حفظة كتاب الله عز وجل يتحولون إلى أجواق عرض بسبب تزايد الطلب عليهم
حفظة كتاب الله عز وجل يتحولون إلى أجواق عرض بسبب تزايد الطلب عليهم
محمد شركي
اعتاد المغاربة بحكم تدينهم التبرك بكتاب الله عز وجل في أفراحهم وأتراحهم تيمنا به ، حتى صار استدعاء حفظة كتاب الله من أوجب الواجبات عندهم . ولا يوجد بيت من بيوت المغاربة لم يتردد عليه هؤلاء الحفظة دون أن يسأل الناس عن سرائرهم ،لأن من انتسب إلى القرآن الكريم حظي بثقة المغاربة الذين يقدسونه أيما تقديس . وتوارث المغاربة استضافة الحفظة من قراء كتاب الله عز وجل ، وإطعامهم ، وصلتهم بصلات ما قل منها وما كثر حسب أحوال المستقبلين لهم . ودأب الحفظة على التكتل في مجموعات تعرف أحيانا باسم أحدهم . وكان الناس يحرصون على التبرك بأكثر المجموعات ورعا وتقوى استجلابا للخير واليمن والبركة ، والدعاء الصالح في كل مناسبة من مناسباتهم. ومع مرور الزمن بدأ بعض الشباب يحرص على تجويد أدائه لكتاب الله عز وجل ، والمغاربة يشتهرون أيضا بطرق مختلفة في التجويد حسب جهات الوطن ، ويتنافسون في القراءات الفردية والجماعية ، ويتفاخرون بذلك أيما افتخارا . ومعلوم أن التغني بالقرآن الكريم من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ولكنه التغني المشروع المضبوط بقواعد معلومة ،لهذا يتنافس المجودون والمرتلون في تجويده وترتيله ، وهم مأجورون إن شاء الله تعالى على ذلك . وغالبا ما تجلب أصوات المجودين والمرتلين الناس إلى بعض بيوت الله عز وجل ، ويرغبون في أن يدخل هؤلاء بيوتهم لجمال أصواتهم . وإذا كان الناس فيما مضى يحرصون على التبرك بأهل التقوى من الحفظة ، فإنهم في هذا العصر لم يعودوا يشترطون الصلاح والتقوى والورع في المقرئين والحفظة ، بل صاروا يفضلون أصحاب الأصوات الجميلة والمؤثرة بغض الطرف عن سرائر وأخلاق أصحابها .
وصار هذا الذوق الذي فرضه العصر هو المهيمن على غالبية الناس حتى تحول حفظة كتاب الله عز وجل إلى ما يشبه الأجواق الفنية ، وصار بعضهم يستعمل الآلات والأجهزة الحديثة للتحكم في الأصوات على طريقة أهل الطرب والغناء. وخرجت سنة التغني بالقرآن الكريم عن إطارها الصحيح ، وصار القرآن الكريم طربا لا يطلب لدلالته وقدسيته ، وإنما يطلب لأصوات الذين يتغنون به. ولما أحس هؤلاء المطربون بإقبال الناس طربهم تحولوا إلى أجواق طرب ينتقلون بين البيوت ، ويشترطون عوض الصلات التي كان الناس فيما مضى يصلون بها الحفظة الأثمان على غرار أثمان الأجواق الموسيقية . وتنافس الناس في هذه الأثمان حيث أغلاها أصحاب البيوت الموسرة الشيء الذي أفسد طباع الحفظة ، فصاروا لا يقبلون إلا دعوات أهل اليسار ، ويتجنبون بيوت بسطاء الناس وفقرائهم . و كنت أسمع حكايات بعض هؤلاء الحفظة ولا أكاد أصدقها ، وأعتبر ذلك من قبيل التعريض بأهل القرآن الكريم حتى جاء اليوم الذي كلفني أحد الأصدقاء بدعوة بعض المقرئين ، فدعوت بعضهم ، وجاءوا بآلاتهم المتحكمة في الصوت والصدى ، وقرءوا بما عرفنا وما جهلنا وأنكرنا من القراءات . وفوجئت بهم وهم يتبادلون النظرات والهمسات الساخرة فيما بينهم ، وطننت بهم خيرا، وأولت ذلك على أنه تفاهم بينهم على كيفيات الأداء . وانصرفت المجموعة وكانت مكونة من خمسة أعضاء ، وكنت على يقين من أن صديقي سيحسن صلتهم في مناسبة تشييع والدته رحمة الله عليها إلى مثواها الأخير. وفي الغد اتصل بي أحد أعضاء فرقة الطرب القرآني يشكو ضآلة الصلة ، فوعدته للتو، وقبل سؤال صديقي عما كان منه من بخس صلتهم بتعويض لجبر خواطرهم ،لأنني كنت واسطة بينهم وبين صديقي صاحب المصيبة . وبعدما تبينت الأمر مع صديقي تأكد لي أنه وصلهم بمبلغ 1200 درهم ، فلما راجعت عضو الجوقة في شكواه الباطلة ، أخذ يعدد لي فاتورة الأداء التي تضمنت آلات التحكم في الصوت ، والهاتف الخلوي المحمول ، وسيارة النقل تماما كما تعدد الأجواق الموسيقية فواتيرها ، وكما تدقق النكافة مصاريفها .
