في المرآة نرى وجوهنا على حقيقتها بما فيها من عيوب لنقوم بإصلاحها أو إخفائها عن الناس،ذلكم ما يقوم به الحريصون على الاهتمام بدوام الجمال و الأناقة و الإثارة.و الذين يجعلون من الاهتمام بمظهرهم جوهر مشاكلهم..

و المرآة توجد عند كل الناس في الوقت الحاضر في كل البيوت، و تمتلئ بها أماكن و محلات التجارة و البيع و الشراء  الخاصة  بالملابس و غيرها،ودور التجميل و الحلاقة و الخياطة الخ … و لكن هناك مرآة من نوع آخر،لا تعرضها الزجاجة التي أطلق عليها اسم مرآة(و لعل القارئ يعرف القصة لتلك الساحرة التي تسال المرآة مرات ومرات،وقد صورت على شكل مسلسلات كرتونية للأطفال :مرآتي يا مرآتي من أجمل الجميلات في قصةblanche neige  )…

نعم…هنالك مرآة أخرى يلجا لها الدارسون  لاكتشاف الوجه الحقيقي للإنسان في مرحلة من المراحل، تتكون من أشعار الشعراء و كتابات الكتاب و النقاد و القصاصين و الروائيين و الصحافيين و المؤرخين على اختلاف درجاتهم و مؤهلاتهم،ومواضيع دراساتهم، و المفكرين  و العلماء و الخ و التي تعكس الحياة الثقافية و الأدبية و الاجتماعية و العلمية و الدينية و العسكرية و السياسية الخ لبلد ما أو حضارة ما، في حقبة تاريخية ماضية أو حاضرة…

ومن هذه المرآة الثقافية لعصر من العصور ما كتبه المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون  (هو أبو زيد ولي الدين الحضرمي الاشبيلي( 1332م-1406)مؤرخ من شمال افر يقيا ،تونسي المولد ،أندلسي الأصل.أشهر كتبه : »العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر » .و يقع في سبع مجلدات ،أولها المقدمة .وهو الكتاب  المشهور بمقدمة ابن خلدون.

يعتبر ابن خلدون في نظر كثير من الدارسين هو مؤسس علم الاجتماع،ويرى آخرون انه من أسس لفلسفة التاريخ( مثلا المفكر الانجليزي ارنولد توينبي).و لا ننسى انه صاحب القولة المشهورة « إذا عربت خربت ».المرجع :مقال للدكتور خالد  كبير علال ،بعنوان « موقف ابن خلدون من العرب ».و ما هو متيسر لنا من معلومات ،فان ابن خلدون كموضوع اهتمام المفكر و الناقد و الأديب و المترجم المصري طه حسين قدم فيه أطروحة الدكتوراه من جامعة الصوربون الفرنسية…و المفكر المغربي محمد عابد الجابري  الذي استغرق في الكتابة و البحث و التأليف عن نظرية ابن خلدون في العمران البشري و قانون تطور الحضارات و انحلالها، مدة 10سنوات، و آخرون ،

و يتساءل الكاتب « كبير علال » عن آراء ابن خلدون في العرب: هل قصد بهذا الذم الأعراب من أهل البادية؟أم أهل الحضر؟أم قصدهم جميعا بدوا و حضرا؟

أما فاروق النبهان الباحث فقد ذهب إلى القول أن المقصود هم العرب من سكان البادية من الصحراء العربية في مرحلة الجاهلية…

لقد كتب ابن خلدون في مؤلفه الكبير المشار إليه سابقا ما يلي »العرب امة وحشية ،أهل نهب وعبث،و إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، يهدمون الصروح و المباني ليأخذوا حجارتها أثافي للقدور ،و يخربون السقوف ليعمروا بها خيامهم ،و ليست لهم عناية بالأحكام  و زجر الناس عن المفاسد،و أنهم ابعد الناس عن العلوم و الصناعات » .

بعض الباحثين المناقضين لهذه الأطروحة رأوا أن شعوبا أخرى عرفها التاريخ كانت أكثر وحشية من العرب ،منها على سبيل المثال : المغول و التتار في أسيا و الغجر في أوروبا،والمهاجرون الأولون من الأوروبيين إلى أمريكا عملوا على إبادة شعوب من الهنود الحمر و بدم بارد و بلا خجل أو ندم أو اعتراف حتى،ولا زالوا يمارسون ساديتهم و وحشيتهم و تنكيلهم بالإنسان الآخر غير الأبيض إلى الآن ،  وهو العمل نفسه ما تقوم به  الدولة الصهيونية العنصرية من إبادة منتظمة للشعب الفلسطيني و اللبناني في حروب متعددة سابقة و حروب أخرى قد تكون لاحقة.

