نافذة على رمضان:من مظاهر الإعجازفي القرآن الكريم :رمزية العرض القصصي نحو قراءة إيمانية وتاريخية وإنسانية
*-السياق القصصي:
يتميز النص القرآني بتكويناته النصية، التي تجعل منه نصا معجزا ببنياته :الصوتية، والحوارية، والحجاجية، والإخبارية، التي تأخذ أشكالا ثلاثة، كسيرة الأولين ،و ضرب الأمثال، والعرض القصصي …حيث يقول المولى عز وجل : » لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون » يوسف :111 وقوله : » نحن نقص عليك أحسن القصص، بما أوحينا إليك هذا القرآن . وإن كنت من قبله لمن الغافلين. » يوسف :3.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه .مالفرق بين الاقتصاص القرآني والتسريد البشري ؟
في الحقيقة لامجال للمقارنة بين كلام الله ومقاصده السامية الكلية، وبين كلام البشر النفعي التواصلي، لتحقيق غايات آنية ومحددة . لكن تقليب الأمر من عدة وجوه يكشف حقيقته، فالإنسان مخلوق حي مفطور على القص، وسماع الاقتصاص، لتحقيق المتعة والتسرية، أونقل واقع ،أو تجربة قصد تجاوزه، أو تعزيزه. أما العرض القصصي في القرآن فيأتي في سياق تحقيق التتابع بين الوقائع القرآنية، التي هي جزء من الحقيقة الدينية المطلقة، وإجادة سياقها الواقعي والرمزي من خلال تسييق الحدث القصصي القرآني، داخل سياق السورة التي يعرض فيها ويصور تصويرا فنيا، لنقله من التجريد إلى التشخيص ، حتى يسهل فهمه والتواصل معه بخشوع وهمة ،ليكون نبراسا مضيئا للنهج العقدي الذي يرسمه النص الإلهي، باعتباره كتاب دين وحقائق، وليصبح عبرة للمتلقي المؤمن في حياته، ومغزى يغنيه عن اصطناع الخطأ في السلوك والمواقف والرؤية ،وقدوة عملية تعزز الفهم وطاقة النمو الموالي.
**- الإعجاز القصصي:
يعتبر التسريد في النص القرآني مظهرا من مظاهر الإعجاز البياني، نظرا لمقصديته التربوية في تبليغ مضمون الرسالة السماوية السمحة، ولفاعليته الفنية في توسيع الامتداد على الواقع ،ونقل المحتوى القرآني بعوالمه الغيبية والشهادية ،وبأبعاده العقدية والعبادية والمعاملاتية والحكمية، من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي، من خلال تقديم نماذج عملية من الرسل والأنبياء وأولياء الله الصالحين، منتقاة بدقة تمثل الاتجاه الإيجابي للشخصية الإنسانية غالبا، لتكرس مبدأ التأسي بالقدوة الذي يحفز على التحلي والتجلي، أو أنماط من شخصيات مؤثرة سلبا لها وقع سيئ تمثل الاتجاه السلبي في الشخصية الإنسانية ،ترسخ مبدأ التخلي والاتعاظ بالترك كشخصية فرعون وقارون…يقول السيد قطب : » سيقت القصة في القرآن لتحقيق أغراض دينية بحتة …إثبات الوحي والرسالة، وإثبات وحدانية الله وتوحد الأديان، والإنذار والتبشير ومظاهر القدرة الإلهية، وعاقبة الخير والشر والعجلة والتريث، والصبر والجزع والشكر والبطر…التصوير الفني في القرآن ص118 يقول السيد قطب : » القصة في القرآن ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه .إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية. ص117
***-العرض القصصي:
إن المتصفح لكتاب الله عز وجل، يثيره تصفيف سرود خمس وعشرين قصة، إما كاملة كقصة يوسف ، أو قصة مجزأة، أو قصة مختصرة، أو قصة مفصلة كقصة آدم…ذلك أن القصة في القرآن الكريم تتطرق إلى أربعة مواضيع :
1- تاريخ تطور نزول الوحي : من شريعة الأمر والنهي على سيدنا آدم إلى شريعة النظام والمنهج على سيدنا محمد /ص/.
2- أحوال وسير أمم وشعوب وشخوص.
3-مقام الأنبياء والصالحين.
4-حوادث.
وهي تخضع لمقتضى الحال ومتطلبات المقام ،بحيث يكون أبطالها في المجمل
رسلا أو أنبياء، أو رجالا صالحين، أو شخصيات وازنة دينيا، وتاريخيا .
وقد عرفت القصة منحى تتابعيا عاكسا لخطية أسباب النزول ،ومقتضيات المتوالية القرآنية .فكانت البداية من قصة سيدنا آدم عليه السلام وأمنا حواء، حيث تم عرض القصة مختصرة في سورة البقرة : 30-38 وتكرارها لاستكمال التفاصيل في سورة الأعراف : 11-25 ،والحجر : 28-44، والإسراء : 61-65 ،والكهف : 50، وطه :115-124، وسورة ص:71-85 وسورة آل عمران : 59.
