مدرسة الإجرام
منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع مقولة » السجن مدرسة تربي المجرمين ليتخرجوا مواطنين صالحين » وفي نفس الوقت سمعنا مقولة » كم في السجن من مظلومين »
فالظلم أوالحكم بالعدل لإدخال إنسان ما للسجن له علاقة وطيدة بمصداقية القضاء الذي يتولى الحكم في قضايا الناس. فإن كان هذا القضاء متميزا بالظلم والجور والحيف والميل مع كفة المصالح المادية والجاه و » باك صاحبي وصاني عليك » فإن الظالم أو المجرم لن يمكث ولو ليلة واحدة بين القضبان وسيتجول بين الناس ليستمر تهديد حياتهم في كل وقت..لأن إطلاق صراح مجرم خطير هو تهديد مباشر لأمن المواطنين وسلامتهم. وهذا ما وقع لجاري المسكين ذي الخلق القويم والسيرة الطيبة الحسنة..حيث اعترض طريقه رجل ضخم وله سوابق إذ سبق له وأن أزهق روحا وقتل نفسا..اعترض طريقه ونزل عليه بالضرب واللكم ..وعندما رأته زوجته المسكينة نادت لولده كي يتدخل عساه ينقذ أباه من براثن هذا الوحش المفترس..وبمجرد أن تدخل الابن حتى تلقى طعنة بخنجر في صدره نقل على إثرها للمستشفى. و قد تم القبض على هذا المجرم الخطير الذي ألف التجوال في الحي بخنجره مهددا أمن واستقرار المواطنين ومدخلا الرعب في قلوب الصغار والكبار النساء والرجال. واطمأن الناس وتنفسوا الصعداء وشعروا بنوع من الفرحة والطمأنينة وحمدوا الله تعالى وشكروه على هذه النعمة نعمة الأمن التي لا تقدر بثمن. ولكن كم كانت دهشتهم كبيرة إلى درجة عدم التصديق عندما علموا بإطلاق سراحه فورا ورأوه من جديد يتجول في الحي » على عينك يا بن عدي » وهو الشيء الذي لم يستطع فهمه أحد..مما دفع دفعا بالكثير من رجال الحي لحمل العصي القوية في رابعة النهار إذا أراد أحدهم أن يأتي لمسجد الحي من أجل أداء الفريضة.
وانطلقت هستريا النصح فيما بينهم بالحرص على صناعة عصى غليظة ووضعها مباشرة خلف الباب لأن » هاذ الزمان ما بقاش كيعجب »
هذا، عندما يتم البيع والشراء في قضايا المواطنين لتبرئة المجرمين وإطلاق سراحهم على مرأى ومسمع الجميع. وفي الضفة الأخرى يتم لي عنق البريء وإلباسه لباس المجرمين ليقضي نصف حياته بين القضبان. ولو قمنا بإحصاء عدد المظلومين الذين دخلوا السجون وهم من الأفعال المنسوبة إليهم براء، وقمنا بإحصاء المذنبين لوجدنا أن عدد المظلومين أكثر بكثير..وكم هي كثيرة تلك القضايا عبر العالم التي بعد مرور سنين عددا فقط تم كشف الغطاء وإجلاء الملابسات التي تكشف الحقيقة وتثبت بأن الذي حكم عليه بالسجن لمدة ثلاثين أو عشرين سنة هو بريء براءة الذئب من دم يوسف، ولكن فات الأوان ولا يمكن تعويض سنين مرت من عمر الإنسان في غياهب السجون. ولن تكفي التعويضات المالية مهما كانت من أن تنسي ذاك المظلوم مرارة الشعور بأنك تؤذي ثمن شيء لم ترتكبه.
ومن هنا تتضح أهمية نزاهة القضاء، والتدقيق في القضايا والتحقق من الإثباتات والأدلة والقرائن لأن الأمر لا يمكن تصور بشاعته حينما يتم الحكم ظلما. فنفسية المذنب وهو يقضي مدة معينة في السجن نفسية مستقرة لشعوره بأنه يؤدي ثمن ما اكتسبت يداه. ولكن نفسية المظلوم لا يمكن وصفها أو معرفتها إلا إذا تذوقنا مرارة الشعور بالظلم. ولكن الأمر لا يقف هنا. أي لا يقف عند ألم الشعور بأنك تؤذي ثمن جريمة لم تقترفها، وذنب لم ترتكبه.
ولكن الأخطر من كل ذلك هو ما أوضحته بعض البحوث العلمية عندما يتعلق بأناس دخلوا السجن وهم أطهار وشرفاء. فيتم جمعهم مع المذنب العريق الذي تعددت انحرافاته، ولم يعد دخوله السجن أمرا جديدا في حياته فمثل هذا الشخص يشكل خطرا كبيرا على الإنسان البريء وحتى على الإنسان الذي أذنب لأول مرة وربما كان ذنبه عفويا، غير مقصود، فيصطدم هذا الإنسان عند دخوله السجن في كثير من الأحيان بنماذج عريقة في الإجرام ، فيتراءى له أن السجن قد تحول إلى معهد إجرامي من الدرجة الأولى ، فيه يتلقى الصغار فنون الإجرام على يد المنحرفين الكبار .. والمؤسف – كما تبين البحوث الاجتماعية – أنه قلما يستطيع أحد خريجيه من النزلاء أن يفلت من نسيج العنكبوت الانحرافي الذي يحيط به من خلال فترة عقوبته ومن ثم يتردى إلى عالم الجريمة والانحراف الاجتماعي.هذا إذا غضينا الطرف عما يمكن أن يخلف الشعور بالظلم من حقد على المجتمع والشعور بضرورة الانتقام منه ومن كل من ساهموا في حبك القضية لإبعاده عن أحب الناس إليه من أبناء وزوجة وأقارب والحكم عليه بالمكوث في ظلمة السجن بين مجرمين محترفين.
Aucun commentaire