و إذا أضيف إلى ذلك مظاهر الحروب في القرن 20و21 و ما تركته من خراب و دمار في البنيان و الحيوان و الإنسان و النبات و الماء و الهواء و كل أشكال الحياة، ليبين وحشية الإنسان، حتى أن بعض المؤرخين رصد لهذه الظاهرة عنوانا سماها « حضارة التوحش ».إنها حروب متوحشة لا تبيد الإنسان و الحيوان و النبات و الهواء و الماء فقط، بل إنها تقضي على كل أشكال الحياة للكائنات الحية برمتها،و تعجل بنهاية العالم.و ما البحث  الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية و غيرها من الأمم  العظمى، عن مجرات أخرى صالحة للحياة البشرية إلا دليلا واضحا أن كوكبنا الأرضي لم يعد صالحا لحياة الكائنات الحية، بسبب قوة التدمير التي مارسها الإنسان كضريبة للتقدم في كل المجالات و خاصة الصناعية و العسكرية…

وأضيف أن  ما يبين وحشية الإنسان مع أخيه الإنسان وانعدام الإنسانية لديه، ما يتعرض له السجناء في الحروب(سجن كوانتنامو و سجن أبو غريب و سجون أخرى لها شهرة عالمية في العالمين المتقدم و المتخلف) ،أو ما يتعرض له المعارضون للأنظمة الديكتاتورية الفاشية في أمريكا اللاتينية و إفريقيا و آسيا من ممارسات لا إنسانية و لا أخلاقية…

لو عدنا إلى التخريب الذي يبديه بعض الناس عندنا ،لكان حكمنا على ذلك هو نفس الحكم الذي أدلى به ابن خلدون عن الأعراب و العرب من سكان البادية،أو أعراب الجاهلية كما يذهب البعض إلى ذلك.

من مظاهر التخريب ذلك الذي يطال المدرسة(بيت التلميذ) هنا في المغرب، من إتلاف للحنفيات و أبواب المراحيض و الحجرات الدراسية و بعض الأحيان حتى أبواب دخول التلاميذ و خروجهم منها، و النوافذ و السبورات و المكاتب و الكراسي و المقاعد وحفر للجدران الخارجية و كتابات لعبارات وقحة على جدران القاعات،واقتلاع النباتات من الحدائق المدرسية، و رمي كل أشكال الأوساخ في كل مكان في المدرسة، وإتلاف لسلل جمع النفايات الورقية المتواجدة في كل حجرة دراسية…الخ..

و من مظاهر التخريب التي يمارسها الإنسان المغربي في أماكن أخرى:اجتثاث النباتات بالحدائق العامة، و الاعتداء على الغطاء النباتي،و على الغابات باقتلاع أشجارها أو رمي النفايات و المخلفات من كل نوع في كل أماكنها.  واقتلاع الكراسي الإسمنتية و الحديدية المحيطة  بالمنتزهات،وتخريب  السور الحديدي و القضبان الحديدية و الأسلاك النحاسية،و رمي النفايات المنزلية و المياه القذرة من نوافذ المنازل العالية، والسجائر والأوساخ من نوافذ السيارات.و التعدي على حافلات للنقل العمومي و القطارات، و إتلاف كراسي السينما و الملاعب الرياضية،و التعدي على ممتلكات الغير أثناء المظاهرات و الاحتجاجات …الخ من صور التوحش و الوحشية التي يبديها الإنسان في وضعية طبيعية، أو كلما توفر له هامش من التعبير عن غضبه خارج مراقبة الآخرين(خصوصا من بيده السلطة) ،أو كلما توفر هامش التعبير عن الحرية الممنوح له قانونا(حق الاحتجاج السلمي) ليتحول إلى مناسبة للاعتداء على الغير و الممتلكات و الأشياء…

إن سلوك الدول مع غيرها عبر  مراحل التاريخ و إلى اليوم و الذي يتجلى في الحروب المدمرة،أو ما تقوم به الجماعات المتطرفة داخل البلدان العربية التي عرفت ثورات شعبية ، لا يهمنا أمرها في هذا الموضوع( قد تكون مدفوعة الأجر من دول أجنبية) ،بل لجأنا إلى رصد بعض السلوكات المتوحشة و الوحشية داخل المجتمع الواحد في الوطن الواحد،من طرف المواطن داخل وطنه ومع غيره من المواطنين،و تصرفه مع الممتلكات العامة أو ممتلكات الغير.

