من هم أساتذة التربية على العلمانية المتوحشة؟
من هم أساتذة التربية على العلمانية المتوحشة؟
رمضان مصباح الإدريسي
نحن في المغرب،وقد يسري هذا على العديد من أقطار الأمة العربية و الإسلامية،نفهم في العلمانية ,و ننظر لها أحيانا،لكننا ندرك أننا لن نعيشها أبدا واقعا دولتيا ؛كما هي حيث انتزعت كامل حقوقها من الكنيسة المسيحية؛بل ودفعتها الى الاعتذار ،غير ما مرة،عن سيء أفعالها اذ احتمت بالسماء لتجهز على الحياة الأرضية الذكية،مستنبتة مزارع شاسعة من الغفلة والسذاجة.
لن نعيشها واقعا دولتيا ملزما،الا ظالمين ومتعسفين ؛لأن المشروعية –خلافا للعالم المسيحي- تعوزنا.
لو أقدمنا على تصنيفات كبرى ،موضوعية، للديانات العالمية،وسائر التيارات الفكرية الإنسانية،لوجدنا أنفسنا – إن أنصفنا- ملزمين بوضع الإسلام في نفس خانة العلمانية ؛لأنه شكل منذ انطلاقته ،ثورة كبرى على الموروث الروحي ،كما استوى في زمن البعثة ,مختزلا – في تناص عقدي ظاهر، أو خفي – كل ما انتهت إليه الإنسانية في محاولات إجابتها على الأسئلة الوجودية الكبرى.
انه تناص ,جعلته سلطة الوحي وتعاليه على التاريخي الزمني،يبلغ الذروة ،مشكلا منعطفا كبيرا ،دون أن يحدث قطيعة شاملة مع الموروث الإنساني، إلا حيث تشتغل النصوص القرآنية » الانقلابية « القطعية الدلالة.
يتمحور خطاب العلمانية- حيث ولد ولادة طبيعية،زمنيا وابستيمولوجيا- حول النأي بالدولة المدنية عن النص الديني واشتغالا ته ؛وحصر مجال تنزيل هذا النص في ثنائية العابد والمعبود:الفرد وربه الذي ارتضاه.
ومن مشمولاته الأساسية ألا إكراه في الدين ؛لا إكراه دولتيا ولا مجتمعيا ولا عائليا ولا فرديا.سواء كان هذا الإكراه مباشرا أو غير مباشر.
دولة العلمانية هذه لا تفويض إلهيا فيها لأحد،ليمارس أي شكل من أشكال السلطة.كل السلط مستمدة من الدساتير ،والقوانين الوضعية . تشكل الانتخابات الشعبية العامة، الطريق السيار الوحيد للوصول الى السلطة،ويتضمن ،طبعا،استبدال القائم منها أو تزكيته.
وفي دولة العلمانية لا حدود للفكر ؛وفي هذا المبدأ عودة الى الأصل ،الى الطفولة البشرية ,وزمن البدايات ،حيث لم تستقر بعد اية سلطة لتوجه الفكر أو تشله؛عدا ضرورات العيش البدائية.
لا حدود للفكر تشتغل أيضا تحت العنوان الكبير :لا إكراه في الدين.بمعنى أن للفكر أن يفكر »ذاته »لإبداع منهجه الذي يراه الأفيد لحياته المادية والروحية- ان رغب أن تكون له حياة روحية-دون وصاية من أحد.
الإسلام العلماني:
اذا تركنا جانبا كل ما انتهى إلينا من تراكمات قرون من تسييس الدنيا بالدين لامتلاكها-عصبية وغلبة- وتوريثها كرها ؛في إقصاء تام للدهماء والرعاع ؛ومداهنة أو مسايفة للخاصة؛فإننا سنقف على حقيقة كون الرعيل الأول من المسلمين؛في البدايات القرآنية الأولى -وقد كانت شفوية ،ولم تُستشعر بعد الحاجة الى تدوينها – تعلموا ،تدريجيا ،أن يكونوا « علمانيين » كما نقول،ونفهم، اليوم :
كان المجتمع القرشي واقعا تحت سلط متعددة؛منها على الخصوص:ما وجدوا عليه آباءهم من وثنية « كعبوية »,شكلت مركز استقطاب لكل المحيط القبلي.وهو استقطاب كان يصب ذهبا في خزائن بيوتات قريش الكبرى.
