بِنَاءٌ تَخيِيلِي، يتخلّلُهُ وابلٌ من الأبعَادِ الإشَاريّةِ،من إعداد والتّلميحاتِ الدّلاليّةِ فِي رواية: – نِسَاءٌ فِي حَياةِ رَجُلٍ – للكاتب المغربي الخضير قدوري
بلقاسم سداين
بعد سلسلة من الاصدارات في مجالات مختلفة يعود الكاتب المغربي الخضير قدوري ليصدر رواية جديدة أثار لها عنوان [نساء في حياة رجل] وقد صدرت هذه الطبعة الأنيقة عن مطبعة وراقة بلال بفاس، في 152 صفحة من الحجم المتوسط
.
وهي رواية مثقلة بقضايا متنوّعةٍ في مواضيعها، ومتعدّدة في اساليبها. يلتقطُ كاتبُها (الخضير قدوري) تفاصيلَ ايقاعات الحياة بمهارة فنية، ويرصدُ واقعَ شخصياتها بمكونات أدبيّة. فتتناسل هذه القضايا على امتداد مساحة الرواية، متصارعةً حيناً، وأحايينَ أخرى متناغمة، ومتجانسة..ويهدف الكاتب من خلال مشروعه الروائي هذا إلى أن يجيب عن أسئلة الذات بمتعة الحكي وبراعة السرد. وتقنيات الوصف..تماشياّمع المقولة القائلة (في قلب كل رواية سؤال أو إشارة أو استفهام ).
فيشتغل هذا العمل السّردي على عملية التخييل الذاتي الذي هو محتوى سردي أقرب إلى السيرة الذاتية auto biographie منه إلى الرواية..لأن الكاتب وجد في هذا الجنس الأدبي، وفي هذا المحتوى السردي مستودعاً لرؤيته في مجال الكتابة، والإبداع. ووجد فيه متنفساً لبث محكياته أيضاً..ليفرغ فيه نداءاته الضاجة بداخله التي لم تمهلها لا أعماقه، ولا خلفية الذاكرة من مزيد احتضانها. وهو مؤمن بأن هذا اللون الأدبي أثبت على امتداد التاريخ أهميته، ودوره داخل المجتمع الثقافي. وكفيل بالكشف عن المسكوت عنه..واسدال الستار عن وقائع اجتماعية انسانية..
فجاء هذا المشروع الروائي مستجيباً لأنا الكاتب الممتدة أفقياً في زمن بعيد..وهو يقدم صوراً من واقع يمسك بلحظاته العابرة، تدونها أربع عشرة رحلة متحركة ومنتقلة في زمان وفي مكان ما. وهي تطرح قضايا جوهرية لإنسانية الإنسان على بساط أفضيّة وامكنة هنا..وهنالك في المغرب وفرنسا وفي الجزائر أيضا. أحداثها تقف في مواجهة صعوبات تنتصب سدا منيعا دون تحقيق حلم الإنسان وطموحاته الطبيعية، والمشروعة، إنه بحث مستمر ودائم عن حياة كريمة مستقرة، ٱمنة لحياة شخوص تتارجح بين الحب، والكراهية/الألم، والأمل/الطموح، والاحباط/الموت، والحياة/الحرية، والتضييق/الغربة، والاستقرار/الاستبداد، والانصاف/..فنقرأ في هذه الرواية ما يلي:
» تلك هي الحياة صراعات دائمة بين الخيبة والغلبة، والاحباط والظفر، والخير والشر، والياس والانكسار، والأمل والاستبشار..ص 15 الرحلة الأولى.
مما جعل المحتوى السّردي يعج بالحركة..ويضجّ بالأحداث لنساء في حياة رجل. فتطالعنا عتبة لوحة غلاف الكتاب بصورة تبدو فيها ثلاث نساء زوايا نظراتهن مختلفة يقابلهن رجل يدير ظهره إلينا، ومهتم بهن، وعيونه شاخصة نحوهن دون غيرهن..وغير مبال إلا بهن..وهي عناصر تؤتث دلالة الغلاف الملون باللون الأسود الصافي الذي يحيلنا بدوره على أجواء الرواية، وما يحمله اللون الأسود من قتامة ودلالات ايحايئة..وهي صور متناغمة مع العنوان في مستواه اللفظي ومنطوقه الصوتي..ونحن نتأمل هذا المدخل نجده يفجر فينا كل معروف، ويتجاوز كل مألوف..