****- القراءة الإيمانية:
قصة آدم ترجع تسميتها للقرآن الكريم، الذي وسم به أو ل مخلوق بشري يتميز بالعلم والتكريم والاكتمال، قرر المولى جل وعلا خلقه بعد تجربة خلق أقوام من الجن، كانوا عصاة ومفسدين ومسفكين للدماء ،لذلك تساءل الملائكة وهي مخلوقات نورانية طائعة عن استخلاف الله لمخلوق سيكون حسب علمها أقل منها علما وتكريما وكمالا، وسيكون صنيعه كصنيع المخلوقات التي سبقته، بدافع التنافس حول الخير، لا بإيعاز من الغيرة والحسد. ولهذا اعترض إبليس لعنه، وهو مخلوق جني ناري، رقي بعد نجاحه في مهمة تأديب المفسدين ،فانتابه الغرور والاستعلاء ،فعصى أمر ربه وأبى السجود لآدم، سجود تكريم وتشريف لاسجود عبودية، بدعوى أن أصله أفضل من أصل آدم ،الذي خلقه الله من تراب ليتلاءم مع شروط الحياة المهيأة له فوق الأرض، وليتذكر أصله الترابي الناقص القيمة ،فيتواضع لله سبحانه وتعالى فيرفعه. خلق الله آدم وحيدا ثم خلق له زوجه من نفس واحدة لعدة اعتبارات التدليل على القدرة الإلهية، والتعبير عن الأصل الواحد للتواضع والتواضع، كما يرى الألوسي ،وذلك ليسكن إليها انسجاما مع قانون الزوجية. وأعد له الجنة ليعيش رغدا، ونهي عن الاقتراب من شجرة واحدة، لكن إبليس عدوه وعدو ذريته تواطأ مع الحية فأدخلته في فقمها، كما يرى ابن جرير الطبري ،واجتاز حرس الملائكة فأغوى أمنا حواء المعروفة في القرآن « بزوجك » حيث تولى الحديث النبوي المكمل لكلام الله تسميتها ووصف طبيعتها من ضلع أعوج، أي هي أنثى ذات تركيبة عاطفية ورقيقة، يتغلب فيها الإحساس على التعقل. فأقنعت آدم عليه السلام بالاقتراب لجني ثمرة الملك والخلود فكانت المعصية معصية إتيان المنهي بالنسبة لسيدنا آدم ، وكانت معصية إبليس التي ترتبت عنها العداوة معصية عصيان الآمر المولى عز وجل.وكان الجزاء من جنس المعصية القهقرى في درجة الماهية الجسدية ،والهبوط من العليا إلى الدنيا مع كشف السوءة أي العورة، لاستكمال تكوين النفس والارتقاء بها في مدارج الفيوض الإيمانية ،للتكفير عن الذنب بالامتثال والانتهاء، وبالاستقامة والصلاح، وبالتقرب إلى الله وتجديد الصلات، لحيازة المدد الرباني.
*****-التفسير التاريخي للقصة:
تكتسي القصة الأولى في القرآن الكريم أهمية كبرى، على مستوى تاريخ الأفكار والنظريات، فهي تعرض لنظرية النشوء والارتقاء الإنساني، من منظور القرآن الكريم، وتسفه نظرية النشوء والتطور عند داروين، حيث تنفي الأصل القردي للإنسان ،وتثبت بداية الخلق من آدم عليه السلام وهوأكمل وأعلم وأكرم مخلوق مولى عن الله بالوكالة ليدبر إلى حين شؤون الأرض في إطار الابتلاء. كما تعرض في نفس الآن ، لنظرية المعرفة البشرية، بشكل دقيق، ومشوق، ومقنع.
أ- نظرية المعرفة:
ترتكز هذه النظرية على عدة نقاط في درس آدم البليغ ، وعلى جملة من الإشارات لموضوع العلم وأدواته ومقاصده، بين تضاعيف النص القرآني الكامل . إذ تتولى القصة طرح نظرية المعرفة في سيرورتها التاريخية، من خلال :
1- الجهاز المفاهيمي:
تعرض قصة آدم نظرية المعرفة لماما بين ثنايا متن الوقائع في سورة البقرة، وفي سجل تفصيلات الأحداث المبثوث بين طيات مختصرات القصة في باقي السور، على أساس أربعة مبادئ:
أ– الحقيقة : الذات الإلهية المنزهة عن التجسيم أو التثليث أو الإدراك بالبصر أو المثيل او النظير، أو القسيم المتصفة بالقدرة المطلقة الخارقة، والعلم الواسع ،والحكمة والمعرفة الحادقة للخلق، المحكم المتناهي في الدقة، السامي في القصد.
ب-الاعتقاد: إيمان آدم وذريته من الجنس البشري من بعده ،بالمشيئة الإلهية والمالكية والحاكمية، وبالقدرة على الخلق، وبالعلم المحيط بكل شيء ،وأن معرفة البشر وقدرتهم على التعلم والتعليم ،من فضله ومنته على مخلوقاته.
ج-التبرير : خلق الله آدم وذريته من الجنس البشري من تراب، بكل تنويعاته وطبائعه وخصائصه… لعبادة الله وحده بدون شريك، ولتعمير الأرض بالنسل الصالح، وفق شريعة الأمر والنهي، ومنهج الصلاح.
د-القدرة على الإنتاج: الله علم آدم وغرس فيه بالفطرة القدرة على التعلم والبحث والاكتشاف والتسمية ،وتعليم أفراد جنسه عبر انصرام الزمن ، وتمهيرهم على الصنائع، والحرف ،والمهن.
واختار القرآن العظيم أسلوب التعاقد بين الله وسيدنا آدم، على أساس الحكمة والعدل، والرحمة والتوبة والتسامح. فالخلق مصمم بدقة متناهية لأنه مؤسس على العلم ،وغايته الإعمار والعمران، والابتلاء واختبار الخيرية.