ومنها التقاليد السلطوية المرعية من طرف مؤسسة الأعيان، للحفاظ على الصبيب الذهبي ووضعها المريح،وهي تمارس سائر تحالفات الإكراه،ولو الرمزية، التي تضمن ألا ينتج المجتمع أوضاعا تخرج عن السيطرة.
تضاف إلى هذا سائر السلط الأخرى ،ومنها سلط العبودية،الثقافة و الإقصاء..
أمام هذا الوضع لا يمكن أن نعتبر « دولة » قريش إلا تيوقراطية مستبدة .وكل خروج عن هذه « الدولة »
يفضي لزاما الى اعتناق أطروحات العلمانية ،كما نفهمها اليوم:
لا إكراه في الدين،في السلطة،في المال وسائر مقومات الحياة المجتمعية. لا حدود للفكر ؛وصولا الى تحجير الأوثان بكل شجاعة وثقة في النفس.لم يكن من السهل أن تقول لقبائل العرب إن أربابكم مجرد أحجار منحوتة.
أرب يبول الثعلبان برأسه *** لقد ذل من بالت عليه الثعالب.
بيت نردده ونكاد لا نلتفت الى أنه بمثابة اختيار ثوري سالت الدماء على جنباته. وقارنوا مع إنشاد قبيلة « عك » اليمنية،وهي عائدة من حجها السنوي الى الكعبة: عَكْ اليك عانية.فرسانك اليمانية.كيما نعود ثانية. جرب أن تقف في وجهها وتقول :خسئتم خذوا حجركم معكم.
هذه النواة الأولى خلقت أوضاعا انقلابية بعلمانيتها –المسنودة بالنص القرآني المتعالي -وليس بشيء آخر. ومن هنا يقول البعض: »ان الإسلام هو دين الخروج من الدين ». أي من كل تراكماته القديمة
كما انتهت الى هؤلاء المسلمين الأوائل ،أتباع رجل منهم ،يوحى اليه ؛واعتبروه أمينا صادقا غير راغب في ملك دنيوي ؛وقد برهن أمامهم على هذا ،وهو يرفض ملكا ومالا عرضتهما عليه قبيلته قريش،ليكف عن آلهتها ،وتيوقراطيتها التي تبيض ذهبا.
كان يربي على الخروج الى عوالم الفكر ،بدون حدود؛وتحدي الخوف القرشي من الفكر المهين للطابو/المقدس:اطلبوا العلم ولو في الصين.مع الأسف صرنا اليوم نقصي كل آيات التحريض على الفكر ،وكأننا نصحح رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم لنعيد التيوقراطية القرشية الممقوتة.
من أين الردة عن الاختيار الديني ، العلماني الثوري؟
حينما نكمل المسار صوب مجتمع المدينة؛وهو دولة في أذهان من عيْنهم على السلطة ،من المتقدمين والمتأخرين، لم يستشعر الرسول صلى الله عليه وسلم ،حتى وهو مشرف على ذوق موتته ،على حد عبارة الصديق رضي الله عنه ،حاجة الى وصية سياسية يوصيها ،عدا إمامة الصلاة. »مروا أبا بكر فليصل بالناس ». لسبب واضح عمي عنه المغرضون:لم يكن له ملك وعرش –أو دولة دينية- يَكِلُ أمرها لمن يراه الأنسب من صحابته. كان ،بحكم النبوة،إماما للصلاة ،وساهرا على سائر أركان الدين.وكان كل همه أن يبلغ الدعوة و يترك الناس ،من بعده ،على محجة بيضاء.
استوت هذه المحجة،بإعمال للنص القرآني نعم ،لكن دون افصاء ،وتعتيم ، عن اشتغالا ته في إطار
المبدأ التشاركي السامي- العلماني بتعبير العصر- « وأمرهم شورى بينهم ». أي كل ما يخرج عن النصوص القرآنية، العقدية الملزمة ،بدلالة قطعية،يدخل في إطار « حقل التشاور ».
لولا قرون الاستبداد العاض، الذي شرعن نفسه ،من خلال التلاعب الكبير بالنصوص،وصولا الى الوضع الحديثي الكاذب على الرسول ،لكنا أمام تراث تشاوري/ديمقراطي ثري،استفاد من كل أخطاء التنزيل على الواقع ليستوي نظاما سياسيا راقيا ،يغنينا،اليوم، عن الالتفات الى الشرق أو الغرب. ويغنينا عن الدفاع عن نهج مارسه الأولون ،ويهم يبذرون البذور الأولى.