كيف تكون مجموعة من النساء في حياة رجل؟
نساء نكرات غير محددات، ورجل نكرة أيضاً على مستوى التركيب اللغوي اللفظي لكن أجواء السياقات السردية سترفع عن الجميع ستار البناء للمجهول، وسيجيب عنه المتن السردي، وسفرياتنا مع الكاتب عبر رحلاته الروائية. وسيتدفق شلال الحكي، وسيول رواسب الذات أحداثاً تدور حول شخصية محورية إسمها (ابراهيم) تسكنه نساء ثلاث وترتبط به، وتربطه بهن روابط وعلاقات..وتقدم لنا الرواية صورا بليغة لأوضاع تاريخية عن المغرب والجزائر وفرنسا..بلغة سردية يتخللها انسياب وصف يجمع بين المشهدية، ومحاولة القبض على ومضات تاريخ هذه البلدان الثلاثة في زمن ما بعد الاستقلال، وما عرفه الانسان من شرخ لواقع مؤلم، وموجع وشروخ الذات بألم غائر. فهي مرحلة تقطر معاناة. وهو ما تجسده ظروف الاغتراب، ومظاهر الغربة لشخصية (إبراهيم ) أحد أبطال هذا العمل الروائي وتوثقه مقاطع سردية استرجاعية، فتحاول شخصية (ابراهيم) استحضار ذكريات هاربة على أرض وطنه الأصلي عبر مقاطع وصفية أيضا..مما جعل من هذه الرواية متن خاص، ومتميز نظرا للحضور المكثف للذاكرة، وانسياب مخزونها..فإذا كانت هجرة (ابراهيم)، وانتقاله من موطنه الأصلي لٱخر (فرنسا) بدافع أوضاع سياسية،واقتصادية مزرية بوطنه. فإن تهجير(هاجر) من (الجزائر) كان قسري لأن هذا الانتقال الجغرافي اللاإرادي من دولة عربية شقيقة، وجارة لم يكن أقل حدة، أو أقل تأثيرا على (هاجر) بنظيره خارج البلدان العربية (أوروبا) فإن تهجير (هاجر )، واقتلاعها من جذورها الممتدة عميقا في تربة الشقيقة (الجزائر) لا لشئ إلاّ أنها مغربية، وضحية لسياسة انتقاميّة فارغة يدفع ثمنها غاليا مواطنون أبرياء بسطاء.
وإن كانت (هاجر)، و(ابراهيم) قد غادرا طفولتهما فإن مراحل الصغر وأيام الدراسة، وما تحمله من طموح، وتفوق وذكاء، وحب عذري ظلت تعيش فيهما وبداخلهما، في ضميرهما، ووجدانهما. ورغم تقدم السن، ومرور الزمن الطويل لم تغادرهما هذه الأيام أبداً. بل بقيت تسكنهما أكثر مما عاشاها في واقعهما..
وتفرقت السبل بين المحبين (إبراهيم)، و(هاجر) مع نهاية الاحتلال الفرنسي (للجزائر )، وفَصَلَتْ بينهما حواجز، وحدود وهمية (مهما كانت قريبة فهي بعيدة..ومهما كانت بعيدة فهي قريبة..) على حد قول الكاتب..
فيغادر إبراهيم مضطراً أرض وطنه الأصلي إلى موطن مُستقبِل (فرنسا) ولم يكن وطنه بالنسبة إليه مجرد حدود جغرافية ساكنة/ثابتة، بل كانت مجموعة من الروابط المتينة تربطه بهذه الجغرافية، وهذه العلاقة هي( المواطنة) التي تعني الألفة، وتعني الانتساب، والأمن، والإحساس بالكرامة. وليس ذاك الإحساس الفظيع باللاّ استقرار الذي أصبح يعاني من ويلاته وتبعاته ببلاد المهجر، والغربة (فرنسا)، ليعيش حياة الاغتراب فيراوده حلم الرجوع الفعلي لموطنه الأصلي، والمشدود إليه بقوة، والمشدود إليه بحبال الحنين أيضاً. ويعتبر أن إقامته هنا هي إقامة مؤقتة فقط. و(مكان يتعذر فيه ممارسة الانتماء) على حد تعبير بعض الباحثين.
فيقول ص 57 [الرحلة الخامسة]:
« وقد شاء القدر ليأتي به إلى مدينة باريس. فيقيم فيها كالغريب في كل أرض، ويبني بها بنياناً على الثلوج إلى حين شروق الشمس. وذوبان الثلجة، فتنهدم البنايا، وقد يعزم الغريب على الخروج « .
