قراءة في كتاب » أزمة الوعي الديني » – إسهاما في محاربة الفكر المتطرف لدى المتدينين – الحلقة الثانية-
أحمد الجبلي
عندما يكون الأكثر تدينا الأكثر تطرفا؟
في معرض حديثه عما أسماه بالإيمان المغلوط، يضرب الأستاذ هويدي مثالا صارخا عرفه التاريخ الإسلامي، وهو مثال في أبهى صور القبح والجريمة عندما يتم الجمع بين « ورع وإيمان » وسفك الدماء وقطع الرؤوس.
هذا الأنموذج تمثله تاريخيا فرقة الخوارج التي تذكر كتب التاريخ من ورعهم وإيمانهم ما يوحي ويوهم بأنه يدخل في صنف أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
ومن ذلك ما ذكر المبرد في الكامل: » إنهم في جميع أصنافهم يبرؤون من الكاذب ومن ذي المعصية الظاهرة »، وقد قُتل أحدهم فاستدعي خادمه ليقدم شهادة في سيده فقال: » ما أتيته بطعام بنهار قط ( من كثرة الصيام) ولا فرشت له فرشا بليل قط ( من كثرة القيام) ». وكتب الثرات الإسلامي تعج بذكر زهد وجهاد الخوارج، وقد جمع الأستاذ أحمد أمين العديد من النقول في هذا الصدد في كتابه » فجر الإسلام » وكتب الشيخ محمد أبو زهرة عنهم وعن ورعهم في كتابه » تاريخ المذاهب الإسلامية » منها ما ذكره أبو حمزة الخارجي بقوله واصفا إيمان أصحابه وأقرانه وورعهم وتقواهم حيث قال: » شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، ( أي أن أجسادهم هزيلة من كثرة العبادة ودوام السهر)، فنظر الله إليهم في جوف الليل، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن. كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأنه زفير جهنم بين أذنيه.
ونفس الخارجي يستمر في وصف إقبال الخوارج على الاستشهاد في سبيل الله وهم في قمة البسالة والشجاعة فيلقي أحدهم بنفسه في ساحة الوغى في سبيل الله شوقا واستعجالا لدخول الجنة ونيل رضا الله، حتى إذا سقط مخضبا في دمه » أسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طير، طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله ».
فيعلق الكاتب قائلا: » هؤلاء العابدون الساجدون، رقاق القلوب أمام الله، كانوا من أقسى الناس وأغلظهم على مخالفيهم من المسلمين »
وهنا يتحول الحليم إلى حيران، فهؤلاء المؤمنون الأتقياء الأنقياء الأصفياء، ومن غيرهم تختار في الصفاء والبكاء والورع والخشية، للأسف كانوا مكفرة للمسلمين ونكلوا بهم أشد ما يكون التنكيل، فواصل بن عطاء مؤسس التيار المعتزلي عندما سقط بين أيديهم ادعى أنه مشرك مستجير، وبذكائه رأى أن هذا ينجيه أكثر مما ينجيه لو قال أنه مسلم مخالف لهم. ويقينا لو قال كذلك لضربوا عنقه.
وتقول كتب التاريخ والمذاهب الإسلامية أنهم كانوا لا يرحمون امرأة ولا طفلا رضيعا ولا شيخا فانيا. ولم يكونوا ليستسيغوا أو يقبلوا من مسلم أن يخالفهم الرأي فيقول أن عليا قد أخطأ في التحكيم، أو أن عثمان رضي الله عنه قد أخطأ فيما أحدث، بل لابد إذا أراد النجاة بجلده أن يقر ويقول بكفرهما وكفر من ناصرهما وإلا فالويل والقتل. ومن هؤلاء الضحايا ضحايا هذا التطرف الذي عاد لواقعنا بفضاعة هي هي نفسها، نذكر عبد الله بن الصحابي الجليل خباب بن الأرث وزوجته الحامل، لقد ذكر المبرد في كامله أن جماعة من الخوارج لقوهما، ووجدوا ابن خباب قد علق في رقبته مصحفا، قالوا له: إن الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك، ثم سألوه عن علي وعن عثمان، فقال فيهما خيرا، ولما سألوه عن التحكيم أبدى تقديرا لبصيرة علي، فنهروه، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه. ومن غرائب الأمور أنهم أرادوا أن يشتروا نخلة من نصراني، فأراد أن يمنحها لهم، فأبوا وقالوا: والله ما كنا لنأخذها إلا بثمن. فعجب النصراني وقال لهم: عجبا تقتلون رجلا مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون منا نخلة. ومن أخبارهم العجيبة والغريبة أنهم التقوا بمسلم ونصراني، فقتلوا المسلم، وأوصوا بالنصراني خيرا، وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم. إلا أن خوارج عصرنا لا يرحمون مسلما ولا نصرانيا كما يفعل الدواعش.
