عندما يُكتَب التاريخ بأيدي غيرنا
أحمد الجبلي
في سنة 1982 عمدت وزارة التربية والتعليم اليابانية إلى محاولة لإعادة كتابة التاريخ بهدف تبرئة اليابان من فظائع ارتكبتها قواتها منذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية في حق الصين. وذلك حتى لا يعتقد الأطفال اليابانيون أن أجدادهم لا يستحقون الاحترام نتيجة ما ارتكبوه من أفعال أقل ما يقال عنها، تلطفا، أنها سيئة.
فجاء رد الفعل سريعا من هناك، حيث أبدت الصين اعتراضها فأطلقت العنان لوسائل الإعلام للإعادة نشر الصور البشعة التي تؤكد أن ما وقع في حق الصينيين من إجرام ومجازر وقتل إنما هي حقائق تاريخية ثابتة ولا يمكن المساس بها.
إن هذا الموقف الصارم من طرف الصين الذي يؤكد على حرمة التاريخ يدفعنا دفعا لنتحدث عن تاريخ أمتنا الإسلامية الذي كتب بأيدي غيرها، ولا زالت أمتنا حتى في مناهجها الدراسية تُعلم أبناءها مقاطع من تاريخها المشوه دون خجل، إذ لا زالت تعلم أبناءها أن دولة الخلافة الإسلامية في عهد العثمانيين كانت دولة استعمارية محتلة وأن الخليفة العثماني هو سفاح ودكتاتور ظالم، وأن طارق بن زياد أحرق السفن تماما كما تروي صفحات التاريخ الغربي الصليبي الذي لم يجد مبررا لانتصار 12 ألف مسلم على 100 ألف جندي بقيادة أعتى ملوك أوربا، سوى اختراع أحجية حرق السفن التي لم تترك للمسلمين خيارا آخر غير الاندفاع نحو العدو وإلا كانوا فروا كالجبناء. والغريب في الأمر أن هذه الحادثة الغريبة لا وجود لها في كتب المسلمين ولو وقعت لوجدنا ردود أفعال العلماء واضحة ولما سكت الأمير الوليد بن عبد الملك ولا موسى بن نصير، ثم كيف لطارق بن زياد أن يحرق سفنا جلها ليست في ملكه بل هي في ملك لوليان حاكم سبتة سلمت له هي والميناء في إطار اتفاقية محددة، وأخيرا أليس التولي يوم الزحف من الكبائر، فكيف يصل الغباء إذن بواضعي المقررات الدراسية بأن يضعوا مثل هذه الأكذوبة في مقررات دراسية كي يطلع عليها أطفال الأمة الإسلامية أمة إحدى الحسنيين، فأمتنا في المعارك الواضحة الشرعية إما تنتصر أو تموت، فما عرفت الفرار أبدا، أما فرار مؤتة فلقد كان كرا بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحق لي وأنا أتحدث عن جزء بسيط من تاريخ أمتنا في الأندلس أن أذكر عالما فذا ورجلا من الرجالات الكبار في أمتنا ممن تعاطوا مع التاريخ بمنهج البحث الصارم والتقصي والغربلة والتنقيح والتدقيق والتحقيق، ألا وهو الدكتور عبد الله عنان رحمه الله الذي توفي سنة 2011، هذا الرجل الذي لم يترك مخطوطا، سواء كتبه مؤرخون مسلمون أم غربيون، إلا وقرأه، حيث مكث الرجل خمسا وعشرين وسنة وهو يؤلف كتابه التي عنونه بدولة الإسلام في الأندلس، فأخرجه في ثمانية أجزاء، وقد اعتمد على منهج تحليلي مقارن، بعدما مكث في المغرب أزيد من أربع سنوات متنقلا بين المكتبة الوطنية في الرباط وجامعة القرويين، و في جولات عدة زار إسبانيا وألمانيا وفرنسا وانجلترا بحثا عن كل مخطوط يمكن أن يفيده في ضبط وتصحيح تاريخ التواجد الإسلامي في الأندلس وما ساعده في ذلك أنه كان يتقن خمس لغات.
إن هذا الرجل لا يتحدث عنه أحد في مقرراتنا الدراسية خصوصا تلك التي تتحدث عن المعارك الضارية التي وقعت بين دولة المغرب وأوربا، أما من حيث الأرقام فهي تحضى بالتشويه الأكبر سواء في عدد الجنود أو القتلى أو الأسرى تمويها حتى يسجل التاريخ ما يتركه الغربيون من ماء الوجه لأبنائهم وأجيالهم القادمة.
