الوطن حينما يصبح ثروة، والثروة حينما تصير وطنا
رمضان مصباح الإدريسي
توطئة:
الوطن ثروة الفقراء، والثروة وطن الأغنياء
روى أحمد والبزار ورواتهما ثقات، وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
« هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الفقراء المهاجرون الذين تُسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: اتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفت أمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني، ولا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب (سلامُ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) الرعد:24
حب الوطن ثروة من لا ثروة له:
الحب في هذا الوطن عملة أزلية سبقت الدرهم، عملة ينفقها الفقراء بسخاء، أنى وُجدوا:
في البادية ينشط الواحد منهم للحياة فجرا، والطير في وكناتها. يتمم حديثا مع زوجته، وكأنه ما انقطع، وكأنهما ما ناما:
الحمد لله، أغاث الله البلاد والعباد، يقول هذا وهو لا يملك سعة جلد ثور من أرض الوطن.
يُقَبل بعينيه صِبيته « زغب الحواصل، لا ماء ولا شجر »، على حد تعبير الحطيئة، ذات قسوة عمرية.
نيام بعضهم في حضن بعض، بكل براءة وعفوية. هكذا يعلم الفقر الحب للأطفال وهم نيام. لو باعدت الغرف، والأسِرة الوثيرة، بينهم لما حضنوا بعضهم البعض.
تنظر حواء الفقيرة إلى آدم الفقير-وهما كذلك لأن أبوي البشرية لم يملكا غير ورق الجنة-وتقول:
لا ترهق جسدك كثيرا، فكل من في الدار بحاجة إليك.
يمضي إلى الحقل وكله ثقة في نفسه، وبين أضلعه حب جارف لأرض لا يملكها، لكنه يستطعمها، قانعا، فتطعمه.
ويعود مساء بقليل من المال وكثير من الحب والشوق.
يعود – فخورا-بزيت، شاي، سكر، بطاطس، وكثير من الحب يغمر به حتى قطة المنزل.
في ساعات سمر، وحول بقية جمر، تحيط به أثافي دافئة كأثداء الأمهات، لا يروي عن أبي هريرة، ليخدع أحدا، بل عن تعبه وعرقه، وعن أبيه، عن جده أنه قال:
إذا لقيت المغربي، وهو لا يعرف عام البون، والجوع الأسود، فاتهم وطنيته، بل مغربيته.
إذا لقيت المغربي، وهو يعرض عن الله، ويقصد الطبيب في مرضه، فاتهم دينه. نحن سلالة لا نتداوى بغير الدعاء، وإنفاق الحب على الأولياء والصالحين.
إذا لقيت الفلاح، وهو يحرث، ويستعجل الحصاد، غافلا عن متعة إطعام الطير والنمل، فلا تنتظر خيرا من زرعه.
ويروي عن أبيه حديثا عن مسيرة خضراء لتحرير الصحراء، لم يشارك فيها -إلى النهاية-غير الفقراء:
لم يكن بِجَيْبِ الواحد منا غير شيكات حب، موقعة للوطن على بياض، لا نبخل حتى بقلوبنا، نهديها له، وهي تنبض كقلوب ملايين « الما يا والأزتك » الذين ذبحهم الرهبان، وتدحرجت رؤوسهم عبر أدراج المعابد.
يزورنا الأغنياء، يتفرجون علينا، يلتقطون لنا صورا، ثم يعودون من حيث أتوا، ويتركوننا بين الفيافي والكثبان، وقد جردونا حتى من التاريخ.
ثم يتذكر أبَ الوطنية، محمد الخامس، فيقول للزوجة والصغار، رواية عن أبيه عن جده:
خرجت مسيرات، على الأقدام، من كل أرجاء الوطن، سارت بنهار، وسَرَت ْبليل، في اتجاه الرباط لتتملى بطلعة صاحب الصولة والصولجان.
