أحمد الجبلي
يعد التعليم من أعظم المهام والمهن، على الإطلاق، للعديد من الأسباب التي تكاد لا تحصى ولا تعد، وسأذكر أهمها الذي يزيده شرفا على شرف وهو كونه مهمة الأنبياء والرسل ( ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة الآية 2  ويعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبرز وأعظم معلم عرفته البشرية جمعاء، ويعد كتاب  » الرسول المعلم » للشيخ عبد الفتاح أبو غدة أحسن كتاب معاصر تحدث عن مهمة التعليم التي زاولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جمع فيه أزيد من أربعين وسيلة من الوسائل التعليمية التي استعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه.
صاحب هذا الكتاب هو أحد العلماء الكبار والمجاهدين الأفذاذ في القطر السوري الجريح، ولد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بمدينة حلب سنة 1917، حاز الشهادة العالمية من الجامع الأزهر تخصص أصول التدريس، ترأس أحيانا ودرس أحيانا أخرى بالعديد من الجامعات في الوطن العربي سواء في سوريا أو السعودية أو السودان أوالهند. سجن سن 1966 مع زمرة من أهل الفكر والعلم  في سورية، وأثناء حرب النكسة اضطر الحاكمون إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين، ومن أشهر شيوخه وأساتذته العلامة محمد بن زاهد الكوثري والشيخ مصطفى صبري رحمهما الله تعالى. توفي سنة 1997 بالرياض بعد نزيف داخلي تاركا وراءه إرثا علميا ضخما يفوق السبعين مؤلفا.
إن أول ما فعله الشيخ أبو غدة في بداية كتابه هو تأصيل مهمة التعليم في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلاقا من القرآن والسنة.
إذ قال: إن القرآن الكريم يثبت معلمية رسول الله صلى الله بنص صريح حيث قال الله تعالى في الآية الثانية من سورة الجمعة : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)
كما أثبتت السنة النبوية الشريفة هذه الصفة والمهمة العظيمة مهمة التعليم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك يذكر:
روى ابن ماجة في سننه، والدارمي في سننه واللفظ لابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ‘خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين: إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله تعالى، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يعلمون ويتعلمون، وإنما بعثت معلما، فجلس معهم. »
وروى مسلم في كتاب الطلاق من صحيحه، في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته الشريفات رضي الله عنهن، وقد بدأ بعائشة منهن فاختارته رضي الله عنها ورغبت منه أن لا يخبر غيرها أنها اختارته، فقال لها عليه الصلاة والسلام:  » إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا »
ويورد الشيخ أبو غدة هنا تعقيبا جميلا للإمام الغزالي رحمه الله تعالى على أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرد على أمنا عائشة إذ يقول:  » وفي إبهامه صلى الله عليه وسلم وعدم مصارحته ومواجهته لعائشة بالزجر، إشعار بأن من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المعلم المتعلم… باللطف والتعريض ما أمكن، من غير تصريح، وبطريق الرحمة من غير توبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار. »
ولم يكتف أبو غدة بهذه الأمثلة التي تؤصل لمهمة التعليم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أضاف عليها أحاديث عديدة، وكأنه يريد القول أو الإشارة إلى أن مهمة التعليم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغت مبلغ التواتر لكثرة الأحاديث الواردة فيها، ونظيف بدورنا هنا حديثا آخر ذكره أبو غدة رحمه الله و رواه الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: « بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم،
فقلت: واتُكل أمياه؟ ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاضهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني، فبأبي وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن »
إن أوصاف المربي الناجح التي ذكرها معاوية بن الحكم السلمي حددها في ثلاث وهي عدم الكهر أي عدم القمع والقمع يهين المتعلم ومن شأنه أن يحطم شخصية الإنسان ويجعلها في تطبيع مع الذل والهوان وهو الأمر الذي يتنافى ومقاصد التربية الإيجابية التي من بين ما تهدف إليه بناء شخصية قوية لدى المتعلم، وثاني صفة هي عدم الضرب، والضرب من منظور علمي في علوم التربية وعلم النفس التربوي يأتي في الدرجة السبعمائة ضمن الوسائل التربوية، وبشروط، كما أنه تعبير صارخ عن الفشل في التربية، وهو منهي عنه شرعا وقانونا وتربويا، لأن الضرب لا يكون إلا لمن نكره في حين نحن نحب أبناءنا وفلذات كبدنا، وإنما نكره السلوك غير السوي الذي يزعجنا وهو الأولى بالضرب إن كنا فاعلين. والصفة الثالثة التي ذكرها معاوية هي الشتم، وهي خصلة في علوم التربية تعد من أقبح الوسائل والطرق في معالجة السلوكات غير السوية وهو أبشع من الضرب، أولا لأنه دائما ما يكون سلبيا، ولا يوجد شتم إيجابي، مما سيجعل المتعلم يتلقى سمات سلبية خطيرة يرمى بها، ومن الممكن أن يتبرمج عليها فيصدقها، كأن يصدق بأنه فعلا غبي لكثرة وسمه بالغباء، أو يقتنع بأنه فاشل لكثرة ما تم سبه وشتمه بلقب الفاشل. كما أن الشتم يتعارض مع قاعدة تقبيح السلوك وليس الذات، أي كأن يقول المربي للمتعلم عندما يصدر عنه سلوك مشين: أنت أذكى من أن تقع في هذا، وهنا تم التحقير من السلوك ولكن مع رفع الذات وتمجيدها، لتعلم أنها ذات فاضلة وذات مستوى عال، وهذا السلوك لا يتوالم معها لأنه سلوك حقير ووضيع.