لهذا تقدم القصة إشارات دالة على التصور الإلهي للعلم، فهو واسع ومحيط بكل شيء، في عالم غيب السموات والأرض والأنفس، وعالم الشهادة الواقع تحت تقدير الحواس، مستوعب لكل موارد المعرفة والحكمة اليقينية المطلقة، و نافذ في عالم الخلق، وفي عالم الأمر.ويتولى الإجابة على ثلاثة أسئلة مفصلية :
*- ما هي المعرفة ؟
– الآطلاع على المسميات وأسمائها، واقتفاء سيدنا آدم وذريته من الجنس البشري من بعده ، أثر الاكتشاف والتحري في الوسطين الطبيعي والبشري وفي سائر الكون، ثم تسمية المكتشفات بنفسه. واللافت للنظر،أن طريقة القرآن في التعلم انطلقت من تعليم الاسم، وفق أسلوب يتمركز حول الوسط بين الحرف والجملة ،كما يرى الداعية علي منصور كيالي، وهو أسلوب تعليمي أثبت نجاعته لأنه يتناول البنية العميقة المرتبطة بالمكونات الدلالية في شموليتها، أي: المعاني و الاشتراكات اللغوية والترادفات…والبنية السطحية المتمظهرة في الجانب الصوتي ، الذي يشمل خصائص الحروف النطقية وتشكيلاتها المتعددة لتؤلف في انسجام دالا ومدلولا يرتهن إلى مرجع هو عالم الخلق، ثم المتجلية في تراكيبها المستوعبة للجمل البسيطة والمركبة، الواصفة للمسميات والمعبرة عن التنوع والثراء في نواة المعنى، وتشكلاته المحاذية.
**- كيف نمتلك المعرفة ؟
نحوز المعرفة حسب منظور القرآن الكريم ، عبرالتلقي من الله إما بالفطرة أو وحيا، أو من خلال النذر، و من خلال تشغيل قدرة البحث والاكتشاف والتسمية ،ومحاولة صقلها بالتقليد،و بالتطبيق المهاري والصنائع.
***- ما هي حدود المعرفة ؟
– معرفة آدم وذريته محصورة في بعض مجالات عالم الخلق، لكنها غير ممكنة في عالم الأمر، مثل معرفة حقيقة الروح، وتحديد موعد الساعة….
تمتلك نظرية المعرفة في القرآن لغة علمية ،تتميز بالاستمرارية ،والدلالة الرمزية ، حيث يتشكل القاموس العلمي من مصطلحات ،ولغة مجالية:
1-حكيم: حسب قاموس المعاني، يعني اسم من أسماء الله الحسنى يحيل على التبصر، وحسن التدبير، والإتقان وسداد الرؤية ،وهو كذلك العليم الذي يعرف أفضل المعلومات بأفضل العلوم. والحكمة هي أسرار الحقيقة ،كما جاء في كتاب التعريفات للشريف الجرجاني، والحكمة هي: » العلم والعمل « حسب ابن عباس ،و »الكلام المقول المصون عن الحشو ».
2- عليم: صفة مبالغة للعلم تفيد القوة والكثرة والتحقق،وتعني معرفة أحوال الموجودات وإدراك الشيء على ماهو به ، وإدراك الجزئيات والكليات، وزوال الخفاء من المعلوم، وصفة ذات صفة ،حسب الشريف الجرجاني في كتاب التعريفات .أما قاموس المعاني فيقدم معنيين متقاربين لعليم : » إدراك الشيء بحقيقته » و « محيط بجميع ما خلق ».
3 –أعلم: يعلم الله علم اليقين، أن من الخلائق :الأنبياء، والعلماء ،والعاملون ،والعباد…حسب قاموس المعاني.
4- علم : علم الله آدم كل الأشياء، بأسمائها ،ومدلولاتها، وصورها.
5-تلقى:ألهمه الله التوبة ،وآية الاستغفار: » ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين « .
6- الوقت المعلوم في سورة ص: نهاية الزمن المفروض للعمل، الوقت المضروب للوعد، نفخة الموت والفناء …حسب قاموس المعاني.
7-القلم : علم الله آدم ومن بعده الجنس البشري، الهداية والكتابة والصنائع ،والحدق بالتمييز والتصنيف.والقلم يحيل على الوحي، الذي حمله سيدنا جبريل عن ميكائيل، عن إسرافيل ،عن اللوح المحفوظ، حيث كتب الله فيه كل شيء بالقلم. تفسير الجلالين وقاموس المعاني.
8-نون: أحد الحروف الهجائية التي صدرت بها بعض الآيات، من باب التحدي للمشركين على الإتيان بمثل القرآن، المركب من هذه الحروف. وقيل منها يتألف اسم الله الأعظم ،وهي علامة لغوية على لوازم طلب العلم ،من قراءة ،وكتابة وخط .تفسير الجلالين وقاموس المعاني
9- يسطرون: الملائكة وما يكتبون ،وما يصنفون من خير، وصلاح. قاموس المعاني وتفسير الجلالين.
10- العلماء : يعلمون أن الله على كل شيء قدير ،ولم يشركوا بالله شيئا، ويخشون ربهم بالغيب .قاموس المعاني.
يشتمل العلم الإلهي على ثلاثة مصادر :
1- العلم الإلهي السابق والراهن واللاحق.
2-الفعل الإلهي المتحكم في عالم الأمر وعالم الخلق.
3- الكلام الإلهي المستوعب لكل أنواع الوحي بعامة وللقرآن بخاصة.
