الطفل أملنا الوحيد في الإصلاح.
بقلم: خالد حاجي
قال المسؤول عن « مايكروسوفت » في العاصمة البلجيكية بروكسيل في معرض تقديمه لـ « ليندا ليوكاس »، صاحبة سلسلة كتب الأطفال المعنونة « Hello Ruby »: « الفينلانديون معروفون بالخجل: والفرق بين الفينلاندي المنغلق على ذاته وبين المنفتح على الآخرين هو أن الأول ينظر بعينيه إلى قدميه وهو يحدثك؛ أما الثاني فينظر إلى قدميك أنت ». انفجرت ليندا ضحكا، علامة على تصديقها لهذا الكلام وإقرارا منها بحقيقة خجل الشعب الفينلاندي.
وبعد أن أخذَت الكلمة للتحدث عن تجربتها مع كتب الأطفال، جعلت تُجيب، دون أن تشعر، على سؤال ظل يُلحّ عليّ، كما يُلحّ على كثيرين، ألا وهو السؤال المتعلق بالسر في خروج المجتمع الفينلاندي المغمور من عزلة خجله إلى مضمار الإبداع والابتكار التكنولوجيين، حتى أن نوكيا استطاعت أن تنافس أكبر شركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومة والهندسة الإلكترونية عبر العالم.
لا شك أن ظروفا موضوعية كثيرة ساهمت في إعطاء فينلادندا، البلد الصغير، مكانة تحت شمس العولمة، منها الاستفادة من الدعم الأمريكي خلال الحرب الباردة، والانتساب إلى أوروبا حضاريا وثقافيا ودينيا؛ غير أن العامل الأساس الذي جعل المجتمع مجتمعا حيا، متحركا، وجعلت من أفراده « أبناء وقتهم »، يفهمون العالم من حولهم ويتفاعلون معه، هو الوعي بدور التربية والعناية بالمنظومة التربوية والحرص على تطويرها.
تقدم ليندا ليوكاس مثالا حيا على الوعي بدور التربية في تأهيل المجتمع لفهم العالم وتَمَثُّل الواقع الكوني تمثلا صحيحا يعين على الفعل والحركة ويُمكِّن من أسباب الإبداع والابتكار. فهي تصدر عن إحساس دفين مشترك بين معاصرينا بأن عالم التكنولوجيا والحواسيب والبرمجة المتقلب يُورِّث الإنسان قلقا ويحجبه عن فهم طبيعة الآلات والأدوات التكنولوجية التي يستعملها. وللمساهمة في تبصير العقول بحقيقة أداوات العصر وتخليصها من الإحساس بالدهشة أمام الظواهر التكنولوجية الحديثة ترى ليندا أن المنطلق لا بد أن يكون من كتاب الطفل، أي من مراحل التنشئة الأولى.
من يصغي لحديثها عن تجربة الكتابة للأطفال وعلاقة هذه التجربة بالفعل التربوي، تستوقفه تفاصيل كثيرة. منها ما هو متعلق بجملة الآليات والأفكار البسيطة التي تنفذ إلى مخيلة الطفل لتمكنه من استيعاب المصطلحات التي يستعصي فهمها حتى على الكبار أنفسهم. فالطفل يُستدرج للتشدق بمصطلحات من قبيل « الخوارزميات » مثلا، حتى إذا استُأنِس منه تلذذ باللفظ وتباهي بالقدرة على النطق به، شُرِع في تقريب معناه إلى فهمه اعتمادا على تجاربه الحسية والأمثلة اللصيقة من واقعه اليومي. كأن يقال له أن الخوارزميات هي في أصلها السعي خطوة تلو الخطوة لإيجاد حلول عملية لمشاكل تعترض الإنسان، وقد يُمثَّل على ذلك بمثال طفل يحمل فرشة الأسنان في اليد اليمنى وأنبوب معجون الأسنان في اليد اليسرى، يجد نفسه مجبرا على التفكير في الخطوات التي سيخطوها لتخطي العائق المتمثل في استحالة وضع المعجون على الفرشة لكون الأنبوب مغلقا بسداد. يفهم الطفل أنه يمارس الخوارزميات حين يقوم بوضع الفرشة كخطوة أولى لتحرير يده اليمنى، ثم يفتح الأنبوب كخطوة ثانية، ليأخذ الفرشة مجددا كخطوة ثالثة، فيضع المعجون عليها كخطوة رابعة.