وقد ذكر الشيخ أبو غدة تعليقا جميلا للإمام النووي على هذا الحديث في شرحه لمسلم فقال:  » وفيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ومن رفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إليه »
إننا عندما نلقي بإطلالة على تاريخ البشرية كلها وبالخصوص على المعلمين الكبار الذين داع صيتهم في الحاضر والماضي، سواء قبله عليه الصلاة والسلام أو بعده، نجدها مجرد أسماء تتضاءل وتتقلص قبالة معلم البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد أي معلم أو مربي في التاريخ تخرج على يديه عدد أوفر وأهدى من رسولنا الكريم. لقد تخرج على يديه عدد غفير من  الأصحاب والأتباع، خصوصا إذا تساءلنا كيف كانوا قبله؟ وكيف أصبحوا بعده؟
إن كل واحد منهم دليل ناطق على عظمة هذا المعلم الفريد والأوحد، وكما ذكر الإمام القرفي في كتابه الفروق:  » لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه، لكفوه لإثبات نبوته »
ولعل هذه المعجزة هي التي حدث بالمؤرخ والكاتب الانجليزي طوماس كارليل ليقول كلمته الشهيرة في العرب: » هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدة قرون، فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد قلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم »
ويعقب الشيخ أبو غدة على هذا الكلام فيقول: بل ونزيد على هذا فنقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعلم الكبير تدين لتعليمه وتربيته أمم كثيرة، وتبجله شعوب وأقوام مختلفة في شتى أنحاء العالم، تعد بمئات الملايين، تخضع لقوله، وتسترشد بهديه، وتلتمس رضوان الله في اتباعه والاقتداء به.
ومن تأمل حسن تعليمه وتربيته للعرب مع قسوة طباعهم، وشدة خشونتهم، وتنافر أمزجتهم، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقاذوا إليه، والتفوا حوله، وقاتلوا أمامه ودونه أعز الناس عندهم : آباءهم وأقاربهم. وآثروه على أنفسهم، وهجروا في طاعته أحباءهم وأوطانهم، وعشيرتهم وإخوانهم، وكان كل ذلك منهم وأعظم منه، منهم له صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا درس كتب الأولين ولا علوم التربية عند المربين السالفين.
فما هي إذن أساليبه عليه السلام في التعليم والتربية:
وقبل ذكر الأساليب التعليمية التي استعملها صلى الله عليه وسلم والتي ذكرها الشيخ أبو غدة، لابد من الحديث عن نقطتين تمهيديتين هما:
1 – التحذير من العلم الذي لا ينفع:
روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  » اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع…الحديث »
2 – الرحمة واليسر في التعليم وترك العنت:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة وترك العنت وحب اليسر، والرفق بالمتعلم، والحرص عليه، وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة: بالمكان الأسمى والخلق الأعلى قال الله تعالى:  » لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتهم، ( أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها) حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم)

وروى الترمذي أيضا في الشمائل عن الحسن بن علي قال:قال الحسين بن علي: سالت أبي علي بن أبي طالب عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر( أي دائم طلاقة الوجه والبشاشة مع الناس)، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب (والصخب معناه اضطراب الأصوات وشدتها للخصومة) ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، ( أي لا يبالغ في المدح والثناء وإنما ينزل الناس منازلهم ويقول فيهم بالعدل والإنصاف) ، يتغافل عما لا يشتهي ( أي يظهر الغفلة والإعراض عما لا يستحسنه من الأقوال والأفعال تلطفا بأصحابه ورفقا بهم، وترفعا عن التدخل في كل شيء)، ولا يؤيس منه راجيه (أي لا يجعل راجيه آيسا من كرمه وجوده وتلبية ما أمله منه)، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء (أي الجدال ولو بحق) والإكثار (أي من الكلام أو المال) ومال لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه.وإذا تكلم أطرق جلساؤه ( أي نظروا بأعينهم إلى الأرض واستمعوا بإصغاء مع سرورهم وارتياحهم بحديثه) كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ. حديثهم عنده حديث أولهم( أي من بدأ بالكلام أولا منهم فهو المتحدث حتى يفرغ ولو كان أدناهم، ثم يتحدث غيره بعده) يضحك مما يضحكون،  ويتعجب مما يتعجبون. ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ( أي يصبر عليه في جفاء نطقه وغلظة كلامه وخشونة سؤاله، وقد كان يقع هذا من جفاة الأعراب أهل البادية، الذين لم يختلطوا بالناس) حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه ( أي فأعينوه واعطوه) ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (أي لا يقبل المدح إلا من مكافئ على إنعام حصل من النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو لا يحب أن يحمد بما لم يفعل، صلى الله عليه وسلم)، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجور( أي حتى يقع منه مجاوزة الحق) فيقطعه بنهي أو قيام. »
وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل واحد من جلسائه وأصحابه حقه من الالتفات إليه والعناية به، حتى يظن كل واحد منهم أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نلاحظ من خلال كل هذه السمات والأفعال التعليمية الراشدة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كم نحن بعيدون عن منهجه الرائع والمدهش في احترام المتعلمين والإقبال عليهم وعدم مقاطعتهم الحديث والصبر عليهم، وعدم سبهم و شتمهم و الضجر منهم.
يتبع