يتوسل العلم الإلهي ثلاث أدوات :
1- إعداد درس آدم للملائكة ولإبليس ،وعرضه التمثيلي بواسطة الحوار، والحجاج.
2- تمكين آدم من الفطرة والتمهير، لإنجاز التعلم الفردي الذاتي ، بواسطة البحث والاكتشاف، والتعرف والتسمية.
3- تهييئ بيئة التعلم التجريبي والتدريبي في جنة آدم ، المخصصة للحياة العليا ،وبيئة التعلم الاختباري على الأرض، المتعلقة بالحياة الدنيا .
2- الجهاز المقولي:
تعزز قصة الخلق الأول عرضها لنظرية المعرفة، بمجموعة من الآيات الكريمة هذا مقتطف منها:
يقول تعالى في سورة البقرة: » هو الذي خلقكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم »:29
يقول تعالى : » إني أعلم ما لاتعلمون »:30
يقول تعالى : » وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة . » :31
يقول تعالى : » إنك أنت العليم الحكيم » :32
يقول تعالى : » ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. »:33
يقول تعالى : »فتلقى آدم من ربه كلمات » :37
3- الجهاز الإجرائي :
عندما نقرأ هذه النصوص الكريمة قراءة خاشعة، نستجلي عدة حقائق منها :
– خلق الله السموات والأرض والأنفس، كان بتصميم محكم، ودقة متناهية لتجهيز شروط الحياة للمخلوق البشري آدم ، الذي خلق جسده من تراب، ثم خلق ذريته من ماء بواسطة التناسل.وهذا تأصيل قرآني لنظرية النشوء القرآنية في طور الخلق، وفي طور النشأة والتنشئة، حسب المراحل التالية:
*-مراحل الخلق والنشوء :
1- التراب : وهومادة جامدة تتكون من عدة عناصر، هي حسب محمد الأمين الشنقطي مهينة لكن الله خلق منها أسمى مخلوق في عالم الأحياء، في إطار تثبيت مبدأ الاختلاف في الخلق، فالملائكة أصلها واحد وهو النور وطبيعتها واحدة وهي الطاعة ،وإبليس ناري والنار أصل واحد وطبيعته الغواية. أما آدم فخلقه الله من تراب وهو مختلف ومتنوع، فكانت الطبيعة مختلفة: الطاعة، والعصيان، الخيرية والشرية… يقول تعالى : » هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة » غافر :67 .
2- الطين وهو التراب المبلل بالماء، حسب تفسير ابن كثير، مصداقا لقوله تعالى : »الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. » السجدة :6
وقال : » ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين »المؤمنون :12 .
3- الحمأ المسنون :
وهو الطين الأسود، المتغير، المصور، المصبوب، المفرغ. مصداقا لقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون » الحجر :26
4-الصلصال:
وهو الطين اليابس كالفخار مصداقا لقوله تعالى : » خلق الإنسان من صلصال كالفخار » الرحمان :14
ويقول تعالى في سورة الحجر : » وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون.فإذا سويته ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين » :28-29
ولما كان أمره بين الكاف والنون، فقد خلق آدم في أحسن تقويم ، ثم قال له كن فكان يقول الرسول/ ص/ : « إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود ، وبين ذلك والسهل والحزن ، وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك. » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن وصحيح.
**- مراحل تكون الجنين عن طريق التناسل:
يقول تعالى : »فلينظر الإنسان مما خلق ،خلق من ماء دافق. » الطارق :5-6
ويقول أيضا : »الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه. » السجدة : 6-9
من خلال النصين الكريمين، فالأصل الفرعي للإنسان بعد التراب، الذي خلق الله منه الأب الأول للدورة البشرية الأولى هو الماء، الذي جعل منه سبحانه نسبا وصهرا ،من خلال عشر مراحل يحصرها العلماء في :
1-مرحلة النطفة.
2-مرحلة العلقة.
3-مرحلة المضغة.
4-مرحلة الجسد الفاصل.
5- مرحلة الكساء باللحم.
6-مرحلة النشأة .
7-مرحلة القابلية للحياة.
8- مرحلة الحضانة في الرحم.
9- مرحلة المخاض.
10-مرحلة الولادة.
يقول تعالى مفصلا هذه المراحل : » ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا المضعة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين » : المؤمنون :12-14
ومن خلال هذا البيان القرآني، تتجلى الدلالات الرمزية لهذه المراحل، في تكوين سيد الخلق آدم عليه السلام، حسب تحليل الداعية المصري عمرو خالد. فالأصل الترابي يحيل على مداليل الضعف والفقر إلى رحمة الخالق، والارتهان إلى فضله. والرسالة الملتقطة، التواضع ،فقد خير المصطفى /ص/ بين النبوة مع الملك، والنبوة من دون ملك، فاختار/ص/ الثانية ،بإيعاز من جبريل عليه السلام تواضعا لله. أما الأصل الطيني، فيحمل دلالات الطهارة، والنماء، ومعاني الخير. والرسالة المبلغة : أيها الإنسان خلقت نقيا ،لاتدنس نفسك بالمعاصي. أما الطين اللازب، فيحيل على التماسك ،وقوة الإرادة .إذن أنت مريد أيها الإنسان، فانهض برسالتك رسالة التعمير والإصلاح. بينما أصل الصلصال بمراحله المتعددة فيوحي بأن آدم صنيعة الله بيديه ،مع التنزيه ،مشكل كالفخار في صورة جميلة ودقيقة ومصممة بعناية، لكن داخله مجوف وفارغ يدل على ضعفه، وعلى أنه مصنوع من جماد، مادته متغيرة، ونتنة ،ومصورة… فنقطة ضعف هذا الكائن البشري الذي حمل أمانة الوكالة عن الله في الأرض وفق شرعه، هي الشهوات والغرائز التي تنسيه ،أو تصرفه عن المسؤولية التي أنيطت به.
