اختلاف وجهات النظر في طوفان الأقصى باعتبار اختلاف المرجعيات
اختلاف وجهات النظر في طوفان الأقصى باعتبار اختلاف المرجعيات
محمد شركي
بداية لا بد من وقفة عند عبارة » طوفان الأقصى » المعبرة عما وقع يوم السابع من أكتوبر 2023 فيما سمي غلاف غزة الواقع تحت الاحتلال الصهيوني ، فهذه العبارة مكونة من كلمتين : » طوفان » ، و » أقصى » ، وهما مضاف ومضاف إليه، وقد وردتا معا في الذكر الحكيم حيث قال الله تعالى : (( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون )) ، كما قال في سياق الحديث عن قوم فرعون : (( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين )) .
والطوفان في اللسان العربي مصدر فعل طاف ، وهو مشتق من الطواف ، وهو يدل على فيضان أو سيل أو سيح عظيم يطوف باليابسة ، ويغشاها ، ويجرف ما فوقها فيغرقه، وتطلق هذه الكلمة أيضا على كل أمر عظيم أو على الموت الجارف بسبب وباء قاتل أو غيره أوعلى شدة ظلمة الليل .
وإذا تأملنا استعمال كلمة طوفان في الآيتين الكريمتين ، نجدها تدل على عقاب مسلط على المجرمين الظالمين ، وهي تدل على هلاكهم بسيل عظيم كما كان الحال بالنسبة لقوم نوح أو تعذيبهم به كما كان الحال بالنسبة لقوم فرعونه .
وأما كلمة أقصى فقد وردت في قوله تعالى : (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )) . والأقصى صفة يوصف بها بيت المقدس ، وتعني الأبعد باعتبار المسافة بينه وبين المسجد الحرام بمكة المكرمة .
ومراد من استعملوا عبارة » طوفان الأقصى » هو هجوم كاسح ومباغت للعدو الصهيوني بغلاف غزة نتج عنه قتل وأسر العديد من جنوده إلى جانب أخذ رهائن من مستوطنيه . ولقد كان هذا الهجوم ردة فعل على استباحة المستوطنين الصهاينة المتطرفين حرمة المسجد الأقصى وتدنيسه ، والتنكيل بالمصلين فيه ، وفي رحابه أمام مرآى ومسمع العالم بأسره خصوصا العالم الغربي المؤيد للكيان الصهيوني فوق كل حدود دون أن يحرك ساكنا بل بمباركته .
وبعد حدوث هذا الطوفان، انقسم الناس في هذا العالم إلى أربعة أقسام باعتبار مرجعياتهم ، أما القسم الأول والذي مرجعيته إسلامية ،فقد نوّه به معتبرا إياه ردا على الاستفزاز الصهيوني لمشاعر المسلمين في العالم من خلال تدنيس المسجد الأقصى والتنكيل برواده من الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين ، واعتبر من صنعوه أبطالا قد كذبوا أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر .
وأما القسم الثاني والذي مرجعيته صهيوـ صليبية مقنعة بقناع العلمانية، فقد أدانه بأشد العبارات، واعتبر من قاموا به وحوشا بشرية ، ونسب إليهم فظائع من اختلاق الإعلام الصهيوني والإعلام المتصهين ، وقد ثبت بعد حين أنها محض افتراءات كاذبة ، وقد تراجع عنها من تراجع من الساسة الغربيين ، واعتذر عن تسويقها من اعتذر من الإعلاميين الغربيين اتقاء الفضيحة ، وفقدان المصداقية الإعلامية التي انهارت على الصعيد العالمي .
وأما القسم الثالث، والذي مرجعيته النفاق ، وهم من المحسوبين على الإسلام في الظاهر، وولاؤهم للمرجعية الغربية العلماني في الباطن ، فقد انحازوا إلى القسم الثاني، وقلدوه في موقفه من الطوفان ، وحذوا حذوه نعلا بنعل ، وقد بلغ الحماس ببعضهم حد التعبير عن المروق من إسلامهم، وإعلان انتسابهم إلى الملة الصهيونية ، وحسب هؤلاء قول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) . ومن هذا القسم أيضا من أرادوا الجمع بين انتمائهم إلى حظيرة الإسلام ظاهرا، وفي نفس الوقت اتخاذ اليهود والنصارى أولياء خلافا لمنطوق الآية الكريمة متعمدين التموقع في خانة من نعتهم الله عز وجل بالظلم وبالضلال .