وبعدما كنت أكبر هؤلاء الحفظة صغروا في عيني أيما صغار لما صاروا عليه من دناءة ، وسوء خلق لا تليق بحملة كتاب الله عز وجل . وعدت بذاكراتي إلى ما كان بينهم من غمز وإسرار للقول وسخرية ، وهم في مقام تلاوة كتاب الله عز وجل ، ومدح رسوله صلى اله عليه وسلم . و بعد هذا الحدث خبرت أمر بعض هؤلاء مرة أخرى ،عندما طلب مني أحد الأقرباء استدعاءهم لحفل عقيقة ، فحصلت على وعد من قائد جوقة قرائية ، فلما حضر موعد نقله هو وفرقته إلى بيت المحتفي بهم ،اعتذر بدعوى أن غيره سبقني إلى دعوته لحفل زفاف مع أنه كان قد وعدني بحضور حفل العقيقة من قبل . ومع أن الفرق طفيف بين حفل العقيقة وحفل الزفاف، لأنهما معا مناسبتان سارتان خلاف مناسبة الجنائز التي تكون وجبتها أقل إغراء من وجبات المناسبات السارة عادة ، وتكون صلتها أكبر قيمة ، إلى جانب كون حفلات الزفاف فيها ما يغري أعضاء الشباب بالطرب ، والتنفيس عن المكبوت وما لا يعلمه سواهم من الأسرار الخفية . وبالأمس تكرر نفس الحدث مع رئيس جوقة قرآنية أخرى، حيث وجهت له دعوة خلال بداية الأسبوع ، فوافق عليها ، وتم الاتفاق على نقله بعد صلاة العشاء من مسجده هو وجوقته، إلا أنه اعتذرفي آخر لحظة بدعوى أنه تذكر وعدا كان قد وعد به غيري لإحياء الليلة معه ، وذلك قبل أسبوعين ،فأنساه الشيطان ذكر الوعد السابق، فأعطى وعدا لاحقا على وعد سابق ، لينقض آخر وعد حرصا على المروءة .
ولعل هذا الشاب المطرب الذي يعرف قيمة طربه قد قارن بين الدعوتين فاختار أيسرهما ـ من اليسار ، وليس من اليسرـ كما جاء في السنة . ومن غبائه الذي خيل إليه أنه فطنة وذكاء ،أحالني على فرقته من الدرجة الثانية أو الثالثة ، وقد علمت أن لهؤلاء درجات ورتب ، وما كنت أصدق ذلك حتى عاينته . وانصرفت تاركا فرقة التعويض في انتظاري ، حيث وعدت بالعودة إليها بنية إخلاف الوعد إن شاء الله تعالى ، ليذوق قائدها الشاطر ما أذاقني من مرارة إخلاف الوعد في آخر لحظة ، ولو أنه أخبرني عقب صلاة المغرب، لالتمست من يعوضه . وعدت إلى صاحب المناسبة ، فأخبرته بما حدث ، فعمد إلى المصاحف ، ووزعها على المدعوين فقرءوا ما تيسر من كتاب الله عز وجل دون » جميل الكراب » كما يقول المغاربة . وتألمت كثيرا لما آل إليه أمر بعض الحفظة الذين ركبهم الغرور، لأن الناس صاروا يقبلون على قراءتهم ، وصاروا يعرضون أداءهم كما تعرض البضاعة والأزياء ، وصاروا يتعاملون بمنطق الربح والخسارة عوض منطق الأجر المحتسب عند الله عز وجل . وما أظن البركة واليمن تكون حيث يكون هؤلاء ، وقد صارت عيونهم تتطلع إلى بيوت اليسار ، وما فيها من الطيبات وحسن الصلات ، وتزدري بيوت الفقر ، وما فيها من بسيط الطعام وهزيل الصلات. وأنصح بيوت الفقر من الآن فصاعدا أن يقتني أصحابها المصاحف للتبرك بكلام الله عز وجل في مناسبات السراء والضراء ، وقد أخبرت أن هذه الظاهرة بدأت بالفعل تنتشر بسبب غلاء الأجواق القرآنية ، وانصرافها إلى بيوت اليسار، وانحرافها عن تلاوة كتاب الله عز وجل ابتغاء وجهه والدار الآخرة . ولقد تغير كل شيء في هذا الزمن حتى التبرك بكتاب الله عز وجل صار من ضمن المعروضات والمبيعات ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
Aucun commentaire