محمد بنعلي
وأنا عائد من صلاة الفجر بمسجد أولاد قرواش/ لَقْواسْ، رأيتُ سبعةَ كلابٍ توقَّفوا فجأة كما توقفتُ إذْ تراءَيْنا قبيْلَ باب القاعة الكبيرة في القصر. انعطف ستّةٌ منهم سالكين زقاق (أغيرْ نتيجانْ) أين يقع ضريح الإمام سيدي عبد الجبار، دون أن يحدثوا جلَبةً، أو يثيروا غباراً، أو ينبسوا بِبِنْتِ نباحٍ، بينما بقي كبيرهم بحجمه العظيم، وقامته الفارعة، وجسده الممتلئ، وعضلاته المفتولة، وجراءَته الوحشيّة، وعينيْه الزائغتيْن، يتفرس في هيكليَ الضئيل البئيل، يضرب أخماساً لأسداسٍ، كمن يفكر في هذه الغنيمة غيرِ المجزيّةِ: أيستحوذُ عليها لوحده أم يتقاسمها مع إخوته المنتظرين أمام الولي الصالح، والكوكب الدرِّي اللامح..
اجتاحتني رعدةُ خوفٍ حركت الأرض من تحتي، وعصفتْ بقسْطٍ وفيرٍ من رشدي، وأسلمتني إلى نوبة من حمّى عابرةٍ قفَّ لها شعر رأسي، واسترخى معها ما بقي من عضلاتي التي عضَّها كرُّ الجديديْن وتعاقب الحدثان والأزمانِ..
كدت أغمض عينيَّ وأستسلمُ للمصير الذي يخطط له هذا الواقف المشؤوم، لكني استعدتُ توازني، وأدركت أن الحكمة تقتضي ألاَّ أمكنه من نفسي مجاناً، وأن أرفعَ حاجبيَّ وأواجهه بالعين الحمراءَ، وأسايره في موقفه ووقوفِه ما دام لم يبادئْني بسوءٍ، ولكل حادثٍ حديثٌ..
ما ندمت على شيءٍ في تلك اللحظةِ الشائكة ندمي على ضرب وصيّة أهل الدار والأصحابِ عرض الحائط، فلطالما ألحوا علي في حملِ عصاً تكون عوناً لي مثل هذه المواقف.. والحقيقةُ أنني حملتُها من قبل مرةً أو مرتيْن، ثم تخليتُ عنها، ويسّرتُها لليسرى لأنني لم أكن أصادفُ إلا كلباً أو اثنيْن بالكثير.. أما أن أصادف سبعةً فحدثٌ لم يحصلْ معي داخل القصر إلا فجرَ اليوم.
فجأةً حرّك شيخُ الكلابِ الأسودُ إحدى رجليْه الأماميتيْن كالمتحفز للوثوبِ عليّ، ثم بصبص إليَّ، دون أن يكشّرَ ناباً، أو يرعبني بنباحه الأسديِّ حتى يخلخل توازني، ويسهل عليه إنهاء الموقفِ في هنيهةٍ أو اثنتيْن.
وكالمراجع نفسَه غضَّ شيخُ الكلابِ العاقلُ بصره، وتنحنح لي، ثم انعطف كإخوته إلى الزقاقِ المذكور.. انفرجت أسارير وجهي، وبدا السرور على شفتي، وعرفَت الدماءُ طريقها من جديدٍ إلى عروقي اليابسة.. أول ما قلتُه وسورةُ البروجِ تخترق مسامعي خارجةً إليَّ من مسجد سيدي عبد الجبار تباركُ سلامتي ونجاتي من هذا الكرب العظيم: لو كانت الكلابُ تصلي لكانوا أكثرَ منا عدداً، فهم سبعة ونحن كنا ثلاثةً.. وكأنَّ الذي صلّى في مسجد لقواسْ واحدٌ لأن الإمامَ والمؤذنَ مرتَّبان فيه… وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
والسؤال الآن: من سيتحمّلُ دِيَتي لو لم يكُن شيخ هذه الكلابِ عاقلاً؟
والسؤال الثاني: من منا أحقُّ بصفةِ الضلالة: هل هي الكلابُ التي تعيش على طبيعتها، أم هم نحن الذين…
ولكل واحد أن يكمل السؤال؟…