه في حلقة سابقة هو حديثنا عن إصدار الأحكام والتحقيق والضرب الذي هي وظيفة الجلادين، وإذا كانت هذه الأوصاف المشينة التي تكرس التبعية والضعف والخنوع وظائف لصيقة بمؤسسات لها تاريخها في تكريس الإجرام والقمع والتعذيب. فإن وظيفة المربي أسمى وأجل من أن تتشبه بما يتقاطع مع الحكمة والوعي والحوار، ويتقاطع مع الحب والرحمة والدفع بالتي هي أحسن وأجدى وأنفع. فأهم وظيفة يتحلى بها المربي وهي مقدمة المقدمات، هي التصرف والتعامل مع الأبناء بعقلية المربي لا بعقلية القاضي أو المحقق أو الجلاد. فما معنى التعامل بعقلية المربي إذن؟
معنى ذلك أن أي رد فعل يصدر عنك تجاه أي سلوك مزعج من أبنائك يجب أن يكون متزنا ويبتغى منه فعل تربوي يعالج ويبني لا يهدم ويحطم. ومن أجل ذلك نطرح على الآباء اتباع الخطوات التالية في نسق التعامل بعقلية المربي.
أ- تجاوز عن أخطائهم:
إن الوقوف عند كل فعل أو سلوك مزعج يصدر عن أبنائنا، قد يؤدي إلى نتائج سلبية. خصوصا وأن الأطفال بارعون في اصطياد نقط الضعف لدى الوالدين. فكثير من سلوكات أبنائنا تحتاج منا إلى أن نتجاهلها وألا نقف عندها لألا تترتب عن تدخلنا نتائج عكسية وخيمة. فالطفل يعتمد أحيانا اللعب على أوتارنا، ويحب أن يستفزنا. فيكون الحل في هذه الحالة هو التجاهل لكونه الأسلوب الأمثل في مواجهة تصرفات الطفل، وبخاصة عندما يكون عمر الطفل في سنواته الأولى حيث يميل الطفل إلى جذب الانتباه واستفزاز الوالدين والإخوة، فلا بد عنده من التجاهل، لأن إثارة الضجة قد تؤدي إلى تشبته بذلك الخطإ، وبالتالي برمجة السلوك حسب التوقيت المحرج. ولذا كما يقول الكثير ممن خبروا المراحل الأولى من حياة الطفل من خبراء وأطباء، إن بكاء الطفل في وقت متأخر من الليل إذا قام الوالدان بردة فعل تجاهه ونالهما توتر وانزعاج فإن هذا الطفل، وإن كان رضيعا، فإنه قادر على برمجة سلوكه وتكراره في نفس التوقيت لمزيد من إثارة غضب الآباء وتوترهم. ولهذا فالتعامل المتزن والمتفهم لسلوك الطفل هو العلاج الأمثل لمثل هذا السلوك. ولعل الكثير من الآباء يستغربون من تصرفات أبنائهم عندما يحل على الأسرة ضيوف. فيتنكر الآباء لسلوكيات غريبة تبدر من أبنائهم. وكأن هؤلاء الأبناء ليسوا أبناءهم..إن هذه السلوكيات الغريبة التي يقوم بها الأبناء قبالة الضيوف وذكرهم لأي شيء يكرهه الآباء لهو عبارة عن ضريبة يدفعها الآباء مقابل سلوكيات وردات فعل ضد تصرفات قديمة بدرت من أبنائهم. فكلما تعصب الأب أو الأم ضد سلوك أو فعل صادر عن الابن إلا وكان مبعث سرور لدى الطفل لأنه سيعمل على استغلاله في الوقت المناسب.
فالتجاوز عن الأخطاء أصبح في هذا العصر استراتيجية علمية معتمدة في علم التربية والنفس والاجتماع، والدراسات تثبت أن ردود الفعل تجاه الخطأ لن تغير من الأمر شيئا وربما أدت إلى استفحال الوضع وأخذ الطفل بالعزة بالخطأ، ولذا فتجاهله يثمر ويؤثر إيجابيا سواء مع الكبار أو مع الصغار. لقد ظل الآباء يصرخون ويتوقفون عند الشاذة والفاذة من سلوكيات أبنائهم ولكن دائما دون نتيجة، وكأن ما قاموا به من صراخ وعويل وشتم وضرب ما هو إلا هدر للطاقات وحرق الأعصاب.
ولعل هذا هو الذي حذا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعتمد استراتيجية التجاوز عن الأخطاء في تعامله مع أصحابه ومع الأطفال تحديدا، ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال: « أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟ فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله ». لم يكن هناك أي شيء يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغضب أو يضرب أو يشتم أو يفعل أي شيء، وإنما بصفته قدوة لنا فهو يرشدنا إلى التجاوز عن الأخطاء، وحسن التوجيه هو الذي أدى بأنس بن مالك كي يصبح من كبار العلماء الذين أخذ عنهم العلم أكثر من مائتي رجل ومن أبنائه وأحفاده علماء ورواة حديث.
1 Comment
أستاذي الفاضل أحمد ، كامل الشكر لكم على هذه المواضيع القيمة التي تصب في اتجاه تربية الأطفال التربية الصحيحة التي ستنعكس على مستقبل الأولاد والذين سيسرون لا محالة على نفس النهج مع أطفالهم بعد تكوين أسرة عندما يصرون كبارا قادرين على تحمل المسؤولية ، ليجد الآباء أنفسهم أجدادا لأحفاد إن طالت الأعمار بتربية صالحة وقدوة للآخرين …
وفي تعليقي اليوم ، أبدء من النهاية أي نهاية المقال لأقول أين نحن من تربية أنس بن ملك رضي الله عنه ؟ ، الذي تتلمذ على يد رسول الله صل الله عليه وسلم والذي قيل عنه أنه كان قرآنا يمشي على الأرض . وإذا فتحنا كتب السيرة النبوية العطرة نجد أن لرسول الله صل الله عليه وسلم معاملة خاصة مع الأطفال كصاحب العصفور . وكيف كانت معاملته صل الله عليه وسلم مع أحفاده أبناء الطاهرة الزكية سيدتي لالة فاطمة الزهراء ، عندما كانا يركبان على ظهره الشريف أثناء سجوده في الصلاة و كان يطيل السجدة من أجلهما ، بأبي وأمي وابنتي أنت يا سيدي يا رسول الله . فكان قلبه كله رحمة وعطف على الأطفال . ومعاملته صل الله عليه وسلم مع ابن جاره اليهودي عندما مرض وغاب عن الحي وزيارته صل الله عليه وسلم له بمرقده …
أما عن الحركة التي يقوم بها الأطفال أثناء حضور الضيوف فهي حركة تكون نتيجة الحرية التي يحصلون عليها أثناء تواجد الضيوف كالإفلات المؤقت من العقاب . فلا يمكن أن يتحول المنزل الى عقاب و بكاء نتيجة الأخطاء المرتكبة أثناء حضورهم ، وربما يؤجل الى وقت لاحق بعد خروج الضيوف . وهذا لا يحد من تكرار العملية بحضورهم مرة أخرى لأن الأطفال سرعان ما ينسوا ويكرروا نفس الشئ مرة أخرى وبحضور الضيوف ، مما يتسبب حرج للعائلة المجتمعة ، رغم تكرار العقوبة …
هكذا طليت على الجزء الثالث وأتمنى لكم الاستمرارية في العطاء .
والسلام عليكم .
– عكاشة ابو حفصة