***- مراحل خلق عيسى عليه السلام:
يقول تعالى : » إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون « آل عمران:59
إن خلق الله لسيدنا آدم من أصل وضيع وجامد ثم تحويله بعد النفخة الإلهية إلى كائن أعلم وأكرم من الملائكة ليعد آية كبرى على القدرة الإلهية. ثم تفريع الأصل الترابي بأصل ثان وهو الماء الذي خلق الله منه كل شيء وجعله وسيلة لتناسل ذرية آدم بعد ارتكابه لمعصية الأكل من الشجرة المحرمة يوحي بأن جسد آدم في جنة العرض التمثيلي ليس هو جسد آدم المنزل إلى الأرض بعد كشف سوءته وتحويلها إلى وسيلة لتحقيق الشهوة البشرية في الحلال والحرام وإنجاز التوالد الشرعي وغير الشرعي فالأرض إذن مقام عابر ومزرعة عمل ودار صراع مع إبليس وجنوده من الشياطين ومن شهوات النفس ومن المحرمات المختلفة فالآمن من مخاطر هذا الصراع هوا لمخلص في أداء رسالة الاستخلاف وهو المستحق للجنة التي حرم منها آدم بعد نسيانه وفتور همته وإتيانه المنهي وهذا تحفيز مابعده تحفيز وتشجيع ثمين بعد تحرير اليدين وإزاحة الضلال عن الفكر وتزكية النفس بالعبادات والأخلاق على العمل الصالح المنمي للأرض والمطهر لها من الخطيئة والظلم وأنواع الفساد.
ولم يتكرر هذا الخلق المعجز من التراب مباشرة ثم العطف عليه بالنفخة الربانية إلا حين ولادة سيدنا عيسى عليه السلام من مريم الصديقة ودون أب حيث كان عصره متقدما في الطب وبرع قومه في التطبيب. وهذا التطابق في الخلق يكشف عن مؤتلفات بين آدم وعيسى كعدم وجود الأب والذكورة والنبوة وماهية الجسد والروح المتدفقة بالفيوض الإيمانية وإشراقات القرب من الله والاستمداد الموصول من مدده الذي لاينقضي سبحانه ويعزز هذا التماثل تردد الاسمين خمسا وعشرين مرة في القرآن والتركيب العددي الرباعي الحرفي للاسمين.
ب- المنهج :
تؤجرئ القصة الخلق الأول، قصة آدم عليه السلام ، منهج الحياة ، المستمد من نظرتي النشوء القرآنية ،ونظرية المعرفة الدينية. وتحاول تنزيل الأمر الإلهي من خلال تخييرآدم بين الحلال المباح، والحرام الممنوع، وتحفيزه بجزاء الجنة بعدما أذيق منها ردحا من الزمن ، ليكون الإغراء بالثواب دافعا لتنفيذ الحكم الإلهي، وتعمير الأرض التي ابتلي بالعيش فيها إلى حين، بالخير ومحاربة الشر، والعدل وتطهير الكوكب من الظلم، والعمل المنتج الصالح ونبذ التكاسل والأعمال العقيمة ،والتعلم والتعليم المستمر لاكتشاف آثار الفعل الإلهي في الخلق، والتدبر في الإرادة الإلهية ،لإدراك عجز الإنسان عن الإحاطة بكل يحدث في ملكوت الله ، وضبط قوانين الشساعة والانتظامات ،عبر التموقع بواسطة النسب من أسماء الله المتعددة، لمعرفة الذات الإلهية ،والتعرف على قدرته عبر العصور، والتدرج في تجديد الصلة به سبحانه .فهو الخالق المتتبع لخلقه، والمعين على تطوير مخلوقاته بالفعل الإلهي ،أو الإلهام أوالفطر، أوالوحي الذي تبلغه الرسل، عبر مسيرة الإنسان الطويلة، وتنوع فصولها العجيبة. وهكذا تنضاف لشريعة الأمر والنهي ،شرائع الحلال والحرام، والأخلاق والقيم، والمعاملات والأحكام، والعبادات والغيبيات ،لتأهيل العقل الإنساني بعد نضجه وختم الرسائل، لإدارة شؤون الكوكب والمحافظة على مدخراته ،واكتشاف المزيد من أسراره ومظاهر إعجازه، التي لاتنتهي في إطار من التحدي.
******- التحليل اللساني للقصة.
إن عرض قصة آدم، باعتبارها أول قصة في الخلق البشري، داخل أول وأطول سورة في المصحف الشريف، وهي سورة البقرة، يحمل أكثر من دلالة رمزية تحيل على نظام التسييق، وبلاغة مطابقة الحال، التي يتميز بها النص الإلهي:
1-سياق خاص:
تندرج قصة آدم عليه السلام في سياق تقديم دليل نصي، وعقلي عملي، على قدرة الله على الخلق المتنوع، والمتعدد، والمختلف، وعلى علمه الواسع الذي لاتحده حدود في عالمي الخلق والأمر، في إطار من التماهي والتناغم، بين كتاب التدوين وكتاب التكوين.
