صدى السنين ـ الكتاب : فرسان الأنفاق ….للمؤلف قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 6 ـ
الفصل الثاني
***
فمن يدري فقد تتمخض شوارع جرادة عن ميلاد « هوميروس » من زمن آخر يرسم لجرادة الياذتها ويطرح أمامها كل البدائل المحتملة… لتستمر الحكاية فتفتح أبواب المناجم من جديد وليعود فرسان الأنفاق إلى منازلة العمالقة في الأعماق المظلمة أو ليدشن فصولاً أخرى أكثر نجاعة وتفاؤلا وأجمل منظرا من منظر خنقا من أجل رغيف أسود…!
« جرادة » على ظهر خروف،
و »جرادة » تنام على الفحم…
يفيدنا تاريخ المنطقة أن الجيولوجي الفرنسي لويس جونتي Louis Gentil هو الذي اكتشف العلامات الأولى لوجود حقل الفحم الحجري في جرادة وذلك سنة 1908…
وفي سنة 1927 استطاع جيولوجي بلجيكي تأكيد ما قال زميله الفرنسي..وأن منطقة جرادة ترقد على حوض كبير من الفحم الحجري،..
أما الرواية الشعبية الأكثر انتشارا فإنها تفيد بأن طبيبا بلجيكيا كان في رحلة قنص بالمنطقة.. وقد لاحظ أن أرجل بعض الأرانب التي اصطادها كانت ملطخة بغبارأسود.. وبعد التحري تأكد له وجود الفحم الحجري.. ومن يدري فقد يكون الطبيب المعني بالأمر هو الجيولوجي نفسه… ما دام أن الأمر يتعلق بمواطنين ببلجيكيين
…
بدأ استغلال الفحم بجرادة سنة 1936 من طرف شركة بلجيكية..
وفي سنة 1953 بلغ الإنتاج السنوي من الفحم الحجري 350.000 طن.. الشيء الذي حذا بالشركة المسيرة لمناجم شمال إفريقيا منذ سنة 1947 إلى رفع عدد العمال إلى6000 عامل منهم 5300 مغربي و700 عامل من التقنيين الأوروبيين…
وهكذا أصبح المكان الذي اكتشف فيه الفحم بالأمس القريب، والذي استغل في البداية بالآلات التقليدية كالفأس والمعول والقفف المصنوعة محليا من نبات الحلفاء، أصبح في ظرف قصير يتوفر على المؤهلات الضرورية التي جعلت منه مركزا عماليا واعدا.. بحيث اتسعت مساحة بنياته التحتية، وبدأت المرافق العمومية في شكل عمارة الحضارة المغربية الإسلامية كالمساجد والحمامات والأفران والدكاكين والأسواق ترى النور، إلى أن أعطت ميلاد مدينة ظهرت على الخريطة سميت بـ « جرادة ».. هذا الاسم الذي استمد شرعيته من الحكاية الشعبية التي تقول أن حشرة من حشرات الجراد كانت قد وصلت إلى جبل غير بعيد عن مكان المنجم، ممتطية ظهر خروف وسط قطيعه دون أن تتحرك.. وذلك انطلاقا من ناحية بعيدة بـ « الظهرة »… ولم تحدثها نفسها بمغادرة مكانها المريح، حتى أحست بالرطوبة ورأت الاخضرار… وبتكرار سرد هذه الحكاية حول المكان الذي نزلت به الجرادة.. فقد سمي المكان باسم »جرادة »…
ونظرا للمكانة التي أصبحت تحتلها لدى الدوائر الرسمية مغربية كانت أو فرنسية، فقد حظيت جرادة في عهد الحماية بزيارة بطل التحرير الملك محمد الخامس رفقة ولي عهده مولاي الحسن سنة 1936.. وبزيارة رمز الحماية الفرنسية المقيم العام الجنرال جوان سنة 1948، أما في عهد الاستقلال فقد دشنت جرادة عهدها الزاهر بزيارة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1962.. وكتأكيد على مكانتها في قلوب المغاربة قاطبة قي العهد الجديد، فقد تشرفت باستقبال الملك محمد السادس وذلك سنة 2001…
***
الفحم الحجري
الفحم الحجري من أقدم الطاقات الأحفورية شيوعا، وهو بني أو أسود اللون، قابل للاحتراق، ويعطي حرارة قوية يمكن استعمالها في كثير من الأغراض،وعلى رأسها إنتاج الطاقة الكهربائية..
