موريتانيا، العتبة المستعصية على الدبلوماسية المغربية
تروم استراتيجية المغرب التنموية ربط الاتحاد الأوربي بطاقاته الصناعية والمابعد صناعية بالعالم الأفريقي الغربي الغني بموارده الطبيعية البكر. ودور الوسيط التجاري بين العالمين يحتاج مجهودا دبلوماسيا كبيرا، عبر قنوات الاتصال والتواصل من جهة، وعبر ربط صداقات دائمة ومتينة في إطار التعاون على الأنموذج: رابح ـ رابح، كما هو متعارف عليه اليوم في العلاقات الاقتصادية بين الدول.
ونجاحات المغرب في تمتين علاقاته التقليدية مع الدول الصديقة في الغرب الأفريقي مثل السنغال والكوت ديفوار والغابون، والانفتاح على بلدان جديدة مثل غينيابيساو، يعتريه فشل كبير في العتبة الموريتانية، التي تمكن مسؤولوها من التوفيق بين علاقات جيدة مع القطر الجزائري كما فضحته تسريبات ويكيليس عن الوثائق السرية السعودية مؤخرا، وعلاقات المحافظة على الوضع القائم/Statu quo مع المغرب (لسنا ضدكم ولسنا معكم)، فأضحت مسرح مناوشات دبلماسية ومخابراتية وصحافية خطيرة، كما حدث عقب طرد مسؤول كبير في السفارة الجزائرية مؤخرا بعد اتهامه بمحاولة خلق العداوة بين مويتانيا والمغرب.
تتموقع موريتانيا في مسرح عمليات قوتين إقليميتين كبيرتين، شبيهة بموقع اليمن المتموضعة بين قوتين سنيةـ وهابية وشيعية، وما يقع في المشرق العربي من صراع في الهوامش (العراق وسوريا والبحرين ولبنان واليمن) بين القوتين السعودية التي تحاول الدفاع عن مذهبها السني ـ الوهابي والإيرانية المشجعة للمد الشيعي بتزامن مع حلقات الحوار حول مستقبلها النووي (خمسة زائد واحد)، لن يتكرر في المغرب الكبير، لسبب بسيط وهو وحدة التركيبة الإثنية والدينية المفقودة في المشرق. فقبائل موريتانيا امتداد طبيعي لقبائل المغرب، والمكتسحة منذ قرون خلت للجنوب الغربي الجزائري. إن صنهاجة اللثام التي قامت على أكتاف رجالها الدولة المرابطية والمتشبثة بالمذهب السني المالكي، لا يمكن تصورها متقاتلة بين أفخادها رغم تشتت وحدتها، ولهذا السبب يصعب تصور حرب أهلية في الساحة الموريتانية يشعل فتيلها الصراع بين القوتين الإقليميتين.
يعلم المفكرون الموريتانيون أن بلادهم في وضع طبيعي واستراتيجي هش، بحكم انتمائها لمنطقة الساحل القاحلة، ووجودها في بقعة صراع إقليمي، وعدم قدرتها الاستفادة من جارتيها الشماليتين، وأي محاولة لتغيير الوضع القائم له تداعيات خطيرة على مستقبلها، فالانقلابات العسكرية المتتالية منذ عهد المختار ولد دادا شاهدة على عنف تأثير الصراع بين القوتين. وفي هذة النقطة لا يجوز اتهام تدخل إحدى القوتين الجارتين دائما، لأن التكوين العسكري والتأثير الإديولوجي للنخبة الموريتانية له نصيب مما كان يحدث.
إن العتبة الموريتانية ضرورية في المشروع التنموي المغربي، باعتبارها الممر الاستراتيجي لدول غرب أفريقيا، ومسلك إنهاء قضية الصحراء المغربية التي عطلت عجلت التنمية في المغرب الكبير، وخاصة في موريتانيا التي تتجاذبها رياح التغيير والأزمات بسببها. ومصير التنمية الموريتانية مرتبط برهانات المغرب التنموية لا محالة، لذا فجميع التمثلات المستقبلية لا يمكن إنجازها إلا بخلق نوع من الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والديني والبيئي بين المغرب وموريتانيا، رغم المخاطر المحدقة بهذا المشروع. فالقوى العظمى في الاتحاد الأوربي والقوى الغرب أفريقية تمارس الضغوط المختلفة لفتح هذه العتبة التي لا زال تبليطها شديد الرخاوة. والدبلماسية المغربية مطالبة بفتح هذا الممر رغم تكاليفه وتضحياته السياسية والمالية الضخمة، لأن موريتانيا لن تقبل المغامرة بمستقبلها دون اقتراح مشروع تنموي كبير، ينطلق من مبدأ الحماية الأمنية، وينتهي بتوفير البنيات التحتية والمؤسسات الإنتاجية المدرة للدخل وفرص العمل، وهو مشروع قابل للتحقيق مع المغرب دون غيره من الدول المجاورة.
يتمترس النظام الموريتاني الحالي حول مفهوم الأمن الداخلي الذي لا يمكن تحقيقه إلا بمحاباة الجارين الشماليين، ومن المحتمل جدا أن ينزلق هذا التوازن مع مرور الزمن بسبب الرغبة الشاذة لحكام الجزائر في تصدير ثورتهم، أو لنقل تصدير مقارباتهم الفكرية الرأسمالية الجديدة، القائمة على مبادئ تشديد الضغط الأمني الداخلي، وتقوية الجهاز المخابراتي المحلي والإقليمي والدولي، وربح جميع جبهات الصراع والنزاع والخلاف مع الخارج، على حساب استثمارات التنمية البشرية. وهو رهان قادر على الصمود مدة طويلة، وقادر على استنساخ مسؤولين سياسيين من طينة الحرس العسكري القديم، عكس ما يعتقد البعض، ما دام متمسكا بمبدإ معاداة الآخر حتى لو كلفه الملايير من الدولارات، وقادرا على تدبير الأزمات، من خلال توظيف وسائل الإعلام المختلفة العمومية والخصوصية المتوفرة لديه، ومنها القنوات التليفزيونية الخصوصية التي تم الترخيص لها بالبث، لتنميط الشعب وتكبيل قدراته في التفكير الإيجابي البرغماتي، ومن خلال التحكم المحتمل في بعض القوى الخارجية الفاعلة الشرعية وغير الشرعية في المغرب الكبير وخارجه. وكل شعوب العالم، وحتى المتقدمة منها، تعاني من ظاهرة التشبع الإعلامي المحلي، فكل ما يقوله المذيع في نشرة الأخبار الوطنية صحيح، وغير قابل للتشكيك، وكل ما ورد عن الإعلام الآخر مشكوك في صحته.
إن الدولة العربية بمفهومها القانوني دولة هشة، بيد أن حسن تدبير الانتقال الديموقراطي، وحسن تدبير الشأن الديني، وحسن تدبير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية، وحسن توظيف العبارات المناسبة والوطنية وغير التحريضية في وسائل الإعلام، من شأنها المحافظة على الاستقرار والتوازن المجتمعيين مدة أطول. لذلك لا ينبغي أن يعول المغرب على فكرة قرب انهيار أنظمة معادية لسياسية، ويركز ثقله الدبلوماسي على العتبة الموريتانية التي لا تزال عبارة عن رمال متحركة، يصعب ضبطها ورصد تحركاتها، مع نجاح الجارين الشمالين في تجاوز تداعيات الربيع العربي بسلام.
د. يحي خالفي
Aucun commentaire