2- سياق عام :
أما السياق العام لسورة البقرة ، حسب أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري في كتا ب أسباب النزول ص 17، فيعتبر السورة مدنية نزلت في المؤمنين والكافرين والمنافقين، لتكشف أحوالهم المختلفة ، وترصد أوضاعهم المتباينة. فهي تتناول المسألة الإيمانية، بكل تجلياتها وتمظهراتها عند ثلاثة أصناف من البشر، وتركز على تحليل طوية بني إسرائيل، في العهد القديم و العهد الجديد ، لتبحث عن الإنية وجذور الانحراف ، ولتحفر في مركز جوهر الإنسان، وتنبش بين أطراف نشأته ،من خلال عرض وقائع حقيقية مؤكدة تحكي عن البدايات الأولى ، وإواليات تطور سيدنا آدم وذريته ، من خلال سرد أحداث قصة الخلق الأول ، خلق آدم عليه السلام، في إطار البنية الإخبارية ،والبنية الحوارية، اللتين يتميز بهما التكوين النصي القرآني.
هذا وتصنع أحداث هذه القصة المثيرة، عدة عناصر أساسية حقيقية وهي :
*-الشخوص الحقيقيون :
1- الله : الخالق القادر على كل شيء، دون مكان أو زمان، في عالم الخلق وعالم الأمر، العالم بكل شيء ،علم اليقين والكمال بلا حدود.
2- آدم:أول مخلوق بشري بعد مخلوقات الملائكة والجن، أصله من المكان الذي جهزه الله له للعيش فيه، وهو التراب، خلقه من نفس واحدة أي من جنس واحد /إنسان ، ومن نوع مختلف الذكر والأنثى ، و من طبيعة متكاملة/ التزاوج. و يتكون من نفس تنسب إليه تنتمي إلى عالم غير محسوس، وجسم متفاوت في الماهية قبل الهبوط وبعده ينسب إلى الأرض، وروح بمثابة جوهر شريف من أمر الله أضافها الله إليه حسب مصطفى محمود تنسب إلى السماء. مؤهل للتعلم وحمل الأمانة فوق الأرض .هو أعلم من الملائكة وأكرم، لكنه ينسى فيخطئ.
3-الملائكة: مخلوقات نورانية سماوية طائعة لاتعصي الله.
4-إبليس : ملك من الجن، أصله من نار، مكلف بمهام فوق الأرض والسماء ،فأحس بالاستقواء والغرور.
**- الزمان : ساعة خلق آدم عليه السلام.
***-المكان : السماوات و جنة آدم وأديم الأرض.
****- الأحداث :
1-حالة البداية :
*- الله يعطي للملائكة دليلا عمليا على قدرته الباهرة في الخلق، وعلمه الواسع المحيط بالمضمر والجلي، من خلال درس آدم لتبرير فعل الخلق، والإخبار بعالم الأمر.
2- التحولات:
أ- الحدث المحرك :
*-الله يخبر الملائكة بخلق آدم ليكون خليفة فوق الأرض هو وذريته ، ويهيئ جنة لتدريبه على رسالة الاستخلاف، ويأمره بسكن الجنة وزوجه ويعيشا من رغدها الفسيح دون الاقتراب من شجرة واحدة ، بينما الملائكة تتساءل عن تجربة هذا الخلق، وتستحضر تجارب سابقة لمخلوقات مفسدة وسافكة للدماء، وتعتقد أنها الأجدر بحمل الأمانة ،لأنها الأكرم والأعلم.
ب- العقدة :
*- إبليس يعترض على الأمر ،ويرفض السجود لآدم سجود تكريم لاعبودية ،بدعوى الخيرية. فهو مخلوق من نار، وآدم من تراب.
ج- الحل :
الله يعلم آدم من علمه الواسع، ويفطر فيه قابلية التعلم والتعليم، ويغرس فيه قدرة البحث واكتشاف الأسماء والمسميات، من خلال العرض التمثيلي الأول أمام الملائكة وإبليس.
3- حالة النهاية :
الله يعاقب آدم وزوجه على إتيان النهي، ويكشف عورتهما، ويهبطها إلى الأرض ليخضعا وذريتهما للابتلاء الإلهي ،والتناسل عن طريق أجهزة تحركها الشهوة مسؤولة على الخطيئة . ويخرج إبليس من رحمته لعصيانه للأمر، ويرجئ معاقبته إلى يوم القيامة، فيتحول إلى عدو مغو لآدم وذريته.
*****- المتوالية السردية مركبة:
إن الجملة السردية القرآنية تتميز بالخبرية، وبالتفصيل المقتضب. فهي منسوجة بشكل دقيق ومتقن، يتسيد فيه منطق الفعل الماضي للتدليل على التحقق، والفعل المضارع الذي يدل على القدرة وجعل الأمر بين الكاف والنون، وفعل الأمر والنهي الذي يوحي بالإرادة ،ومرتبة وحرية الذات الإلهية في التشريع . وسوندت الجملة الفعلية البسيطة والمركبة على حد سواء ، بشبه الجملة المؤلفة من الجار والمجرور، الدالة على معنى التبعية و الإلحاق، ومن الإضافة وهي نسبة تقييدية بين متضايفين ، وبالظروف التي تؤطر الفعل الإلهي مكانيا أو زمانيا، بالإضافة إلى استعمال أساليب العطف للتعبير عن التقاسم والاشتراك ،و الاستثناء للتدقيق والضبط، والنداء للتواصل وتبادل الكلام ،والنواسخ التي تدل على تطورالحالات والتحولات ، وتغيير أوضاع المخاطبين ،وتجدد الأحكام …ويمكن رصد المستوى التعبيري للجملة القرآنية من خلال مظهرين :
1- متجلي : يمثله الحوار المصدر بفعل القول بصيغ وضمائر مختلفة، بين الذات الإلهية والملائكة، وبين الله وإبليس، وبين المولى عزوجل وسيدنا آدم. وهوالأسلوب المهيمن، على التكوين النصي للقصة. بالإضافة إلى كشفه عن رحمة الخالق بمخلوقاته ولطفه وتتبعه وتوجيهه لها ،فإنه أي الحوار لعب دورا أساسيا في إضفاء الحيوية ،والتشويق على تفاعل الذات الإلهية مع مخلوقاتها الثلاثة، في إطار من التعاقد اللطيف والمتأدب والمتفهم، ساعة إخبارها بالأمر العظيم وتعبيرها عن مواقفها منه ، وكذا في تسريع وتيرة أحداث القصة، وتقاسم وقائعها لتتحول بفعل تكثيف المعنى ،و اختزال الوقائع واقتصاد اللغة، إلى قصة مختصرة تتطلب تفصيلات في سور أخرى.
