من ذا الذي يجرؤ على إنكار تميّز الخطباء من رجال التربية في المواعظ والدروس والخطب المنبرية ؟؟؟
محمد شركي
لقد دأبت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عندنا بين الحين والآخر على إصدار قرارات بتوقيف أو منع خطباء من الخطابة ومن تقديم المواعظ والدروس في المساجد ، وممن تسري عليهم تلك القرارات منتمون إلى حقل التربية والتعليم.
وتنويرا للرأي العام الوطني لا بد من الكشف عن الدور المهم الذي يضطلع به هؤلاء في الحقل الديني ، وهو دور لا تستطيع الوزارة الوصية على الشأن الديني أن تتنكر له مهما حاولت ذلك . ويكفي أن نشير إلى أن أغلب مجالسها العلمية يتولى رئاستها رجال التربية ،فضلا عن كون كثير من الأعضاء المنضوين تحتها مربين أيضا ،ولا مندوحة لها عنهم .
أما منابر الجمعة، فكثير من فرسانها من المربين ، وهؤلاء يؤهلهم أكثر من غيرهم تكوينهم التربوي ومؤهلاتهم العلمية على الاضطلاع بمهام الخطابة والوعظ والإرشاد التي هي في الحقيقة ممارسة تربوية تؤدى في بيوت الله عز وجل استكمالا لتلك التي تؤدى في المؤسسات التربوية والخاصة بالناشئة .
ومعلوم أن الذي جعل المربين ينجحون بل يتميزون ويتفوقون في الخطابة المنبرية ودروس الوعظ والإرشاد هو مراسهم في الحقل التربوي الذي هو بمثابة تكوين يؤهلهم للقيام بمهام الخطابة والوعظ والإرشاد .
ومعلوم أن الناس عندنا غالبا ما يحجون إلى المساجد التي يلقي فيها هؤلاء دروسهم وخطبهم ، وقد يتخطون مساجد كثيرة قريبة من مساكنهم ، ويقطعون مسافات طويلة إلى غيرها حيث يوجد خطباء ينتمون إلى قطاع التربية لسماع خطب بلغة عربية سليمة بل رصينة ومتأنقة، والتمتع بمواضيعها الشيقة والهادفة والمؤثرة في النفوس والمربية لها ، والمعالجة لاهتمامات الناس ، وذات الصلة بحياتهم وواقعهم المعيش .
ولقد نشأ لدى الناس وعي كبير بأهمية الخطب المنبرية ، وصاروا يميزون بين سمينها وغثها من قبيل الخطب الملحية نسبة إلى ملح الطعام ، والخطب الكلبية نسبة إلى داء الكلب ، والخطب الرضاعية نسبة إلى الرضاعة الطبيعية …وغيرها مما تصدر فيه الوزارة الوصية بين الحين والآخر مذكرات تحث فيها الخطباء على تناولها ، ويكون ذلك غالبا عندما يكون المجتمع بعيش ظروفا هي الأولى بالتناول ،وكأن الوزارة تريد صرف الخطباء عن تناول مواضيع ذات صلة بتلك الظروف .
ولا يجب أن يفهم من كلامي هذا أنه استخفاف بمواضيع الملح وداء الكلب والرضاعة الطبيعية، ذلك أنه قد يوجد ما يقتضي تناولها فوق المنابر، ولكن إذا وجد ما هو أهم منها فهو أولى بأن يتناول ،لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتناول في خطبه ما له صلة بحياة من كانوا معه .
ومن عيوب الخطابة المنبرية أن يكون الواقع في واد وهي في واد آخر . ولا يخفى ما لبعد الخطب عن تناول أوضاع الناس من نفور منها وتضجر من سماعها، وغالبا ما يخرجون ساخطين إذا كانت لا تعالج واقعهم المعيش .
وغالبا ما يتعرض الخطباء للنقد الشديد بل وللتجريح أيضا حين يلقون خطبا لا صلة لها بالواقع خصوصا تلك التي تصدر فيها الوزارة الوصية مذكرات تلزمهم بتناولها من قبيل مواضيع الملحيات والكلبيات والرضاعيات .
ولقد آن الأوان ليصحح الناس نظرتهم إلى الخطباء حين يكلفون من طرف الوزارة بتناول مواضيع لا تمس واقعا ولا تعالج مشاكل ولا تقترح حلولا ، وليست من الأهمية لتلقى فوق المنابر .
وبالرغم من كون بعض المذكرات الصادرة عن الوزارة الوصية على الشأن الديني تلزم الخطباء بتناول مواضيع معينة ،فإن فئة الخطاء المنتمين إلى قطاع التربية لا يدخرون جهدا ولا اجتهادا في تناولها بشكل يضفي عليها الأهمية ، ويجعلها تحظى باهتمام الناس ، وتحدث في نفوسهم أثرا بليغا لما يلمسون في هؤلاء الخطباء من نزاهة و صدق القول .