وقد تكون الفحم الحجري ـ كما تخبرنا بذلك علوم الطبيعة ـ من بقايا نباتات ماتت ودفنت قبل 400 مليون سنة.. ويعتقد أن النباتات التي تشكل منها الفحم الحجري، كانت قد نمت في أحواض مستنقعات ضخمة… وبعد موتها شكلت طبقة سميكة في قاع المستنقع.. ثم بدأت تتحلل وتتحول إلى مادة الخث الذي هو طبقة من نسيج نباتي متفحم… وبتزايد ثقل طبقات الصخور الرسوبية والرمال والمعادن الأخرى تحولت طبقة الخث إلى فحم يسمى « اللجنيت » وهو خشب متمعدن.. وتحت الضغط الشديد والمتواصل للرسوبيات وتحت تأثير درجة الحرارة المرتفعة وبفعل الحركة الداخلية لقشرة الأرض، تحول اللجنيت إلى فحم أكثر صلابة يدعى « الأنتراسيت »… وهو نوع الفحم الممتاز الذي يستخرج من أعماق « جرادة »
وقد تشكل الفحم الحجري خلال العصر الكربوني من عمر كوكبنا..أي قبل حوالي 360 مليون سنة عندما كانت الأرض مغطاة بالمستنقعات،وتسمى طبقات الفحم بالراقات أو العروق ،التي قد يتراوح سمكها ما بين 2,5 و120 متر ..كما يمكن أن يتشكل الفحم من راقة واحدة أو راقتين أو أكثر منفصلة عن بعضها البعض بطبقات صخرية..وتكون هذه العروق أو الراقات متوازية مع سطح الأرض كما يمكن لها أن تكون مائلة بفعل حركة الأرض..
وقد لعب الفحم الحجري دورا أساسيا منذ بداية القرن التاسع عشر في الدفع بتطور الثورات الصناعية في العديد من الدول..إذ كان هو السبب في إنتاج البخار الذي حرك الدواليب الصناعية في الاقتصاد الغربي..
عرف الفحم الحجري تنافسا متزايدا من طرف مادتين أحفوريتين كذلك هما الغاز والنفط ،وذلك منذ بداية القرن العشرين..وقد حل الغاز بالخصوص محل الفحم الحجري في إنتاج الطاقة الحرارية..إلا أن الضغط الكبير الذي عرفه استعمال الغاز والنفط جعلت بعض الدراسات تنذر بنضوبهما في أواخر القرن الواحد والعشرين…في حين أكدت مصادر أخرى أن احتياط الفحم الحجري بإمكانه الصمود لقرنين ونصف من الزمن…الشيء الذي يرشحه لسد النقص المتزايد في مادتي النفط والغاز…
يتركب الفحم الحجري من عناصر الكربون والهيدروجين والنيتروجين والأكسيجين والكبريت… وتصنف أنواع الفحوم الحجرية فيما بينها بمقدار محتواها من العناصر المذكورة ومن درجة رطوبتها كذلك..فالأنتراسيت مثلا يحتوي على 98 بالمائة من عنصر الكربون.. وبذلك يحتوي على أعلى نسبة حرارية.. ومعلوم أن النسبة الحرارية هي كمية الحرارة الناتجة عن احتراق مقدار معين من الفحم…
***
التلوث الخطير..
منذ أن وصلت إلى جرادة كنت أتمنى دائما أن أزور كل ما يحيط بالمدينة كقمم الجبال التي كانت تبدو لي أكثر شموخا من جبال « أولاد اعمر ».. أو كالغابة القريبة من المدينة على الأقل، وقد جاءت فرصة مرافقة شقيقتي إلي الغابة لجلب حطب التدفئة، لأستغلها في إشباع فضولي في معرفة ما تخفيه تلك الغابة… كما أتيحت لي فرصة أخرى تسلقت خلالها جزأ كبيرا من هذه الجبال رفقة سعيد وحميد، ونظرا لضخامتها، فقد أجلت تسلق القمم إلى وقت لا حق…
وأول ما راعني وأنا أنظر إلى مناجم جرادة وحاسي بلال من الأعلى، هو هذا التلوث الكبير الناجم عن استعمال الفحم الحجري… فقد كانت تتشكل من جراء الاستعمال المفرط لهذه المادة، سحب رمادية كثيفة فوق المدينتين، تحجب الشمس والجبال وتحجب السماء والنجوم وتجعل المرء وكأنه يعيش في زجاجة مغلقة، لا يتنفس إلا من خلال ما تجود به المداخن من أشرطة الدخان الملتوية، التي تزيد من سمك السحابة الجاثمة على صدري المدينتين، وكأنها قد أقسمت بأن لا تتزحزح عن مكانها حتى تخنق كل الكائنات الحية.. وسيعرف هذا التلوث درجات اكثر خطورة في أواخر الستينيات عندما تم تدشين معمل استخراج الكهرباء بحاسي بلال وذلك بحرق كميات هائلة من الفحم ونفاياته، ولتبدأ مدخنة المعمل في لفظ أطنان من الدخان الملوث من خلال أنبوبين عملاقين موجهين إلى عنان السماء، نافثين بسمومهما على مدار الساعة وعلى مدار الزمن..