ويقابل هذا قوله أيضا:
« فتملأ القلب فرحة لا توصف بأي شعور يعجز اللسان في التعبير عنها باي لغة، وتوقظ في الحشا لواعج الشوق، والحنين إلى الأهل، والوطن.. » ص 84 [ الرحلة السابعة ]:
وقد تناول الكاتب تخييلياً هذه المواضيع، بأسلوب بسيط مكثّف، وبلغة منسابة تتدفق بوابل من الأبعاد الإشارية، و التلميحات الدّلالية الغنيّة، لها في ذاك مرجعية تاريخية مهمة. لحظاتها ساهمت في بناء الرواية، وصياغتها بشكل أعمق، وأبعد. مما جعل من هذا المنجز الأدبي- (/الشهادة/الوثيقة) – يُعالج مجموعةً من الوقائع التي عرفها المغرب، والجارة الجزائر واحتضان (فرنسا) لليد العاملة القادمة إليها من المغرب، والجزائر..فأتاح هذا العمل الروائي المتميز للكاتب العودة بذاكرته إلى زمن ماضوي واستنطاقه معتمداً على فنيّة الحكي الممزوج بتقنية التخييل الواسع..وقدم إلينا بمهارة أدبية/تاريخية توثيقاً واقعياً لقضايا تاريخية مرت في زمن ولّى عبر الذاكرة المستعادة باسترجاع لحظات، ومشاهدَ تاريخية تروي أحداثاً بثقلها القاسي ترتبط بالاستعمار الفرنسي، ومخلفاته البعدية في محاولة منه ربط الحاضر بالماضي..
فهل جلب المستعمر لمستعمراته الأمن، والاستقرار السياسي؟
وهل وفّر لها التّقدم، والتّحرر، والنّمو الاقتصادي، والفكري.؟
وبقراءتنا لهذه الرواية، والتي تمتد أحداثها إلى ستينيات، و سبعينيات القرن الماضي نجد أنفسنا نقرأ عملاً كأنَّ أحداثه
وليدة أيامنا هذه. فالزمن العربي عموماً، والمغربي الجزائري خصوصاً لازال يراوح مكانه. وتعامل فرنسا لمستعمراتها هو نفس التعامل منذ عقود. وبالتالي فالرواية تكشف وبالوضوح أعطاب أحداث واقعية، ووقائع معاشة حقيقية..
فإن واقع سنوات عجاف سياسية، وقحط، وجفاف فكري وزمن المغرب الجديد عوامل تدفع الإنسان للهروب ليلاً و التسلل سرّاً إلى اوروبا عبر معابر فاصلة بين الخير، والشر والوجهة دوماً فرنسا لوجود جالية كبيرة بها لا تستقبل في الغالب وافدين جدد إليها..فتستحضر الرواية بقوة، حقائق تاريخية واقعية..يلبسها الكاتب حقائق روائية أدبية فنية
وتقوم الرواية بمهارة فنية على تعرية قضايا اجتماعية، وأخرى سياسية، وانسانية مما جعل من هذا المشروع الروائي يضج بأحداث واقعية، وأخرى افتراضية تمليها الهندسة المعمارية للمكون الروائي عند الكاتب « الخضير قدوري » ويتناولها تأطير أزمنة ظاهرة، ومستترة، وأفضية جغرافية واسعة، وممتدة تتحرك داخلها إضاءات تكشف عن أحداث ماضوية تقترن بتقنية الاسترجاع، وصدق الإبداع..
