عندما تحجب الشهادة حقيقة الاختصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
عندما تحجب الشهادة حقيقة الاختصاص
جميل ألا يتكلم في الاختصاص إلا أهله، وأجمل منه أن يسكت الجاهل، ولو حدث هذا لانعدم الخلاف كما عبر عن ذلك الإمام علي حين قال « لو سكت الذين لا يعلمون (الجاهل) لانعدم الخلاف »، إلا أن المشكل يكمن في التمييز بين المختص والجاهل، هل المختص هو الذي يحمل شهادة تدل على تخصصه والجاهل من لا يحملها؟ أم أن المختص هو المتقِن لعمله والماهر فيه ولو لم تكن معه شهادة، والجاهل من يفتقر إلى الإتقان والمهارة ولو تحصل على أعلى الشهادات؟ ثم من هذا الذي يُسلِّم الشهادة؟ وكيف يمكن التعرف على أهل الاختصاص؟
لا شك أن العديد منا صادف في حياته أناسا مختصون بالشهادة، لكنهم غير ذلك في الواقع العملي، والعكس صحيح، فمن منا لم يتعب ليحصل على اسم اختصاصي في مجال من مجالات الطب على سبيل المثال لا الحصر، لكن سرعان ما يَخيبُ أملُه، عندما يكتشف أن هذا الاختصاصي يفتقر إلى المهارة والإتقان أو إلى حسن المعاملة أو هما معا، وفي المقابل هناك من صادف أشخاصا لا شهادة لهم، لكنهم يتقنون العمل الذي لا يتقنه صاحب الاختصاص بالشهادة، ويتميزون بحسن الأخلاق والمعاملة، وهذه الحالات يمكن مصادفتها في جميع المجالات والتخصصات.
إلى هنا تبقى الأمور عادية، بينما تأخذ مَنحى آخر حينما تُتَّخذ الشهادة وسيلة للتباهي والترفع على الناس قد يصل إلى احتقارهم والحَجر عليهم، ومصادرة حقهم في التعبير عن رأيهم لا لشيء سوى أنهم لا يتوفرون على شهادة، فهذا طبيب تَطلُب منه أن يفسر لك طبيعة مرضك، ومفاعيل الأدوية التي يصفها لك، فيجيبك بأنك لست في المستوى الذي يسمح لك بالفهم لأنك لست متخصصا، وما عليك إلا أن تأخذ الأدوية دون استفسار، وقد تصل به الوقاحة لأن يقول لك بأن ليس لديه وقت لمثل هذه التساؤلات. وهذا جرَّاح يقوم بعملية جراحية غير مُتقنة تكون سببا في وفاة مريض أو معاناته طول حياته، وآخر يقوم بعملية جراحية متقنة لكنها مفتعلة لكونها غير ضرورية كما هو الشأن بالنسبة لعدد من العمليات القيصرية التي لو تُرك الأمر فيها للدَّاية (القابلة) لما احْتِيج للعملية أصلا، وهذا مُفْتٍ تستفتيه في قضية شرعية، وعندما تقول له بأنك سمعت بفتوى أخرى من نفس المذهب، فإما يسفهها بدون سند شرعي، وإما يقول لك استفت قلبك، وهذا أستاذ يسأله طالب أو تلميذ عن موضوع معين فيتهمه بالغباء، أو يطلب منه التسجيل في دروسه الخصوصية ليشرح له بالتفصيل.