وأما القسم الرابع ، فلا يتنكر لمرجعيته الإسلامية ، ولكنه يرى الطوفان تهورا تسبب في هلاك أهل غزة إظهارا للشفقة عليهم ، وفي هذا نوع من الإدانة المبطنة لمن قاموا به ، وقد وقعوا فيها إما عن جهل أو عن غفلة منهم ، وكأن مواجهة الاحتلال الصهيوني يجب أن تكون بغير هذا الطوفان ، وهو الذي لم ينقطع عدوانه على الشعب الفلسطيني ، وعلى الشعوب العربية معه ما يزيد عن سبعين سنة، وهو الملوح بهدم المسجد الأقصى لإقامة هيكله المزعوم تحديا لمشاعر مليار ونصف المليار من المسلمين .
وإذا كانت مناقشة القسمين الثاني والثالث لا طائلة من ورائها ، وقد حسم في ذلك اختلاف المرجعية بيننا وبينهم ، فإنه لا بد من مناقشة أو لنقل دعوة القسم الرابع إلى مراجعة موقفه مخافة الوقوع فيما حشر القسم الثالث فيه أنفسهم عمدا وعن قصد وإصرار .
ولقد دار بيني وبين بعضهم من القسم الرابع حوار بخصوص فكرة وصف الطوفان بالتهور، فكان ردي عليهم بسؤال مفاده : ماذا كنتم ستفعلون مكان المقاومة الفلسطينية لو قدر لكم أن تعيشوا بين ظهرانيهم تحت حصار دام ما يزيد عن عقد ونصف من الزمان في أكثر بقع الأرض كثافة سكانية حيث يتجاوز عدد سكانها ملوني نسمة ، وهي عبارة عن معتقل محاصر برا وبحرا وجوا ؟ ألا يخطر لكم على بال، وأنتم في ذلك الوضع المزري ، وطيلة تلك المدة أن تحدثوا أنفسكم بمحاولة كسر ذلك الحصار، ولو لفترة وجيزة انتقاما لكرامتكم ؟ ولم أتلق ممن كنت أحاروهم جوابا عن سؤالي ، ففكرت في طرح السؤال بصيغة أخرى فقلت : أرأيتكم إن اقتحم عليكم أحد بيوتكم ، وسلبكم ما فيها ، وسجنكم بداخلها ومنعكم الخروج منها، هل كنتم ستواجهونه أم أنكم ستستلمون له ؟ فلم يجدوا بدا من الجواب بما ينقض وصفهم الطوفان بالتهور ، ولكنهم ظلوا يعبرون عن أسفهم وحزنهم عن عدد الشهداء الذي سقطوا بسبب الطوفان ، فسألتهم هل وجدت عبر التاريخ مقاومة دون ضحايا؟ ألم يقع ضحايا في فيتنام وأهلها يدافعون عنها ضد المحتل الفرنسي والمحترم الأمريكي من بعده ؟ ألم يقدم الأفغان ملايين الضحايا في صدهم للمحتل البريطاني، والروسي، والأطلسي ؟ فهل كانت مقاومة الفيتناميين والأفغان تهورا ؟ ألم تقدم كل الشعوب العربية والإسلامية ضحايا بالملايين وهي تقاوم المحتل الغربي ؟ فهل كان ذلك تهورا منها ؟
واستمر بيننا هذا الحوار حتى انتهى بنا إلى موضوع المرجعية الإسلامية الفاصلة وحدها في اتخاذ الموقف من طوفان الأقصى ، وقد استدعى ذلك استحضار قول الله تعالى : (( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما )) ، فهذه الآية عين الحكمة لمن ألقى السمع وهو شهيد . واستدعى ذلك أيضا قوله تعالى : (( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين )). ولقد كان هذا رد على من قال فيهم سبحانه وتعالى : (( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا فل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين )) ، أليس في قوله تعالى هذا ما تعزى به النفوس المؤمنة التي تتألم لمنظر الأشلاء المتناثرة جراء العدوان الهمجي الصهيوني على المدنيين في القطاع رضعا ،وأطفالا، ونساء ،وشيوخا، ومرضى في بيوتهم وفي المستشفيات ؟ إن مرجعيتنا القرآنية لا تعتبر من ماتوا بهذا القصف الوحشي أمواتا بل هم أحياء عند ربهم يرزقون وهم فرحون ، ومستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم شهداء مثلهم ، بهذا اليقين تلزمنا مرجعيتنا وإلا فعلينا أن نراجع إيماننا إذا ما وصفنا طوفان الأقصى بأنه تهور ، وهو وصف فيه ما فيه من بخس ، وتوهين وتثبيط لعزائم المجاهدين والمرابطين فوق أرض القطاع . إن العبرة في المرجعية الإسلامية بالمآل الأخروي، لأن للدنيا زوال ينقضي به كل ما فيها ، ويرحل عنها كل من فيها إلى ساحة القيامة بين يدي الخالق جل في علاه أمام محكمة العدل الإلهية ،لتجزى كل نفس بما عملت، وبما كانت لها من مرجعيات غير المرجعية التي ارتضاها لها خالقها، وما الله بظّلام للعبيد.
Aucun commentaire