2-مضمر:تصور القصة عدة أنماط من الصراع : صراع النوع بين المخلوقات : النورانية/ الملائكة والنارية/ إبليس وبالترابية آدم ، بدافع نيل الحظوة من الله ،وصراع القيم بين طاعة الملائكة وآدم قبل الخطيئة ، وعصيان إبليس وآدم عند إتيان المنهي ، والعلم التام والعلم الناقص ،وصراع الأنفس المطمئنة والأمارة واللوامة ،وصراع الأمكنة بين الجنة الدائمة والأرض الفانية…
مما أضفى على المتوالية القرآنية السردية، طابع الخطية والارتداد، والتأزم والانفراج ،بواسطة الحوار المتداخل بينما هو درامي/ عصيان إبليس ورده أمر الآمر وتواصلي /إخبار الله للملائكة وطلبه من سيدنا آدم استعراض الأسماء والمسميات، والإخبار المتعدد الأطراف: الله ، الملائكة ، إبليس، الشيء الذي أحال الحبكة القصصية إلى حبكة مركبة، مفتوحة على الاحتمال والتأويل عند المفسرين.
*- تفصيلات القصة في سور أخرى:
تكررت قصة الخلق الأول خلق آدم عليه السلام، التي ورد عرضها في سورة البقرة في عدة سور أخرى كما يرى السيد قطب ، لإضافة تفصيلات، أو تعيينات دقيقة، أو سرد نواة المعنى بحوامل مختلفة، تفيد إفادات لغوية وأسلوبية ،وإفاضات حدثية تغني الأداء القرآني، وتحول التكرار من ملمح بلاغي ممل ورتيب، إلى ملحظ بلاغي رابط ومقررومفصل وموقع، وطرف معتبر في العملية الإعجازية برمتها :
1-سورة الأعراف المكية: 11-25 —15آية.
من أسباب نزول هذه الآيات الكريمة ، طواف الجاهليين حول الكعبة عراة، وآدم عليه السلام انكشفت عورته وزوجه، بعد عصيان الله والاقتراب من شجرة الحرام.
فهي تقدم تحليلا سببيا، يكشف العلاقات المنطقية بين الوقائع القرآنية والشخوص الحقيقيين، فتعمد إلى تبرير سبب الخلق ورفض إبليس السجود، و سبب هبوط آدم إلى الأرض ،و المقصد المتوخى من إسكان الله له في جنة خاصة ،ليؤهله لحياة البشر، وحمل الأمانة، والاضطلاع برسالة الاستخلاف، الذي هو تشريف لآدم وذريته. كما تبين الحكمة من إرجاء الله معاقبة إبليس، وتتمثل في إعطاء فرصة للبشر ليعدلوا من سلوك اجتراح السيئة، بسبب النسيان، أو فتور الهمة، أو الانغماس في الشهوات ،أوالتعلق بمفاتن الدنيا. فهو الرحيم بعباده .
2- سورة الحجر المكية 25 -48 —24 آية
من أسباب نزولها، الافتتان بالمرأة والمال والحسد والحقد بين المؤمنين والكافرين، تماما كما وقع لأبينا آدم عند رضوخه لإغواء إبليس، وإغراء أمنا حواء له بالملك والخلد.
فالآيات تدبر الأصل : أصل آدم الترابي وتفصل مراحل الخلق و خلق إبليس الناري وتدقق موجبات العداوة الناجمة عن الغيرة والحسد بين آدم وإبليس وبيان جزاء أتباع إبليس النار والمخالفون له الجنة.
3-سورة الإسراء المكية:61-65 —-5آيات
من أسباب نزولها، بيان كرم الرسول /ص/ وقبوله عري جسده الشريف بعد استكساء طاعة لله ،وعري آدم وانكشاف سوءته، نظرا لعصيانه لأمر الله . وهي مفارقة كبيرة بين العريين: عري الوقار للتقرب، وعري كشف السوءة للإبعاد .
لهذا تدبرهذه الآيات مسألة التبرير فتكشف عن سبب الامتناع عن السجود وهو حسب إبليس هو تكريم الله لآدم وتبرير الغواية بكيفيات مختلفة : فأصل الفتنة الصوت المحسن والخيل والرجل والمال والأولاد وغيرها من الممتلكات .كما تبين تولي الله بنفسه تحصين عباده المؤمنين من كيد إبليس.