تروي ليندا قصةً تُجلِّي كيف يتدرج الأطفال في التعود على الآلات التكنولوجية الجديدة، خصوصا الحواسيب، حتى يبلغوا مرتبة يتفتق عندها خيالهم العلمي. تسرد حديثا جمعها بفتاة صغيرة أطلقت العنان لمخيلتها فجعلت تسأل هل يا ترى من الممكن، لو كان مصباح الدراجة الهوائية حاسوبا، أن يصبح مصباحا قادرا على تغيير ألوانه، أو ربما أن يتحول إلى مصباح يضيئ خيمتنا أنا وأبي في المخيم، أو، لما لا، أن يتحول إلى مِسلاط يعرض أشرطة. هذا المثال يدل على نجاح الفعل التربوي في تأهيل الأطفال إلى استيعاب الحقيقة التي مؤداها أن التكنولوجيا، كما يدل أصلها اليوناني، مشتقة من كلمة « أداة »، وأن لكل عصر أدواته، أدوات يستعملها الإنسان، لا العكس. قد تبدو الحواسيب بديعة ساحرة تخلب الألباب « magical »، إلا أنها ليست من أعمال السحر ونتائجه « magic »، بل هي نتائج الاشتغال بالمنطق « logic ». وما المنطق في العمق إلا أداة يتوسل بها العقل لإيجاد أدوات أخرى جديدة يقتضيها العصر.
نتخلص من عرض ليندا لكتابها « Hello Ruby » إلى جملة من الأسئلة والفوائد والخلاصات. فكيف يُحتَفى بكتاب للأطفال كل هذا الاحتفاء، فتعطى لصاحبته فرصة التحدث من منبر « Booktalk » سبقها إلى التحدث منه كتاب عالجوا قضايا كبيرة جدا، من قبيل « السلاح الافتراضي والعلاقات الدولية »، و « حصيلة سنة من حكم ترامب » و « تاريخ أوروبا » و « الذكاء الاصطناعي ومستقبل العلاقات الدولية » وغيرها؟ يدرك المنظمون لهذه اللقاءات أن كتاب الطفل لا يقل أهمية عن الكتب الأخرى، بل قد يكون أهم منها، وذلك لاعتبارات بديهية. فلا يخفى أن ما يقرأه الطفل اليوم سيشكل وعيه بالعالم في الغد القريب. فإما أن ترافقه المنظومة التربوية مرافقة تؤهله للاندماج في هذا العالم، أو يحكم عليه بالعيش على هامش التاريخ، في محيط لا يستوعب حقيقته ولا حظ له فيه من التمكن من أدواته.
أشارت ليندا في معرض حديثها إلى دراسة أجرتها بعض الجهات المهتمة بعلاقة الأطفال باللغة، خلص أصحابها إلى أن كثيرا من الأطفال يحفظون عن ظهر قلب كل أسماء الشخصيات المرتبطة بلعبة البوكيمون. فإذا أمكن هذا الأمر، فما المانع من أن يحفظوا أسماء أخرى تحيل على الأدوات التكنولوجية التي تؤثت عالمهم! الأمر كله مرهون بفعل التربية وبمدى وعي المربين بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم. كلما ضعفت المنظومة التربوية وقل وعي الساهرين عليها بدورهم في إدماج الأجيال في العالم، ساهموا في اغتراب المجتمعات عن الواقع الكوني وعن العصر. وبقدر تمكن الأطفال من فهم العلاقة بين الأسماء والمسميات تزيد قدرة المجتمع على الانخراط في روح العصر فهما وإبداعا وصناعة.