يقول الجد: كنا ننتعل الحب، نرتديه، نتغذى ونتعشى به. لم نعرف الجوع قط. بركة الملك المجاهد.
أما الأغنياء فقد شيعونا في ضواحي المدن، وعادوا أدراجهم. لم ينسوا، وهم ينصرفون، أن يجردونا من التاريخ ويأخذوه معهم. هكذا يفعلون دائما، يغيرون على ذاكرتنا.
لم يكن يهمنا هذا الذي أخذوه منا، ولم نعرف قيمته حتى امتشقوه في تدافعهم من أجل أموال المقاومة.
دافعنا فقط عن أرصدة الحب حتى أوصلناها إلى محمد الخامس، رحمه الله، غير منقوصة.
لم يتذكرنا التاريخ، حتى ظهر ملك الفقراء. سار بيننا يحيط به استغراب الأغنياء.
من يومها صار لنا ملك، لأول مرة، في تاريخ لم يكن لنا أبدا. ورغم تواصل فقرنا أحسسنا بالشبع.
ألفنا أن ننتظر، وحينما لا يكون علينا أن ننتظر، نستغرب، ونتساءل: ماذا حصل؟
ورغم صبرنا صار لنا أعداء كثر، وكأنهم يستكثرون أن يكون لنا ملكنا، هكذا دفعة واحدة دون أن نطالب بشيء، ودون أن يصلنا شيء، عدا الاعتراف بوجودنا، وتقدير صبرنا.
اليوم يتحدثون عن ملك الأغنياء، في المغرب: رجل اسمه شعبي، كان من بين الأثرياء بالحب، مثلنا، وصار ثريا بالمال.
في ما يخصنا لم نفرط في أرصدة الحب، لأننا نعرف أن الذهب لن يسيل بين أيادينا.
وقد تأكدنا، مع هذه الحكومة التي تروي عن أبي هريرة-في ما يقال-أن حكماءنا كانوا على صواب، وهم ينصحوننا بعدم التفريط في عملتنا الأزلية.
علينا أن نحب الوطن، بكل ما فيه، مما تنبت الأرض من تفاحها وموزها وفومها و…
علينا أن نحب الوطن، بكل ما فيه من صول وميرلا وبواجو وكروفيت… وباقي الفواكه الزرقاء.
علينا أن نحب الوطن، وكل ما يؤثثه من فيلات وعمارات، ننظر إليها وننصرف وقد تركنا بها –وهما-أجسادنا، ولو إلى حين، إلى أن تصدمنا أول صفيحة متهاوية، من سقف متهالك.
علينا أن نحب الوطن، ونحن ننظر إلى هذه المدارس والمعاهد، وكأن الصغار بها فراشات تطير، وكأن الأزهار فراشات نائمة.
ننظر ثم نعود الى أبنائنا بين « فرث ودم » بين كدمات عصا الفقيه، وضربات المناكب أمام حنفية الحي.
بماذا نواجه كل هذا؟ لا نملك غير الحب، وإن كان أحباؤنا قلة.
نحن نصنع فخر الأغنياء، فلولا « اشتعال النار في ما جاورت*** ما كان يعرف طيب ريح العود ».
نقوم بخدمة بنكية دون أن نقبض ثمنا.
والثروة وطن الأثرياء:
عرفنا منذ الأزل، وبعد الصحابي ثعلبة الغني، ألا متسعا في قلب الأثرياء لحب الدين والوطن.
هم، في وطننا، يحبون شوارع محمد الخامس والسادس، فقط لما بها من مصارف وأبناك تعطي لوجوههم لون التبر واللجين.
ورغم هذا لا عِزة لهم بدوننا، لأن الغنى يتشابه، ملة واحة، أرصدة متكافئة وإن تفاوتت.
الواحد منهم نؤوم الضحى، كما مدح الشاعر الجاهلي محبوبته، ذات الجيد المعم في العشيرة والمخول.
