السلسلة الصحية « شَــرَّحْ…مَــلَّــحْ » عندما تتحرش إدارة معهد وجدة للممرضين… بالطلبة و الموظفين
« العين الثالثة للعالم » أو « الأخ الأكبر » الذي يراقبنا من حيث لا نعلم حتى يروي تعطشه للسلطة و التملك و تجريد حياتنا من خصوصيتها. كاميرات المراقبة تلك العدسات التي فرضها التطور التكنولوجي المخيف بهدف أساسي ارتبط بالهاجس الأمني الموجه نحو تقليص معدلات الجريمة و الأخطار المهددة لاستقرار المجتمع باعتبارها استراتيجية أمنية استباقية.
إن أي محاولة لاستقراء تاريخ كاميرات المراقبة عبر العالم ستقف بنا مطولا عند « بريطانيا » مهد هذه التكنولوجيا التي بدأت العمل بها سنة 1913 من خلال التصوير خلسة من داخل السجون بدءً ب suffragette و هو أحد أشهر السجون في بريطانيا، ليستمر بعد ذلك مسلسل تبني هذه المخلوقات البصرية في مختلف الشوارع و الطرق الرئيسية و محطات القطار و الميترو و الملاعب و الصرافات الآلية… حيث أن عشرين بالمائة من مجموع كاميرات المراقبة في العالم مركزة في بريطانيا لوحدها رغم أنها تمثل واحد في المائة فقط من مجموع سكان العالم أي بمعدل كاميرة واحدة لكل أربعة عشر مواطن بريطاني و ذلك حسب منظمة « بيج براذر ووتش ».
منذ سنة 1913 و كاميرات المراقبة تزحف و تتكاثر داخل مكونات المجتمع البريطاني لكنها لم تجرؤ على زعزعة حُرمة المؤسسات التعليمية إلا في أوائل القرن الواحد و العشرين أي بعد أن ترسخت هذه التكنولوجيا أولا كثقافة و صورة مجتمعية تساير فلسفة العيش البريطانية، و ثانيا بسبب ارتفاع ظواهر العنف المدرسي و انحرافات المراهقين، ليتم بذلك تثبيتها في محيط المؤسسات و مداخلها و ممراتها فقط. تبني هذا الدخيل المجتمعي من طرف الدولة لم يمر مرور الكرام لأنه جعل النشطاء المدافعين عن الخصوصية الفردية يشعرون بالقلق من إمكانية أن تتحول بريطانيا إلى المجتمع الشمولي الكئيب الذي تحدث عنه الكاتب « جورج أورويل » في روايته الشهيرة « 1984 » التي تدور حول الحياة في ظل الحكم الشمولي و حول الدولة التي تمارس قوتها وسيطرتها الكاملة على الحياة الاجتماعية، حيث يتم التجسس على المواطنين وتتم التضحية بالحرية الشخصية مقابل دولة قوية، فعندما أصدر « جورج أورويل » كتابه « الأخ الأكبر يراقبك » لم يخطر في باله أن بلاده ستستخدم هذا الكم الهائل من كاميرات المراقبة و ستصدر ترسانة مهمة من القوانين المرتبطة بذلك.
في غشت 2008 أصدرت جمعية الأساتذة المحاضرين ببريطانيا « ATL » تقريرا من ضمن ما جاء فيه « أنه لا أحد يعرف سبب تواجد كاميرات المراقبة داخل المؤسسات التعليمية، و أن أكثر من نصف الأساتذة المستجوبين يؤكدون أنها لم تغير مطلقا التصرفات السلبية للتلاميذ » كما ذهب التقرير إلى أن تثبيت الكاميرات داخل فصول الدرس يعد مساسا خطيرا بالحياة الخاصة للطلبة و الأساتذة و يُجانب روح العملية التعليمية.
فرنسا هي الأخرى بدأت تعرف تراجعا ملحوظا عن استعمال كاميرات المراقبة داخل المؤسسات التعليمية حيث فرضت اللجنة الوطنية للمعلوميات و الحريات « CNIL » منذ سنة 2010 على مجموعة من المدارس سحب كاميراتها خصوصا من الأماكن الحيوية كالساحات الداخلية و فصول الدرس مع الإبقاء عليها فقط عند مداخل المؤسسة و محيطها، و عللت اللجنة قرارها هذا بكون تلك الكاميرات « تمس الحريات الفردية للتلاميذ و الأساتذة و بأن الحفاظ على أمن التلاميذ يجب أن يقوم به أولا الموظفون من حراس و أساتذة المؤسسة، إذ لا يمكننا أن نطلب من التلاميذ الانتباه إلى حياتهم الخاصة عندما يستعملون الأنترنيت و في نفس الوقت نقوم بتصويرهم يوميا بكاميرات المراقبة داخل مدارسهم! ».