وبما أن الغرب يمتلك وسائل متطورة، استطاع أن يقوم بتوظيف أخطر سلاح يعمل ولايزال على تشويه التاريخ وهو السينما، ففيلم « دراكولا » الشهير ما هو إلا نموذج واحد من التشويه الخطير الذي تعرضت له الخلافة العثمانية ولذلك ليس غريبا أن يحضى بعدة جوائز أوسكار، وأفلام القرصان » بارباروسا » ذاك القبطان ذو الرجل المقطوعة واللحية الحمراء، في حقيقته هو البطل الاسلامي خير الدين بارباروسا الذي كان أشهر بحري في أوربا كلها والذي بمجرد أن يذكر اسمه ترتعد فرائس الأوربيين والصليبيين تحديدا، هذا الرجل الألباني الأم والتركي الأب الشهيد الذي استطاع أن يخترق كل سفن الصليبيين التي كانت تقوم بحراسة البحر الأبيض المتوسط ليقوم بإنقاذ عشرات المائات من المسلمين من آلات الموت بمحاكم التفتيش الإسبانية ويقوم بتهريبها إلى الجزائر. وها هي بلادنا الإسلامية تستورد أفلام القرصان الصعلوك بارباروسا وهي تنتشي بمشاهدتها في الوقت الذي هي غافلة تساهم في تشويه رجل مجاهد عظيم كتب بدمه ملحمات النصر ضد الصليبيين مصاصي دماء المسلمين. أما عن أفلام الزومبي التي صارت شهيرة وتُدخل الملايير من الدولارات في جيوب المنتجين الغربيين فما هي إلا تشويه لملك البرازيل المسلم المجاهد الكبير جنجا زومبي الذي حرر العبيد من قبضة البرتغاليين الذين شنوا عليه حربا أسموها » حرب الصليب » لأنهم كانوا يواجهون مسلمين سود استوردوهم من إفريقيا من أجل الاستعباد والخدمة.
ومن المضحك المبكي أن تقوم إحدى الحكومات العربية وهي حكومة اليمن السعيد، أواسط السبعينات، بطلب إلى أكاديمية الاتحاد السوفياتي بكتابة تاريخ اليمن من العهد الحجري إلى حدود العصر الحالي. وفي سنة 1982 فرغ المستشرقون الروس في كل من موسكو ولينينغراد من إعداد أربعة مجلدات ضخمة عن تاريخ اليمن، وطبعا استعانت بها اليمن في مقرراتها الدراسية حتى يعلم أطفالها تاريخهم الذي كتبه الدب الروسي.
ومن المفارقات العجيبة أن في نفس السنة كان المستشرقون الروس قد كتبوا قاموسا للجيب أشرف عليه أساتذة من جامعة موسكو جاء فيه في شرح مادة الصلاة: الصلاة شكل من أشكال السحر، الإسلام: يحول أتباعه إلى عبيد، وبه كثير من المغالطات الخطيرة التي تشوه المصطلحات الإسلامية كما تشوه معالم الحضارة الإسلامية. ومثل ذلك وقع في بلادنا المغرب حيث كُتب منجد الطلاب من طرف غيرنا، وقد انتشر هذا الكتاب بين طلاب العلم كالنار في الهشيم، إلى أن قيد الله له عالما جليلا هو سيدي عبد الله كنون نموذج العالم الفطن والغربال الذي يصد كل دخيل، ففحصه فحص الطبيب للعلل، وإذا به يستخرج منه أزيد من 1400 خطإ، منها حتى تتبين خطورة الأمر شرح المنجد لكلمة العذراء: « والدة الإلاه المنجد ». فلتتأمل السموم التي تأتينا عندما نستهلك الكتب التي كتبت من طرف غيرنا دون أن نصوب أخطاءها ونميز غثها وسمينها.
وهذه الأمثلة تدل على أن التاريخ عندما يكتب بأيدي أهله فهم يتناولونه وفق معطياتهم العقدية والفكرية والثقافية والحضارية، وبعد ذلك إذا اطلعت عليه الأجيال ستكون الأمة مطمئنة بأنها تربط الخلف بالسلف، وحق لهذا الخلف حينها أن يفخر بتاريخ أجداده، لا كما سيقع لليابانيين الصغار عندما سيقرؤون أن أجدادهم كانوا مصاصي دماء وقتلة لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا من جيرانهم الصينيين.
Aucun commentaire