استيقظ الأبناء وذهبوا إلى مدارسهم، في غفلة منه. لم تحضنهم الأم النائمة، ولا الخادمة المرهقة.
لم يناموا في أحضان بعضهم البعض، لأن لكل واحد غرفته ومتاع دنياه.
حتى قطط المنزل لم تستيقظ من نومها، ولا من تخمة العشاء الدسم.
وحدها البورصة جمعت بينه، وبين أقرانه، منذ الثامنة صباحا.
لا تسمع فيها لغوا عدا قولا سهاما سهاما… لا سلام بين ساكنتها ولا كلام بين حواسبها.
بداية يوم ثري كسائر أيام الأثرياء.
يصبح في شركة كبرى للتصدير، ورثها عن أبيه، عن جده. هو يرثهم فقط، ولا يروي عنهم شيئا يخص الوطن.
أوصاه الوالد بالأرصدة ولم يوصه خيرا بأحد.
يتلقى مكالمات، وفاكسات وايميلات، دفعة واحدة، من أرجاء الدنيا، حيث أمثاله من سلالات الثراء.
تنحني السكرتيرة، قريبا، قريبا، يضوع شذاها، ولا حياة في الأوصال، ولا حتى ذكرى لغزل عذري أو ماجن.
يَوْمَ عشِق الثروة اتخذها زوجة دون الزوجة، وولدا دون الولد، وهام في حبها، وهو يقسم لها، بألف بنك، وبمواقع الذهب، أنها وحدها الحبيبة.
بعد أن يضم إلى قلبه آخر ما التحق من ملايين، يخرج من الباب الخلفية حتى لا يقابل أحدا من الشاكين والسائلين، وينتهي إلى نادي الأثرياء ليركب معهم عباب ليل معربد حتى الفجر.
ولا متسع له ليسأل: كيف قضى الأولاد يومهم؟ كيف انصرم يوم الزوجة في حضن الثروة.
لا متسع لهما ليتذكرا قصة الخلق، وآدم وحواء، الخجولين لعريهما، ثم وهما يرضيان بورق الشجر سِترا. ثم وهما يهبطان للضرب في الأرض.
لا متسع لكل هذا الحكي الجميل.
لا متسع لنشرة الأخبار والنشرة الجوية، ولا شأن له مع بنكيران وحكومته، لم ينتخب أحدا ولا ينتظر شيئا من أحد.
لا يعرف حتى لماذا يهنئ المغاربة بعضهم البعض، حين ترعد وتغيث العبد والبهيمة.
لا يروي لا عن أبي هريرة، ولا عن أبيه وجده.
لا يعرف هل اتجهت المسيرة جنوبا أم شمالا.
لا تسألوه عن ثورة الملك والشعب، وكل دواوين علال الفاسي، ولا حتى عن عدد حروف الضاد لأنه لا يعرف.
تعلم في مدرسة القناطر، خارج المغرب. تعلم فقط كيف يبني القناطر الموصلة للثروة.
ورغم أنه لم يطلب شيئا من أحد، قيل له: لقد عفا رئيس الحكومة عن ثروتك، عما يكون قد خالطها من حرام.
لم يكلف نفسه شكر أحد، أو إعلان الإسلام على يد أحد. يرى نفسه غير مدين لأحد، حتى والده نسيه منذ سلمه للقبر وتسلم كل أرصدته.
وطن ووطن، وشتان بينهما. تحسبهم واحدا وقلوبهم شتى.
لو طلبنا من الرجلين رسم خريطة المغرب، لرسمها أحدهم جبلا من ذهب، ولرسمها الآخر على شكل قلب كبير.
ولو تنادى الناس للدفاع عن الوطن لاستمات القلب الكبير من أجل جبل الذهب.
هكذا في كل العصور. اللهم احشرنا مع أصحاب القلوب الكبيرة.
هنيئا لأغنياء مغاربة « في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ». هم موجودون بيننا، ولا يعتبرون الثروة وطنا.
« إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب »، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
Aucun commentaire