الأسئلة التي نطرحها بالمناسبة هي:هل السلوك المدمر التخريبي خاص بنا و لصيق بشخصيتنا و يجري في عروقنا مع دمنا؟،أو من مكوناتنا الجينية؟،أو خاص بساكنة بلدان الجنوب(تمييزا لهم عن بلدان الشمال) و التي يطلق عليها « بلدان  متخلفة »؟

هل يفعل هذا إنسان الشمال الحقيقي(هناك إنسان آخر يعيش في بلدان الشمال ليس أصيلا وهو من المهاجرين من بقاع الدنيا المختلفة)؟

هل القوانين الزجرية و العقوبات المالية و الجسمية لها دور في كبح جموح التدمير الموجود لدى الإنسان؟

هل للتربية الخلقية و الفكرية و الوجدانية دور في تنمية السلوك الذي نسميه (الحضاري)؟

نعرف أن التربية الغربية تقوم على منح الحرية في علاقة مع النضج الخلقي، هذا ما يسوق في مؤلفاتهم التربوية و عند علمائهم النفسانيين و فلاسفتهم في التربية.ففي نظرهم أن الحرية بدون تربية تتحول إلى فوضى،و التربية بدون حرية تتحول إلى همجية و توحش. إذن هنا نجد تناسبا بين هامش الحرية الممنوح للفرد و نضجه الخلقي .هذا يعني :حرية اكبر =نضج خلقي اكبر،و العكس صحيح: انعدام النضج الخلقي=انعدام الحرية .

هل الإنسان الغربي بدون وجود قوانين تنظم سلوكه في البيت و المدرسة و المجتمع،يمكن أن يفعل مثلنا؟ أم أن المدرسة قبل أن تعلم المعلومات تهتم بتعليم الأخلاق كما هو الحال في المدارس الأسيوية مثل كوريا الجنوبية واليابان،و التي يضرب بها المثل في الأخلاق الرائعة من احترام الآخر و الانضباط و النظام و التهذيب  و حب الواجب و القيام بالعمل الخ…؟

أخيرا  نسجل :أنها أسئلة محرقة و موجعة، نطرحها فقط على انفسنا،لنمعن فيها و لنرى أنفسنا و سلوكنا في المرآة و لو مرة واحدة.و لو مرة واحدة في العمر يجب أن نقوم بمحاسبة أنفسنا في ما نفعله من أضرار قد لا نعي بها.خاصة و أن الدين الإسلامي قائم في أساسه على محاسبة الإنسان لنفسه قبل أن يخضع للمحاسبة الإلهية. و مطالب دائما و باستمرار بتصحيح سلوكه الخاطئ،انه دين يطلب من معتنقه الخير و المحبة و السلام و العدل و الاستقامة في نواياه و أقواله و أفعاله مع نفسه أو مع الآخر.انه دعوة إلى النقد الذاتي و التصحيح الفوري للأخطاء باستمرار…

كوريا الجنوبية و اليابان و بعض الدول الأسيوية ليس دينها الإسلام و لا أي دين سماوي، ومع ذلك يعتبر إنسانها أرقى الأنواع البشرية على الإطلاق الموجودة على سطح الأرض… من صنع الإنسان الياباني و الكوري الجنوبي غير التربية الأسرية و المدرسية؟؟؟؟أليست مدارسنا  في حاجة إلى إعادة النظر في أساليب التعليم المتخلفة التي تهتم بشحن العقول بمعارف لا قيمة لها إلا في الامتحان فقط،وبعد ذلك يجرفها النسيان؟و بعد الامتحان لا تساوي قيمة بعوضة؟؟؟

ألم تنتج لنا الأساليب التعليمية و المحتويات و الوسائل إلا هؤلاء التلاميذ الذين نراهم اليوم بأعداد كبيرة، و ينعدم عندهم الحس الخلقي و الاجتماعي و الديني و الإنساني؟

الم تنتج المدرسة الحالية عددا كبيرا من التلاميذ الذين يخربون بيوتهم (المدرسة و الداخليات و الأحياء الجامعية) بأيديهم؟؟

من تجارب كوريا الجنوبية و اليابان و دول أسيوية متقدمة بإنسانها المتخلق، نقول: أليس من واجب القائمين على القطاعات التي لها ارتباط بالمجتمع أن يمنحوا  الأولوية للتربية الخلقية و التربية العقلية و التربية الوجدانية و الاجتماعية والجسمية الخ…؟أليس جديرا بهذا الوطن مواطن مغربي يشبه في أخلاقه ووطنيته و علمه الإنسان الياباني و الكوري الجنوبي؟؟؟

انجاز:صايم نورالدين