الخميس الأسود، وظلال الفـاجعـة..
إن المرء ليقف مَشدوها و مُحتارا فعلا أمام ما يرى من مهازل وانتكاسات في مجال الحريات بالمغرب ، ما يدفعه إلى الشك في نوايا هؤلاء وهؤلاء من « الحاكمين والمتحكمين » في الشأن العام بالبلاد، و مراميهم المعلنة والخفية.. هل يسعون فعلا إلى حماية الوطن من خطر يتهدده ، أم هم بِرُعونتهم وصَلَفهم ـ الذي تجاوز كل الحدود ـ هم الذين يُشكلون أول خطر يتهدد هذا الوطن بمن فيه ..!
لقد اصبح تعنيف الأساتذة المتدربين من قبل أجهزة القمع المغربية حديث العالم كله، في شكل أعـاد إلى الأذهان أياما عصيبة اعتقد المغاربة أنها قد ولت وأضحت من الماضي ، حين كانت لغة الرصاص والقمع هي العليا ، ولغة الحوار والإنصات هي الدنيـا .. بل إن هذا التعنيف المتكرر اليوم ، أصبح معـتادا و متأصلا في سياسة حكومة السيد بنكيران ومن معه ، بدء من تظاهرات المُمرضين والأطباء ومرورا بالمكفوفين و حملة الشواهد من الدكاترة وأساتذة الزنزانة 9 وغيرهم كثير..
غير أن زلّة يوم الخميس الأسود كانت لها تداعيات خطيرة على صورة المغرب أمام العالم ، فقـد مسّت في العمق بجوهر التجربة الديمقراطية المغربية ، و التميز المغربي في التناوب السلمي على السلطة ، ما يضرب أيضا في مصداقية العملية الانتخابية السابقة و المستقبلية ، مادامت الحكومة التي انتخبها الشعب هي أول من يعنف ابناءه ، ويحاربه في عيشه ومعاشه ، مما سيهدد مستقبلا أمنه واستقراره واطمئنانـه..
كان يمكن أن يكون لنا رأي آخر لو أن الحكومة في شخص أي كان من مكوناتها ، طلعت علينا وتبرأت من ذلك ، ودعت إلى فتح تحقيق موضوعي ورصين في الواقعة ، من أجل الوقوف على حيثيات النازلة ، وتحديد المسؤوليات ، ومن ثم متابعة الجناة في حق الوطن و أبناء هذا الوطن ..لكن مع الأسف ، وفي خرجة بئيسـة، تذكرنا بطلعات حكومات الرصاص أيام البصري و من كان معه ، طلع علينا السيد وزير الداخلية بتصريح سمج لا يمت إلى الواقع بصلة ، محمِّـلا مسؤولية كل ما جرى إلى الضحية ، مُدعيا أن هؤلاء (الأساتذة المتدربون) تظاهـروا من دون إذن مسبق من السلطات المختصة ، وهذا عذر أقبح من زلة كما يقال، لأن التظاهر بدون ترخيص في القانون المغربي ، يوجب الاعتقال والمحاكمة ، وليس التعنيف وتهشيم الرؤوس والسّحل في الشارع العام.. ثم متى كان المُدّعَى عليه يتكرم و يمنحُ للمُدعي رخصةَ الاحتجاج والتصريح بالتظاهر ، وخاصة أن أحدهما لايزال يُنازع الآخر في حق لا يزال شـدّ الحبل حوله قائمـا ؟؟ وهنا نود أن نُسائل السيد رئيس الحكومة ووزيره في العدل ووزير اتصاله : هل كنتم يا سيادة الرئيس ، تتظاهرون بترخيص من السلطات ، أيام كنتم في المعارضة ، وكنتم مُطاردين من هـذا الوقع إلى ذاك ، وهل كانت مبررات تظاهركم أكثر إلحاحا و إقناعـا من مبررات هؤلاء المتظاهرين اليوم ؟؟ أم هي السياسة والمصالح والامتيازات ونعمة الاستوزار تقلب المفاهيم وتغير المبادئ والقناعات ؟.