المغرب بدوره أصابته « عدوى العين الثالثة للعالم » و لو بصفة متأخرة حيث كانت البداية محتشمة سنة 2003 تقريبا في إطار استراتيجية أمنية استباقية ببعض النقط الحساسة لم توازيها للأسف جودة التنسيق و التدخل الميداني السريع و الاستباقي، لذا لم يصل دور هذه الكاميرات إلى منع ارتكاب الجريمة بل ظل حبيس « الأرشَفَةِ » و التسجيل دون إجراءات تكميلية ميدانية على نفس المستوى. ليصدر بعد ذلك القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي سنة 2009 و هو الوحيد في هذا المجال.
سنة 2013 و بدون تأثيث مسبق أو تطور تدريجي كما رأينا عند بريطانيا الدولة التي تحترم مواطنيها، حطَّت « عدوى العين الثالثة » مُقَلَها بالمعهد العالي للمهن التمريضية و تقنيات الصحة بوجدة، بدأت أولا بتتبع « المجرمين البيداغوجيين » عند مداخل المعهد و ممراته و ساحاته رغم أن أصواتا كثيرة من بين الطلبة و الموظفين أكدت أن الخطوة في غير محلها نظرا لوجود أولويات أكثر استعجالية من قبيل إصلاح المقاعد المهترئة التي تشوه معالم الفصول، و توفير وسائل التلقين البيداغوجية الكافية، و معالجة مشكل نقص أقسام التدريس، و توفير قاعة الاستراحة للأساتذة، و الدفع نحو صياغة قانون أساسي لفائدة أساتذة المعاهد و سن أعراف (في ظل انعدام القوانين التنظيمية) بغية تنظيم مهامهم عوض استغلالهم مهنيا، و تقويم المراحيض المنكوبة التي تعاني عَطالةً دائمةً و حظراً للمياه و الإنارة…
الدخول الجامعي 2016/2017 سيعرف تعيين إدارة جديدة للمعهد ستعطي إشارة إلى حسِّها التدبيري « البوليسي » من خلال إسنادها أولوية أكبر للهاجس الأمني داخل مؤسسةٍ يُفترض أن همها الأول و الأخير هو التكوين و التلقين، لتستبيح حُرمةَ بعض قاعات الدروس (في انتظار استباحة البقية، و هي خطوة لم تجرؤ عليها الإدارة السابقة) بدون سابق إنذار أو إعلام للطلبة و الأساتذة، من خلال تثبيت كاميرات مراقبة تتحرش يوميا بأسمى ركن من أركان العملية التعليمية/التعلُّمية و هو الفصل، فضاءٌ كان إلى وقت قريب مطبوعا بعلاقة متميزة بين الطلبة و الأستاذ تحفها الثقة المتبادلة و العفوية و الحرية الفردية المَكفولة إلى أن تجرأت إدارة المعهد على تلك الرابطة السامية و تحرشت بالحرية الفردية بل و اغتصبتها دون أدنى حس بالمسؤولية، و هي بجُرمها الأخلاقي هذا المتجلي في عدم إعلام طلبة و أساتذة المعهد بهدف الحصول على رضاهم في شأن إيلاج كاميرات المراقبة إلى أقسام الدروس، هي بذلك تضرب بعرض الحائط مقتضيات المادتين 1 و 4 من القانون رقم 09.08 اللتين أكدتا على ضرورة احترام الحريات الجماعية و الفردية للإنسان، و أنه لا يمكن القيام بمعالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي (بما فيها الصوت والصورة) إلا إذا كان الشخص المعني قد عبر بما لا يترك مجالا للشك عن رضاه عن العملية أو مجموع العمليات المزمع إنجازها. كما خالفت إدارة المعهد المسطرة القانونية المتبعة و الواردة في المادة الخامسة من نفس القانون و التي تفرض على المسؤول عن المعالجة أو من يمثله إخبار كل شخص تم الاتصال به مباشرة قصد تجميع معطياته الشخصية إخبارا مسبقا وصريحا ولا يحتمل اللبس بالعناصر التالية، ما عدا إذا كان على علم مسبق بها: هوية المسؤول عن المعالجة وعند الاقتضاء هوية ممثله؛ غايات المعالجة المعدة لها المعطيات؛ كل المعلومات الإضافية، مثل :المرسل إليهم أو فئات المرسل إليهم؛ ما إذا كان الجواب على الأسئلة إجباريا أو اختياريا وكذا العواقب المحتملة لعدم الجواب؛ وجود حق في الولوج إلى المعطيات ذات الطابع الشخصي المتعلقة به وتصحيحها.