إن هذا الذي ذكرناه من ورع وإيمان وتقوى وحب الله وابتغاء الدار الآخرة، إنما هو إيمان مغلوط، لأن الإيمان الصحيح دائما تتبعه ثمار ناضجة يانعة حلوة وقد وصفه الله تعالى كالشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولذا عرف الدين الإسلامي المسلم بالذي سلم المسلمون من لسانه ويده، وحدد حق المؤمن على أخيه في عدم الخذلان وعدم التكذيب وعدم التحقير، ما بالك بالقتل والتنكيل، وحدد بأن المؤمن على المؤمن حرام دمه وماله وعرضه ومن حق المؤمن على أخيه المؤمن المودة في الصدر أي أن هذه المودة أصل أما الاختلاف ففرع وإذا عاد الفرع على الأصل بالبطلان فهو باطل، ومن هنا اشتقت قاعدة اختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
وينتبه السيد هويدي إلى أن هذا الإيمان المغلوط المزيف، الذي تترتب عنه جرائم وسفك الدماء لا جنسية له ولا لون حيث هو قاسم مشترك بين جميع الشعوب والأجناس من ذلك نذكر مذابح الكاثوليك، والبروتستانت، وفظائع وجرائم محاكم التفتيش التي قامت تحت مبرر تطهير العقائد من الزيغ والانحراف، المشانق التي نصبها اليعاقبة بعد الثورة الفرنسية للدفاع عن قيم الحرية والإخاء والمساواة، والخطايا التي اقترفها شباب الحرس الأحمر في الصين باسم الثورة الثقافية…
إن خلاصة هذه التجارب تنبؤنا بأن الإيمان المزيف والمغلوط ليس حكرا على أحد دون آخر، وأن العديد من أصحاب النوايا الطيبة والنوايا الحسنة قد لطخوا أياديهم بدماء الناس وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وعودا إلى أنموذج الخوارج، والذي يجد له انبعاثا جديدا في عصرنا، نقول إنهم كما تجمع كتب التاريخ كفروا عليا بن أبي طالب وارتكبوا في حقه أبشع الخطايا والجرائم، ولكن عليا أعطى لنا صورة مغايرة تماما في الإقرار بالحق في الاختلاف والتمييز بين أمرين نحن في عصرنا في حاجة لوعيهما: الأول هو الحرية والحق في إبداء الرأي حتى ولو كان يطال المساس بولي الأمر، والثاني هو عدم السماح بالإخلال بالنظام العام.
فقال رضي الله عنه: » لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » إن الإمام علي يشهد لهم بصدق نيتهم أي أنهم طالبوا حق ولكن خانتهم الوسائل والفهم الصحيح الذي يرشد للوسيلة الصحيحة لإحقاق الحق. وهذا ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز حين خاطبهم بقوله: » إني علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا أو متاع، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها »
كما اعتمد علي رضي الله عنه في تعاطيه مع الخوارج الحوار والإقرار بالحق في الاختلاف، فكان يبعث الرسل لمناقشتهم وإقناعهم حتى يعودوا عن أفكارهم حتى أنه قال مقولته الشهيرة: » لكم علينا ثلاث: » لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء، والفيء هو ما يحصل عليه المسلمون من مال وغيره بدون حرب ولا غزو.