ونتيجة لاهتمامي بموضوع التلوث، فقد كنت أتعمد طرح سيل من الأسئلة على أساتذتي كلما سنحت لي الفرصة وكنت أشرح لهم كيف يتراءى منظر جرادة وحاسي بلال من أعالي الجبال..والغريب أن معظم الأساتذة كانوا واعين بمشكل التلوث..حتى أن أستاذ العلوم الطبيعية شرح لي ولزملائي بطريقة مبسطة أنه عند احتراق الفحم الحجري الذي يحتوي على عنصر الكبريت فإن معظم عنصر الكبريت يتحد مع عنصر الأكسجين وينتج عنهما غاز سام وخانق وهو ثاني أكسيد الكربون،.
إلا أن الأساتذة وبالخصوص الفرنسيين كانت لهم ثقة كبيرة في الشركة التي أكدت لهم أنها تعمل أثناء تعدين الفحم الحجري على عزل مادة الكبريت…
وقد تكون لدي اقتناع مع مرور الزمن، أن تسلق الجبال مرة كل أسبوع.. و الفرار إلى أعاليها ،أصبح بالنسبة لي من الضروريات، ليس فقط لتنقية رئتي من روائح الفحم، واستبدالها ببالونات من الأكسيجين المشبع بروائح الغابة والأعشاب البرية، ولكن يبدو أن الحنين الجارف إلى « جبال أولاد اعمر » :إلى « إش إزرزر » و »إش أزكاغ » « وإش أحرحاذ » وسكينة هذه الجبال وهدوءها ونقائها كان يدفعني إلى البحث عن البديل من حيث لا أشعر…
ستصبح الجبال إذن ملاذي الروحي، سوف أهفو إليها كلما دب بداخلي ذلك الحنين الخفي وتلك الرغبة التي لا تقاوم في الابتعاد عن الناس وعن المدينة وعن أوساخ وقاذورات الحضارة الملوثة، …وخلال بعض الحالات التي كانت تنتابني فلم أكن لأجد راحتي إلا بين أدغال الغابة وقمم الجبال وأنا أحملق في السماء والنجوم حتى كان يخيل إلي أن وزني قد أصبح خفيفا و أني قد أصبحت شفافا، وكأن لا فرق بيني وبين النجوم و المجرات السابحات،… والكل سابح في فلك لا نهاية له، والكل يسبح في كون الله سبحانه …
***
« جرمنال » و »جـــرالال »
هناك من يقرن نشوء مدينة جرادة باكتشاف الفحم الحجري بكثرة تحت قشرة أرضها..ولكن مما لا شك فيه أن المنطقة كانت مسكونة من طرف القبائل التي كانت ولا تزال تقطن بالجوار، كقبائل « بني يعلى » و »أولاد سيدي علي بوشنافة » و »بني غيل » و »بنى مطهر » هذه القبائل التي عرف أغلبها برعاية المواشي، خاصة وأن جرادة أسست على تلال كانت تسمى « فدان الجمل ».. هذا الاسم الذي يوحي بأن المكان كان من المراعي المفضلة لقطعان الإبل والأغنام والماعز نظرا لتواجده بين الغابة المتنوعة بالجبال من شجر البلوط والضرو والعرعار و بين هضاب وتلال تزخر بغطاء نباتي متنوع كالحلفاء والشيح وأنواع أخرى من الأعشاب البرية التي تشكل كلأ ممتازا للمواشي..