وبين الحين والآخر توافي الوزارة الخطباء بخطب تأمرهم بإلقائها ، وتمنعهم من أن يقدموا لها بالقول : » هذه خطبة وردت علينا من الوزارة » ، وتكون مع الأسف جد متواضعة شكلا ومضونا ، ويسهل على من يسمعها أن يعرف مصدرها وقد تعود من الخطباء على مستوى معينا من الخطابة وكأن الوزارة بمنع التصريح بمصدرها تريد أن تحمل هؤلاء الخطباء مسؤولية تلك الخطب لتنسل من المسؤولية عنها ، والأجدر بها أن تتبنى تلك الخطب إن كانت بالفعل واثقة من أنها في المستوى المطلوب .
ولقد أثار انتباهي بعد ردود أفعال من تعاطفوا معي بسبب قرار توقيفي عن الخطابة ظنا منهم أنني أعيش بالصلة التي تخصصها الوزارة لخطبة الجمعة ، وقد تمنى لي البعض أن يعوضني الله عز وجل عنها ما أعيش به ، وأنا شاكر لهؤلاء هذا التعاطف، أقول لهم إن الله تعالى قد أغناني وأمثالي من رجال التربية الخطباء عن هذه الصلة التي لا تزيد عن مائة درهم للخطبة ، وهو أبخس ما يعطى مقابل خطبة فيها كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ،فضلا عما فيها من علم ونصح وتوجيه وتربية . ولا مجال لمقارنة هذا الذي تخصصه الوزارة للخطابة مع ما تنفقه على غيرها .
وأنا شخصيا زاولت الخطابة في خمسة مساجد بمدينة وجدة تطوعا واحتسابا للأجر عند الله عز وجل، أما الصلة التي مر علي زمن طويل دون الاستفادة منها ،فيشهد الله وهو خير الشاهدين وكفى به حسيبا أني أتصدق بها .
وعودة إلى قرار التوقيف أستغرب أن تنفرد المندوبيات به دون مراجعة المجالس العلمية المسؤولة عن تزكية الخطباء ، ذلك أن المنطق يقتضي أن من يزكي هو الذي له صلاحية فسخ أو نسخ التزكية إلا أن الوزارة تخطت أصحاب الصلاحية إلى غيرهم ممن ليسوا أهلا لذلك ، وركبت نقطة من المادة الثامنة في الظهير الشريف المنظم لمهام القيمين الدينيين واتخذتها ذريعة للتخلص ممن تريد التخلص منهم من الخطباء خصوصا المنتمين إلى قطاع التربية من مختلف الأسلاك التعليمية . ومعلوم أن هذه النقطة في المادة الثامنة من الظهير حمالة أوجه أوحمالة تأويلات ،وهي من قبيل عبارة : » كل ما من شأنه » .
وتنويرا للرأي العام أنفي اتهام الوزارة لي بالتحيز ، فإذا كانت تقصد به أنني أنتمي إلى جهة ما، فكذبت لأنني لا أدين بولاء لا لجماعة ولا لحزب ، وأنا دائما أعبر عن ذلك في مقالاتي ، وأقول يكفيني الانتماء إلى الإسلام دينا وعقيدة ، وإلى لمغرب وطنا ، أما إذا كانت تعني بذلك أنني تحيزت لقضية المسجد الأقصى فنعم التحيز، وأنا أعتبره وسام شرف فوق الجبين . وأما قولها أن خطبتي قد خرجت عن إطار الخطابة، فأترك الحكم على ذلك للمجالس العلمية الموقرة ذات الاختصاص والصلاحية والأهلية ،وأقول لغيرها ممن يتطاول على هذه الصلاحية والاختصاص لست في عير ولا نفير كما يقال ، كما أترك الحكم أيضا للرأي العام وقد نشرتها في رسالة مفتوحة موجهة إلى الوزير ليطلع عليها الجميع . وأنا أتبرأ من كل جهة تركب قضيتي للارتزاق بها ،ومن سولت له نفسه ذلك فليعلم أن لي لسانا وقلما ينثر ويشعر.
وأختم بالقول لمعالي الوزير كما قال الشاعرالنابغة :
لئن كنت بلّغت عني وشاية = لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وأقتبس أيضا من الشاعر المتنبي قوله :
ومكائد السفهاء واقعة بهم = وعداوة الشعراء بئس المقتنى
وما أظن أنه خاف على معاليه أنني من الخطباء الشعراء .
Aucun commentaire