لابد هنا من طرح تساؤل يهم الشركات المكلفة بالحراسة التي تعاقد معها المعهد هل سيستمر دورها كما في السابق أم أن حضور الكاميرات سيساهم في التقليل من تواجدها؟! ما يحيلنا إلى الحديث عن التكلفة المادية التي نخرها مشروع الكاميرات ومدى تعاظم الميزانيات التي يوجهها المعهد لمجال المراقبة والحراسة تارةً و لأعمال التعديل المتكررة و الباهظة الموجهة إلى « قاعة الندوات » التي تحتضن أنشطة قليلة جدا عبر أيام السنة و أغلبها لا يهم الطلبة و لا موظفي المعهد، و لمصاريف العناية « بشجرتي » المعهد اليتيمتين اللتين تثقلا كاهله، و لأشغال بناء جدران المعهد الجديد المحاذي الموقوفِ التنفيذ بفعل « عوامل التعرية البشرية »… إلى جانب مجموعة من التدابير التي لا تعتبر أولوية بالنسبة لمرفق تعليمي… أليس في ذلك جوابا على السؤال الوطني: « أين الثروة؟ »…
إن في زرع كاميرات المراقبة داخل الفصول من طرف إدارة معهد وجدة إيحاءٌ بعدم وجود الثقة سواء في الطالب أو الأستاذ، مما يُفقد التعليم جوهر «الثقة» الذي يعد من أهم أسسه، كما يبدو أن واضعي هذه البدعة اللاإنسانية و اللابداغوجية قد فاتهم أمر مهم يتمثل في أن المراقبة لا تبني السلوك الإيجابي والقيم المجتمعية لدى الطالب بصورة حقيقية عن قناعة، بضميرٍ و بوازعٍ أخلاقي، بل تعمل بشكل مزيف و قاصر على تعديل السلوك بصفة مؤقتة وغير دائمة و بطريقة سلطوية إجبارية تولد لديه ردة فعل تمردية و رافضة، لكونه لن يقتنع أبدا بتبني سلوك تفرضه « قوة » الكاميرة… كما أن وضع الكاميرات يشكل انتهاكا واضحا وصريحا لخصوصية العلاقة السامية بين الأستاذ والطالب.
عندما تعترف الإدارة بفقدان الثقة في طلابها و أطرها فإن الحال يفرز رد فعل مضاد طبيعي من طرف هؤلاء يتجلى في سحب الثقة من الإدارة و مطالبتها بتعميم كاميرات المراقبة على جميع مكاتبها خصوصا الخاصة بالمدراء و الكتاب. و عليه يحق لنا بدورنا طرح فرضية مفادها أنه قد تتم إساءة استخدام التسجيلات المرئية لتشويه سمعة أحدهم بسبب ضعف الوازع الديني لدى البعض أو بسبب غياب التأطير القانوني لعملية المعالجة و الإتلاف، و كما لا يخفى عليكم فالتكنولوجيا سلاح ذو حدين وفي ظل هذه الثورة الرقمية التي نعيشها لن يستطيع أحد أن يمنع اختراق هذه الكاميرات من طرف أيادٍ خارجية غير بريئة المقاصد و الذمم…
كما لا يفوتنا إثارة الانتباه إلى الطريقة اللامسؤولة التي يتم بها عرض و معالجة تسجيلات الكاميرات على مستوى معهد وجدة للممرضين، إذ توضع الشاشة الكبيرة للتسجيلات المباشرة بجانب المكتب الخاص بالسكرتارية أمام مرأى كل من هب و دب حتى الزوار الغرباء عن المعهد، و غالبا لا تكون هناك متابعة دقيقة و آنية لكل ما يتم نقله على الشاشة من طرف كاميرات المراقبة حتى يكون التدخل سريعا و فعالا في حالة حصول حادث أو تجاوز ما… و هو الأمر الذي عالجته المادة السادسة من القانون البلجيكي لتثبيت و استعمال كاميرات المراقبة المؤرخ ب 21 مارس 2007 حيث جاء فيها » لا يمكن بث التسجيلات المرئية مباشرة إلا إذا كان التدخل الآني متاحا في حالة جريمة، أو ضرر، أو إزعاج أو مساس بالنظام العام ».
أخيرا و عند سؤال فقهاء القانون عن هذه الإشكالية أكدوا أن وجود الكاميرات مقبول من الناحية القانونية في الممرات والساحات ومداخل المؤسسة التعليمية ومخارجها لتأكيد مفهوم الأمن والسلامة، ولكن يُحظر استخدامها في أقسام الدروس وغرف الأساتذة والمرافق الخاصة كدورات المياه و غرف الطلبة ويعتبر ذلك مخالفة قانونية وتعديا على الحريات والممارسات.
و اعذروا زلات و هفوات أخيكم و رفيقكم محمد عبد الله موساوي.
بقلم محمد عبد الله موساوي.
1 Comment
انا طالب بمعهد الصحة بوجدة وأرى ان الادارة تحاول كبث حريات و تصرفات الثلاميذ و تحية خالصة على هذا المقال الرائع