4- سورة الكهف المكية :50—آية
تعرف سورة الكهف بعرض أربع قصص:قصة أهل الكهف، وقصة موسى والخضر، وقصة أصحاب الجنة، وقصة ذي القرنيين، وتحاول استدماج قصة آدم في هذا المعرض القصصي :
لهذا تدبر الآية الخمسون، بيان معصية إبليس الناجمة عن الفسق عن الأمر ،واستنكار الله من بعض الخلق اتباع طريقه، رغم تحذير ه العباد منه ،وتوضيحه لسبيل الهدى وطريقة النجاة .
5- سورة طه المكية 115 -124 —10 آيات.
نزلت هذه الآيات، لتبرز اعتقاد الكافرين أن الوحي مصدر الشقاء، تماما كما حاولت أمنا حواء تصوير أمر المنع من الأكل من الشجرة المحرمة، على أنه حرمان من الخلد، والملك، والملائكية.
من هنا تدبر الآيات الكريمة، بيان سبب معصية آدم، وهو النسيان، وفتور العزم. وبيان علة السكن في الجنة ،وهو التدريب ، والمؤانسة . وبيان طريق الغواية ،وهو الوسوسة، والإغراء بالملك، والخلود. و بيان كيفية تعامل الله مع آدم ،بهدايته بكلمات وقبول توبته، و تحذيره لأتباع إبليس، ووعيدهم بمعيشة ضنكة وحشر بالعمى.
6- سورة ص المكية :71-85 —15 آية.
نزلت هذه الآيات الكريمة، لتكشف عن نفور أعيان قريش، من الإيمان استكبارا ،على نحو ما صنع إبليس لعنه الله .
لهذا دبرت هذه الآيات، بيان آلة الخلق وهي اليد الإلهية والطين، لمعالجة الاستكبار والاستعلاء ،وتنشئة آدم وذريته على التواضع، ليكون مقامه غير مقام إبليس.
7- سورة آل عمران :59
نزلت هذه الآية الكريمة في وفد نجران بزعامة السيد والعاقب، اللذين شككا في ولادة سيدنا عيسى دون أب، فأحالهما الرسول الكريم على المباهلة ،فرفضا لاعتقادهما بصدقه /ص/ ،وخوفا من المسخ والحرق والعذاب.
لهذا تدبر هذه الآية الكريمة ،بيان حقيقة تطابق جسد آدم وجسد عيسى عليهما السلام من حيث الماهية، فكلاهما مصنوع من التراب مباشرة ،ثم نفخ الله فيهما نفخة واحدة ، فكان الخلق من دون أب، وكانت الولادة المعجزة.
*******- الدليل المصطلحي :
تستوقفنا قراءة قصة آدم في الخلق الأول، عدة مصطلحات منها :
1-خليفة: الله خلق آدم عليه السلام خلفا للملائكة والجن أي بعدهذه المخلوقات كما يرى الإمام القرطبي ليكون وكيلا على الله بالنيابة، ليدبر شؤون الأرض وفق شرعه، وحسب الأمانة المعروضة على كل الجنس البشري من ذريته التي ستخلفه.
2- الجسد: بدن مغتذي و عاقل له طاقة مكثفة وثابثة من خلق الأرض يطلق على الإنسان وغيره .لسان العرب لابن منظور
3- الجسم : جماعة البدن وكتلة من التراب، وتركيبة من العناصر، ذات وزن ،وأعضاء متحركة. وهو وعاء عظيم تتجسم فيه النفس.تاج العروس
4- النفس: النفس الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية تنسب لصاحبها تثاب وتعاقب ،وهي محل ذم ومدح ،وهي عبارة عن دبيب من الحياة يسري في الجسم ،وهي من عالم الأمرالذي يتولى الله بنفسه معرفته، وتصنف إلى ثلاثة : مطمئنة وأمارة ولوامة وقدسية وناطقة ،وهي وعاء للروح.كتاب التعريفات للجرجاني
5- الروح: وهي حسب الداعية عدنان الرفاعي، نفخة من الله تبقي على الصلة بين الإنسان وربه، ليستمد القوة والعلم والقدرة والإرادة وغيرها من أنواع المدد، وقد وردت في القرآن الكريم على ستة معاني : الوحي ، القرآن ، ناقل الوحي جبريل ، السكينة ، عيسى عليه السلام ، قوام الحياة .
********- خلاصة:
إن قصة آدم تبرير للخلق، وتحليل للعلاقات والتفاعلات بين الذات الإلهية وعالم : الخلق وعالم الأمر ،وبين المخلوقات النورانية والنارية والترابية ، وتأسيس لأصول التطور، ووضع لنظريتي النشوء والمعرفة ، وسبر لطبيعة الملائكة ،ونفاذ في داخلية إبليس، وتحليل لنفسية البشر، ورسم لمنهج الآدميين ، وصياغة لرسالة الاستخلاف، واحتفاء بمعنى المعنى إلى جانب تفجير الحدث من داخل القول والفعل، لإبراز قدرة الله غير المشروطة بالمكان والزمان.
المصادر:
1- القرآن الكريم.
2- تفسير ابن كثير.
3- جامع البيان في تفسير القرآن الكريم لابن جرير الطبري.
4-تفسير القرطبي.
5- تفسير الجلالين للسيوطي.
6- روح المعاني للألوسي.
7- في ظلال القرآن للسيد قطب.
8-كتاب التعريفات للجرجاني.
9-لسان العرب لابن منظور.
10- تاج العروس للزبيدي.
11-قاموس المعاني
المراجع:
1- التصوير الفني في القرآن الكريم للسيد قطب.
Aucun commentaire