ومن الوعي الإسلامي والفقه في الدين ما ذهب إليهم الفقهاء انطلاقا من هذا السلوك الحضاري الذي تعامل به الإمام علي مع الخوارج، فاستنبطوا أحكاما ذات قيمة كبيرة منها قولهم: من خالف رأي الجماعة وخرج على الناس بفكر أيا كان شذوذه، وإن ذهب في ذلك إلى حد شتم الإمام وانتقاده علنا، ترك وشأنه. وللإمام أن يوضح له ولأمثاله فساد اعتقادهم. أما من يستخدم العنف ضد النظام الإسلامي القائم، فردا كان أو جماعة، فعلى الحاكم أن يقاتله، بهذا قال الماوردي في الأحكام السلطانية، والغزالي في المستصفى، والسرخسي في المبسوط وغيرهم من العلماء الذين اجتهدوا في ضبط علاقة الحاكم بالمحكوم وأسسوا لثقافة سياسية راشدة تحدد حدود التصرف الفردي والجماعي وحماية الحدود التي تجاوزها قد يؤدي إلى هلاك الدولة والشعب على السواء.
ومن جميل ما سجله الأستاذ هويدي من ملاحظات، وزاده من تنبيهات، هو لجوؤه إلى قياس تجارب التاريخ على واقعنا المعيش في التعامل مع مثل تلك المظاهر مظاهر التطرف والشذوذ والخروج عن الجماعة، فحدد طريقتين في التعاطي مع هذه المظاهر الأولى عقابية والثانية علاجية، حيث ذهب إلى أن الذي أخطأ في طلب الحق فعقابه واجب في حالات معينة، وإصلاحه أوجب على كل حال.
وللأسف فإن الأغلبية من الذين تصدوا لهذا الموضوع نهجوا نهج العقاب وتفننوا فيه وصاروا يجمعون كل صغيرة وكبيرة، وأضافوا من عندهم الكثير من أجل تحقيق الإدانة، ولا أحد كلف نفسه طرح سؤال كيف السبيل لمعالجة الأمر في جذوره حتى لا يتكرر؟ وكيف يمكن تحصين الشباب من الفكر المتطرف والغلو وتحويلهم إلى أناس يفهمون الدين ويفقهون مقاصده، شغلهم الشاغل جلب المصالح ودفع الضرر عن بلادهم وأبناء بلادهم والانخراط في كل الأفعال الجادة البناءة إسهاما منهم في التنمية والتقدم والازدهار.
إن التركيز على العقاب بشكل متطرف لا قانوني من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية وخيمة، لأن الفكر يصنع المعتقد والمعتقد يصنع السلوك، وبالتالي فالتركيز على علاج الحوار ومحو القناعات الفاسدة هو أنجع طريق لسد جميع السبل في وجه التطرف والانحراف والقضاء على الإرهاب، فالذي يمكن أن تصل به الجرأة والسفاقة لتفجير نفسه في حانة أو باحة أو متجر أو أي مكان، أو لكسر منصات غناء وموائد عشاء بها خمر، قد شحن فكريا وأقنع بأن هؤلاء يستحقون القتل وأنه لو مات فهو شهيد يحشر في زمرة الأصفياء الأتقياء الأنقياء. فاقتناعه بهكذا فكر تحول لديه إلى قناعة ومعتقد، والمعتقد يعتبر المتحكم الرئيس في السلوك.
ولذا فاستهداف الفكر بتغييره وتصويب كل الانحرافات الفكرية في الرأس هو السبيل إلى خلق إنسان جديد يعرف الدين بفقه ويكون لديه معايير وقيم إسلامية راسخة بها يقارن وبها يزن الغث والسمين والحق والباطل وما يقبل وما يرفض، وهكذا يجنب العباد والبلاد كوارث نحن في غنى عنها، ويجنب نفسه عقاب الله والخزي والويل والثبور يوم القيامة.
Aucun commentaire