من ثمرات المنابر ـ الخطبة 2 ـ : عن أهم أركان الحكم والدولة في زمن النبوة، وهو البيعة
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله… أما بعد أيها المؤمنون، لبيان هذا الأمر- وجود دولة نبوية – نتحدث اليوم عن أهم أركان الحكم والدولة في زمن النبوة، وهو البيعة، على أن يأتي الحديث في خطب أخرى عن بقية المؤسسات التي أرسى النبي أصولها، ودعائمها الأولى، ثم لم يزل خلفاء المسلمين، ورؤساؤهم والأصوليون والفقهاء – إلى يوم الناس هذا- يجتهدون في تطويرها وترقيتها والإبداع فيها بما يتلاءم مع ما جد من الإمكانات، وتغير من أحوال الناس وظروفهم في كل زمان ومكان: فما هي اليبعة، وكيف مارس رسولنا ذلك ؟
1- أما البيعة: فهي كما وضحها ابن خلدون: العهد على الطاعة… وسميت كذلك لأنهم كانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بيعة. وقد كان النبي يدعو أصحابه إلى مبايعته على السمع والطاعة، والنصرة مراعياً بذلك صورة التعاقد والتراضي بين الرئيس والمرءوس. وقد كانت بيعته على أنواع منها: بيعة قبول الإسلام، وبيعة الجهاد، وبيعة عدم الفرار من الزحف وهي بهذه المعني ترجع إلى بيعة « سياسية » على رئاسة الدولة، وحفظ دينها وهويتها ومنها بيعة ترك السؤال وهي بيعة الاعتماد على الجهود الشخصية في قضاء الحاجات، وبناء المجتمع، وترك التواكل والاعتماد على جهود الآخرين..
وكانت أول بيعة » سياسية » منه لنقباء الأنصار في عَقَبَة مِنًى قبل الهجرة، ثم بايعهم البيعة الثانية على منعه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم،. كما في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت أنه قال: دعانا رسول الله فبايعناه. فكان فيما أخذ علينا: أن بايَعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. وبايع المؤمنين تحت الشجرة في الحديبية على أن لا يفروا من الموت، سنة ست من الهجرة. وقد بايعه الرجال والنساء، حتى قال ابن الجوزي : وَجُمْلَة من أحصي من المبايعات إِذْاك- يعني يوم فتح مكة – أَرْبَعمِائَة وَسبع وَخَمْسُونَ امْرَأَة. بايعهن دون مصافحة…وقال ابن كثير: كان رسول يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد، وساق حديث البخاري عن ابن عباس قال: شَهِدْتُ الصَّلاَةَ يَوْمَ الفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ، حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلاَلٍ، فَقَال:( يَا أَيُّهَا النَّبِيء إِذَا جَاءَكَ المُومِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ..) ، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وحج رسول الله ومعه مائة وأربعة وعشرون ألفا كلهم من المبايعين. فهذا هو الأساس الأول للدولة المدنية ظاهر جلي في ممارسات النبي ، وهو الرسول الإمام بالوحي والتنزيل قبل ذلك، ولكن في فعله تشريع لأمته من بعده. وهذه البيعة هي التي لم تزل إلى يومنا هذا مستند المغاربة في علاقتهم بأمراء المؤمنين الذين يتولون أمورهم. وهي إحدى الثوابت الوطنية المجمع عليها بينهم، الضامنة لوحدتهم، والجامعة لأمرهم.. والحامية لدينهم، وصمام أمانهم وأمنهم، والتي لا ينبغي لأجل ذلك المساس بها بأي حال من الأحوال.. والحمد لله رب العالمين..
Aucun commentaire