يستفاد من عرض ليندا لكتابها أن فعل التربية، كغيره من الأفعال، مسبوق بوعي فكري يوجهه. لا ينفع المجتمع أن يترك أمر التربية إلى ضربات الحظ والارتجال، أو أن لا يضعه في قائمة أولوياته. وكل مجتمع يغفل هذا الأمر يرهن مستقبله ويحكم على ذاته بالاغتراب عن العالم وبالابتعاد عن مراكز التأثير فيه. وليس ينفع الشروع في إصلاح أمر ما من أمور المجتمع ما لم يكن المُربّون في طليعة هذا الإصلاح، يَحولون دون توريث الفساد إلى الأجيال الناشئة. ما جدوى أن تقوم بإصلاح جامعي إذا كانت المدرسة فاسدة! وما جدوى إصلاح المدرسة إذا كان روض الأطفال فاسدا! فالعادات السيئة، مثل العادات الحميدة، تترسخ في الصغر. وكلما بادر المجتمع إلى العناية بالإنسان في صغره، كان أقدر على توجيهه التوجيه السليم في كبره.
قد يكون كتاب « Hello Ruby » تجربة متواضعة، مسبوقة بملايين التجارب المفيدة في السياق الأوروبي، الألماني خصوصا. فما وقوفي عند هذه التجربة بالذات إلا لأنني شعرت وأنا أحضر عرض الكتاب بأحاسيس ملكت علي نفسي فدفعتني إلى كتابة هذه الأسطر. أحسست وأنا أصغي إلى كلام ليندا ليوكاس بأنها تتحدث عن أشياء يستعصي على الإنسان أن ينعم بها في العالم العربي؛ يأتي على رأسها ما سماه الراحل محمود درويش بـ « لذة التفرغ »، حيث يقول: « نحن محرومون لذة التفرغ ». قد نعي في سياقنا العربي كل هذه المعاني أكثر من وعي ليندا بها. لكن المربي عندنا مفتون، لا حظ له من لذة التفرغ التي تجعله يقف بعقله عند الشيء، يقلبه في جميع الاتجاهات حتى يعثر على المعنى. ووراء فتنته أسباب ذاتية ثقافية، وأخرى موضوعية سياسية.
أظن أن العالم العربي يمثل نموذجا من أسوء نماذج الاندماج في العصر، إن على مستوى الاستيعاب والفهم أو على مستوى الابتكار والإبداع. ومرد هذا الأمر إلى ضعف المنظومة التربوية وعجزها عن تقريب العلاقة بين الدوال والمدلولات، بين الأسماء والمسميات، إلى فهم الأطفال عبر الفعل التربوي المدروس والمناسب. عند التأمل يجد الفرد العربي ذاته عرضة لآفتين، آفة منظومة تقليدية تتولى تلقينه أسماء لا مقابل لها في واقعه المحسوس، غالبا ما تمت بالصلة إلى منظومة أخلاقية مجردة. وآفة منظومة حداثية تلقنه أسماء أفكار وأدوات دخيلة لا يطمع في أن يستوعب مكوناتها.
والحق أن دخول المجتمعات العربية العصر واستيعابها لأدواته لن يكون إلا إذا تم رد الاعتبار إلى دور المنظومة التربوية في تنشئة أجيال المستقبل. قد ييأس الإنسان من الطمع في بلوغ ما عند الآخرين لشعوره بأن زمنه الحضاري هو زمن انحدار، لا ينفع فيه تنظير للنهوض أو تفكير في التطور والخروج من الانحطاط، على خلاف زمن غيره الحضاري الذي هو زمن صعود. لكن هناك دواعي كثيرة للتفاؤل، مصدرها الإحساس بأن المجتمعات العربية بلغت القاع الذي لا قاع بعده، القاع الذي لا يسع النازل إليه إلا التفكير في التوسل بالتربية لإعادة الأمل للناس في إحياء المجتمع من جديد.
Aucun commentaire