إلا أن استخراج الفحم الحجري من هذا المكان سيجذب إليه يدا عاملة من كل حدب وصوب ، ليس فقط من القبائل المجاورة بل ومن كل ربوع المغرب، وسيجعل بطبيعة الحال العلاقات الاجتماعية تتحول، من علاقات بدوية رعوية غير مستقرة إلي علاقات إنتاج جديدة، تتطلب لازدهارها الاستقرار والأمن الدائمين،..وقد شكلت شركة مناجم إفريقيا الشمالية قاطرة لتنمية المنطقة بأكملها، أدخلتها غصبا عنها، بل وقبل الأوان ،إلى تشكيلة اجتماعية جديدة، هو العهد الرأسمالي، الذي وجدت نفسها تدخله من بابه الواسع،..ونظرا للظروف الاجتماعية المتخلفة وللعقلية الإقطاعية الشبه بدائية والقاسية التي كانت سائدة،.. ونظرا كذلك للظروف الدولية الصعبة من جراء تداعيات الحرب الكونية الأولى، وما خلفته من أزمات اقتصادية عجلت بدخول العالم إلى المرحلة الكولونيالية المقيتة، والاستعداد لخوض حرب عالمية أخرى.. فإنه ولعقود طويلة، كان من العبث التكلم حول شيء اسمه الاستغلال أو المعادلة التاريخية المعروفة: المُسْتَغِلُّ بكسر الغين ورأسماله من جهة، والمُسْتَغَلُّ بفتح الغين وعمله أو جهده وقوته من جهة ثانية…
ويكفي أن نستقرأ رواسب الذاكرة الشعبية لسكان جرادة في ذلك الوقت، هذه الذاكرة التي أعطت الميلاد لكثير من النكت أو المستملحات أو الحكايات التي تعكس بوضوح مدى البؤس والفقر والحرمان الذين عانى منهم الإنسان المغربي في هذه الربوع…
تقول النكتة الشعبية أن شخصين أحدهما من ناحية « سوس » والآخر من » أولاد أعمر » جاءا إلى المسؤول عن شركة الفحم يطلبان شغلا..فسألهما المسؤول ماذا تحسنان فعله؟..أي ماذا يستطيعان القيام به؟.. فقال « العمراوي » أنا أستطيع استخراج الفحم بدون استعمال آلة « المطرقة الأتوماتيكية »، وقال « السوسي » وأنا أستطيع دفع العربة مملوءة بالفحم بدون سكة حديدية..وتنتهي المستملحة أو النكتة، وخلف كل نكتة واقع معين..استمدت منه زخمها الهزلي ليغطي عن قسوة المنظر ويبيح للمستمع بأن يضحك بل ويقهقه ولو مؤقتا، وعندما ينمحي أثر الضحك، سترى الوجوه وكأنها تستفيق على عمق مأساة آبائنا وأجدادنا.. تستفيق على البطالة القاتلة التي تفقد الإنسان معناه وقيمته ،تستفيق على إذلال أبناء القبائل النازحين إلى جرادة وجعلهم يتنافسون فيما بينهم لإرضاء المستعمر وشركته وذلك للقيام بالمستحيل من أجل الحصول على شغل يعرف الجميع أنه قاتل..ومع ذلك فقد شهدت الساحات المحاذية لإدارة الشركة تدافعا مستمرا، واكتظاظا خانقا، لسواعد الشباب القروي الذي فضل الموت شيئا فشيئا ،بدلا من التضور جوعا وحرمانا..
كان يحلو لي مع بعض الزملاء التعليق على ما كنا نطالعه من كتب، وأذكر أننا عندما قرأنا « جرمنال لـ « إميل زولا » فقد لاحظنا أن هناك حروفاً مشتركة بين « جرمنال » من جهة و »جرادة وحاسي بلال » من جهة ثانية، إنها الصدفة بطبيعة الحال، أن يكون هناك تقارب في كتابة الكلمات المنتمية إلى لغتين مختلفتين وبعيدتين عن بعضهما البعض بعد المشرق عن المغرب..وقد أطلق الكاتب الفرنسي الشهير « إميل زولا » على روايته التي أسس من خلالها لـلأدب العمالي العالمي والنضال المنجمي… اسم « جرمنال » الذي ربما كان يقصد به تلك المضغة أو تلك العلقة من النضال العمالي التي تطورت و تمخض عنها مولد صراع طبقي مرير
..
كنا شبابا يافعين، وكنا نترك لعقولنا لحظات تزاول فيها نوعا من التداعي الحر، فبعد قراءتنا لـ »جرمنال » طرحنا السؤال …ألم يكن جديرا بنا نحن أبناء « جرادة » و »حاسي بلال » أن نكتب « جرمنال » آخر خاصا بنا نسميه « جرالال » وهو الدمج بين الأحرف الأولى من « جرادة » والأحرف الأخيرة من « حاسي بلال » فتصبح تماما على وزن كلمة « جرمنال »؟ و ننخرط في نضالات خاصة بنا نستوحيها من تصرفات الحشرة المعروفة باسم « الجرادة » و المعروفة باستهلاكها الكبير لكل ما هو أخضر بما في ذلك شجر الدفلة الذي لا تقاوم مرارته… كما أن هذه الحشرة تعرف كذلك بتناسلها الكثيف والسريع ،حتى أن ذكرها في القرآن الكريم جاء مقرونا بالانتشار…تماما كجماعات عمال المنجم أو عمال أعماق الآبار عندما يخرجون من أعماق الأنفاق المظلمة وكأنهم « جراد منتشر » …ربما كان كافيا لهؤلاء العمال إبان فترة الاستعمار بأن يسيروا في مظاهرة بلباسهم الأسود ووجوههم القاتمة التي لا تظهر منها إلا أسنانهم البيضاء.. ليدخلوا الرعب والفزع في قلب كل من يراهم..فما بالك بالمستعمر الفرنسي أو بأصحاب الشركة المستغلة.
Aucun commentaire