لا أهدف من هذه الأمثلة إلى التعميم ولا إلى التنقيص من أهمية التخصص ولا من المتخصصين، وإنما أريد أن ألفت الانتباه بالخصوص إلى أولئك الذين يركبهم الغرور بمجرد حصولهم على شهادة معينة، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم لا يستحقونها وأن الثوب لا يصنع الراهب (l’habit ne fait pas le moine)، لأسباب لا أريد الخوض فيها، من بينها المحاباة والمجاملات التي يتعمدها مجموعة من أعضاء لجن التحكيم الذين أريدُ أن أُذكِّرهم بأن تسليم شهادة دون المستوى المطلوب يُعتبر زورا سيُحاسَب عليه صاحبه إن عاجلا أو آجلا، والأدهى من ذلك أنه سَيتحمَّل وزر كل من تأذَّى بممارسات صاحب تلك الشهادة طالبا كان أو مريضا أو أحدا من خلق الله مصداقا لقوله تعالى: « إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ » (سورة يس الآية12). كما أن الإتقان لتخصص معين ليس مبررا لازدراء الآخرين والتعالي عليهم، أو للاحتيال عليهم وسلبهم أموالهم بغير حق، ذلك أنه إذا كان الاتقان شرطا ضروريا لنجاح المتقِن في الدنيا، فإنه ضروري كذلك للنجاح في الحياة الآخرة لكونه سببا من أسباب حب الله للمتقِن مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم « إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ »، ومصداقا لقوله تعالى في الآية 105 من سورة التوبة: « وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ »؛ وإذا كانت كلمة الإتقان لم تَرد بشكل صريح في الآية الكريمة كما في الحديث، فإن التنصيص على أنّ الله سبحانه وتعالى سيُنبئ كلّ فرد يوم القيامة بما كان يعمل، دليل على أن الذي يرجو الآخرة ليس له من اختيار غير إتقان عمله كيفما كان نوعه. ومع ذلك فإن شرط المهارة والاتقان في العمل غير كاف ويحتاج بأن يُسنَد بتقوى الله فيه، بحيث لا تخلو خطوة من خطواته بمراقبة الله فيها مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم » اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ »
ولا شك بأن أي عمل تَميَّز بالإتقان وبتقوى الله أثناء أدائه سيباركه الله وسيغْنَم نتائجه الإيجابية كل من القائم به والمستفيد منه، وآنذاك سيتعامل الطبيب والأستاذ والمهندس والمفتي… مع كل من رغب في الإفادة من تخصه، باعتباره إنسانا له أحاسيسه وعقله يتعين احترامهما بغض النظر عن مظهره أو عائلته أو مستواه العلمي… وآنذاك فقط ستتجسَّد قيمة الشهادة في النتائج التي يحققها صاحبها في السياق الذي يشتغل فيه دون التميُّز على الذي يحقق نفس النتائج مع عدم حصوله على نفس الشهادة. وإذا كان هذا السياق يفرض الاحتكاك مع الإنسان فإن من أهم المؤشرات التي تسمح للمختص بأن يقوِّم مدى تمكنه من معارفه وتطبيقها تطبيقا صحيحا، هو مدى قدرته على شرح فكرته للمعني بها وإفهامه إياها، (ميداني التعليم والطب على الخصوص) وإلا فعليه أن يعيد فهمه لمعارفه، وفي هذا الصدد يقول ألبرت أينشتاين: » إذا لم تستطع شرح فكرتك لطفل عمره ستة أعوام فأنت نفسك لم تفهمها بعد »
وختاما أرى أن مفهوم المختص أو أهل الاختصاص يبقى عَصِيٌّ عن التعريف ما دامت الشهادة لا تعبر بالضرورة عن القدرة على تجسيد المفترض في مضمونها بإتقان وتقوى، علما أن معياري الإتقان والتقوى إذا توفرا في متخصص معين في وقت معين وسياق معين، قد يصعب توفرهما فيه طول الوقت بسبب طبيعته البشرية، مما قد تنتج عنه خلافات بين المختصين أنفسهم، ولنا فيما ما لاحظناه على المستوى الدولي أثناء جائحة كورونا مثال حي، بحيث يطلع علينا في كل يوم مختص يُسَفِّه عمل المختص الذي سبقه، وهو الأمر الذي يَحرِِم عدم المختصين أمثالي من العثور على مختص في مجال من المجالات الحياتية التي قد تدفعه الضرورة إليه، مما يؤدي إلى تعميم فقدان الثقة. وعلينا بعد ذلك أن نتصور مستوى الثقة بين أفراد مجتمع فقدوا الثقة في أهل الاختصاص لديهم.
Aucun commentaire