الأدهى من ذلك ، ما صرح به أحد المحسوبين على التوليفة الحكومية الهجينة ، بأن قوات القمع كانت مضطرة للتدخل قبل وقوع ما هو أسوء ، ذلــك أن الأساتذة المُتدربين كانوا يَنوون التوجه إلى الثانويات لتحريض التلاميذ على تعطيل الدراسة ،والخروج إلى الشارع . وهذا ـ أيضا ـ كلام مردود عليه ، لأنه لا يمكن أن يُحاسب الناس على نواياهـم ، بل على أفعالـهم المقترنة بقرائن ملموسة ، وفق ما تقرّه كل الشرائع الدولية ..
ومهما يكن من أمر، فإنه لا يوجد ما يبرر ما أقدمت عليه قوات القمع ، من تنكيل برجال ونساء الغد الذين هم بمثابة منارات للتربية والعلم و المعرفة .. أليسوا هم أساتذة أبناء وبنات الغد ، في مغرب الغـد ، الذي نسعى جميعـنا إلى جعله أكثر ابتهاجا ووردية ، و أكثر اتساعا ليضـم الجميع ؟؟ .. لا مبرر أخلاقي ولا قانوني ولا إنساني لما أقدمت عليه قوات القمع .. وما دام السادة الوزراء المحترمون يتحدثون لغة القانون ، فإننا نذكرهم بمقتضيات الفصل 22 من الدستور المغربي الذي يؤكد على ما يلي:
» ــ لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص و في أي ظرف، ومن أي جهة كانت خاصة أو عامة .
ــ لا يجوز لأحد أن يعامل الغير تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مُهينة أو حاطّـة بالكرامة الانسانية.
ــ ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون « .
فمن الذي يجب أن يُحاسَب على تعطيله المتعمد للدستور، و العمل على خرق القانون ؟
و من يهدد السلامة الجسدية والنفسية و الاجتماعية للمغاربة اليوم ؟
و من يشوه سمعة المغرب دوليا ، ويعطي خصومه ورقة مجانية للتطاول على سيادته ، ويفتح لهم مجالا أرحب للمناورة على وحدتـه الترابية ، والتشكيك في تميز تجربتـه الفتية ؟
ألا يعتبر هذا السلوك الأَرْعَـن سلوكا غير محسوب العواقب ، و تصرفا مُعاديا لمصالح البلاد العليـا ؟
في مصلحة من زرع الفتنـة وضرب الاستقرار بالبـلاد؟
ألا يُـهدد هذا السلوك الشاذ ، السِّلم الاجتماعي الذي ما فتأ المغاربة بكل أطيافهم يبنونه بكثير من الصبر على حساب راحتهم ومستوى معيشتهم ؟
ثم ، من له المصلحة في إحداث كل هذه الخسائر ، ومن له المصلحة في جعل المغرب ككيان يدفع ثمنها من سمعته وثقة العالم في حكامة نخبته ، و رشد تجربته الديمقراطية ، مما سينعكس على زخم الاستثمارات الاقتصادية وثقة أصحابها في أجواء الاستقرار والسلـم الاجتماعي بالمغرب؟
وأخيرا ، ما موقع السيد رئيس الحكومة في هذا المشهد ؟؟ .. إن كان هو الذي أمر بتعنيف المتظاهرين، فهو المسؤول أمام القانون ،وأمام المغاربة الذين قدّموه ليحكم باسمهم ، ويحمي وجودهم وأمنهـم المادي و المعنوي ، وليس ليحطم أحلام أبنائهم، ويهشم رؤوسهـم على مرأى ومسمع من أولياء أمورهم.. وإن لم يكن هو الآمـر بذلك ، فلننظر في من الآمر الناهي في البلاد من وراء حجاب ، وهذا يعني أن السيد بنكيران هو مجرد طيف هُلامي ، يتشكل حسب رغبة صاحب القرار الحقيقي ، » الذي يأكل بفمه الشوك « ، ما يقول المغاربة ، وهذه هي الطامّة الكبـرى .. ولنترحم على الحكومة، ونُنعي إلى أنفسنـا اغتيال أحلامنا التي علّقناها صادقين ـ ذات يوم ـ على أناس نقضوا عهدهم ، وباعوا قرارهم للّـذين لم ولن يراعوا فينا إلاًّ ولا ذلــة .
محمد المهدي
10/01/2016
Aucun commentaire