فنقر أ في ص 9 [الرحلة الأولى]:
« قبل أن يكون شاباً في سن الخامسة والعشرين، فكهلا دون سن الخمسين. وقبل ان يصير شيخا يتدرج نحو الستين فيشتعل راسه شيبا، كان طفلا في السادسة عشر من عمره وتلميذا في إحدى المدارس الابتدائية الحرة بمدينة وجدة.. »
وفي نفس [الرحلة الأولى ] ص 15 نقرأ ما يلي:
« وخلال السنة الثانية بعد الستين وتسعمائة وألف حدث ما لم يكن في الحسبان، ووقع ما لم يكن متوقعا بعد اجتيازهما أول امتحان، فتنتهي رحلة نجاحهما عند شاطئ الحياة، وقد استدرجهما منه الزمان في غفلة بعد أن وضع بين أيديهما زورقا ومجاذيف، ثم دفع بهما إلى بحر متباعد الشطٱن.. »
لم يكتف الكاتب برصد الواقع ٱليا فحسب، بل تنقشع بين طيات أحداث عالمه الروائي تلميحات ضمنية تدعو ٱلى ترسيخ قيم إنسانية تتسلل عبر جودة الأسلوب، وعمق الدلالة، وذكاء الطرح، بمؤهلات
لغوية شاعرية أحياناً تنمّ على قدرة الكاتب على تطويع اللغة بحس جمالي رفيع. فنجده يقول في ص 111 /112 [ الرحلة التاسعة]:
« ..كما بات شغلُه الشّاغل وتفكيرُهُ الدّائم مركزاً بجد في اِصطحاب زوجته سارة، محاولاً بذلك ردم كلّ الجسور التي تربطه بوطن هو في غنى عنه. ولا يريده إلاّ أن يكون سجيناً فيه أو قتيلاً أو مفقوداً. سنة كاملة من العمل على اتمام الاجراءات الادارية، والقانونية بمساعدة مشغلته السّيدة جاكلين التي بذلت قُصارى جهدها مذلّلة أمامه كلّ الصّعاب الإدارية ليحصل بفضلها على الموافقة في إطار قانون التّجمع العائلي لاِستقدام زوجته. لكنّه على غرار نوح لما استكمل بناء سفينته ودعا اِمرأته إلى ركوبها أبت أن تفعل فتكون من الناجين، كذلك كانت سارة لم تراع قيمة الجهود المبذولة من اجلها فتستجيب لدعوة زوجها إلى تحاشي الطوفان بركوب سفينة النّجاة، غير أنّها أبت إلاّ أن تركب سفينة عنادها فلم تقبل الاِلتحاق بزوجها. وقد ظلّت على شاطئ اليم لقياً ملقيا. ودافعاً يجعل ابراهيم يتّخذ الٱنسة كوليط عنها بديلا. فيستأنس بها في غربته، ويستعين بها في وحدته ويسكن إليها كلّما غدا وراح من و إلى عمله وسكنه، وقد زاده فقدان والديه ووحيدته غبا وطينه بلة، فلم يعد له ما يشده بهذا الوطن او يجذبه إليه البتة.. »
إن النّص الروائي عند الكاتب » الخضير قدوري » ينسجمُ فيه ما هو واقعي (واقعيّة الأحداث). وما هو متخيّل (إلباس الأحداث لباساً فنيّاً، وبعناصر جمالية). وتتخلّل غمرة هذه الأحداث قضايا الهجرة برؤية بعيدة عن التّوثيقية/التقريرية. وتتجاوزها إلى تناول تقييم القيم بأبعادها الاِنسانية المتأصّلة في الذّات الاِنسانيّة..
وقد قيل: (ليست فن الرواية سرداً للحدث، إنه فن سرد الحدث ).
وهي نفس الرؤية السّردية الّتي اِشتغل عليها الكاتبُ في أعمال سردية وعلى رأسها روايته (ٱلهة الأرض، وصر اخ الأشقياء). وفي سيرته الذاتية (الأرواح الهائمة). إنه ثقلٌ لوضع إنساني مأساوي، وعنفٌ واقعي يؤطره انكسار الأمل، وبؤس المٱل..وهي قضايا قطب رحى أحداث الرواية ومحورها، ومركزها الأساس في بناءالسّرد، وتغذيّة بنية الحكي..فتُشكِّلُ شخصيةُ (إبراهيم ) صرخةَ كلِّ إنسان يتوق الى تحقيق ٱدميّة الإنسان، وإنسانيّة الإنسان في ٱفاقها النّبيلة، وأبعادها المنفتحة المتعايشة..والمحبّة للحريّة، والكرامة والعدالة الاجتماعية..فيجد في البلد المستقبِل [فرنسا] ما لا يجده في موطنه الأصلي. وقد جسّدت هذه القيمَ شخصيةُ (جاكلين)، وزوجها (لارون). ثم شخصيةُ الممرّضة( كوليط). فكان لهؤلاء فضل كبير على إبراهيم محليّا، وعلى امتداد بعده الوطني الانتمائي، كان ذلك الفضل أقل بكثير مما حملته أصوات أخرى فينسيج الرواية كصوت شخصية ( و هاجر) وصوت( سارة )غير المسموع على امتداد رقعة مساحة الرواية، وصوت الأب الحامل لإبراهيم بشائر ميلاد ابنته( بشر) ..
فالمتن الروائي عند الخضير قدوري في روايته (نساء في حياة رجل)، منفتح على مكونات حكائية متداخلة تؤتثها رحلات، وسفريات في الزمان، وفي المكان أيضاّ. وتفيض بأسئلة تؤطؤها مرحلة ما بعد الاستقلال، محورها:
المغرب والجزائر، وفرنسا..وما تحمله هذه التيمات من دلالات، وكثافة رمزية ..
بلقاسم سداين
1 Comment
بالتوفيق الدائم،بمزيد من الإبداع و التألق.