وفي سكوت الرسول، صلى الله عله وسلم، عن اختيار الخليفة الزمني ؛إخراج لمؤسسة الخلافة –أو الدولة حاليا- من الشأن الديني ،وإدخالها في الشأن الدنيوي؛ وهذا – كما مارسه الرسول سكوتا-مكون من مكونات المحجة البيضاء ،كما أفرزتها الممارسة الإسلامية الواقعية ،وليس النص القرآني فقط.
في سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم زمنا عن تدوين القرآن-وبالأحرى الحديث- اعتداد بالسلوك والممارسة ،قبل النص. ولولا ثقته في خريجي مدرسته لما تركهم « هملا » خارج إمامة الصلاة.
لو كانت هذه الإمامة مفهومة عندهم ،على أنها تستغرق السلطة الزمنية أيضا، لما ثار خلاف السقيفة الشهير ،حتى استلت السيوف ،ولما يدفن الجثمان الطاهر.
تطور الصراع على الخلافة الزمنية الى درجة أن بعض المحيط القبلي عاود النظر في إسلامه،وطفق يبحث عن مبررات لعدم الامتثال لنصوص الزكاة،بل يبحث حتى عن حقه في النبوة ،ما دامت توصل الى الحكم؛على حد تدافع كبار الصحابة في المدينة؛وهم يتقاتلون، ليس على إمامة الدين، بل من أجل إرساء أصول للحكم الدنيوي الذي سكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم كلية.
أطعنا رسول الله ما كان فينا—فيا لله ما بال دين أبي بكر
أيُورَثُها بكر إذا مات بعده**** فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
ينكر الشاعر هنا-ولعله الحطيئة- على أبي بكر أن يمارس حتى السلطة الدينية التي كان يمارسها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ويتوقع أنها ستكون قاصمة الظهر إذا انتهى الميراث الى توريث آخر.
ما الذي يخيف في العلمانية اليوم؟
ان القول بالدولة المدنية ،اليوم، القائمة على الدستور والمؤسسات ،لا يزيد على الاشتغال في حقل الدنيوي المتروك للشورى بصريح النص القرآني ،والسنة النبوية السكوتية.
ان الإسلام الذي شكل اختيارا ثوريا « علمانيا »و أفضى الى قلب التيوقراطية القرشية ،وصرح بموقفه من الملك الاستبدادي الفاسد والمفسد،كما كان ممارسا،وكما كانت تفهمه قريش ،وهي تعرضه على الرسول « ص » ؛لا يمكن أن يحنط أمة صاعدة ،ويجمدها بنهج في الحكم ،يصير مع الوقت جامدا ،قاتلا للاجتهاد و الإبداع السياسي.
فعلت القرون فعلها ،وصقلت منابر الحكام،وعلماء السلاطين، كل نصوص البدايات الثورية لتجعلها ناعمة الملمس ،لماعة كالماس،وترصع بها عروشها تماما كما رصعتها بالجواهر وطلتها بالذهب.
لم يجلس الرسول على عرش ،وهو قادر ؛ولم يوص بملك أو خلافة ؛وهو قادر على ذلك أيضا ، ومقتنع بالطاعة،حتى في هذا و ما دونه.
كان كل همه المحجة البيضاء ,والتربية على قيم ثورية ولودة، حتى لا ترتد الأمة الى جاهليتها.لم يعترض على اجتهاد صائب ،والقرآن ينزل؛ولم يتحرج ومنتجو التمر يواجهونه بضعف رأيه، حينما نصحهم بإهمال التأبير. » أنتم أدرى بأمور دنياكم « قالها وانصرف لأنه يربي الناس على قيم ,ويتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم ،وفق اجتهادهم.وفي حالة أخرى غير استراتيجيته القتالية،حينما تمت البرهنة أمامه على فسادها.
ما الذي يجعلنا اليوم لا نرى غير الدولة الدينية نظاما للحكم ،ونحن نعرف أن الدين خلافي ،ونعرف أن صاحب الدعوة سكت عن سياسة الدنيا ،وطلب منا أن نذره ما تركنا؟
ما الذي يجعلنا ،اليوم،نكفر من لا يزيد على القول:أمرنا شورى بيننا.الدين لله والوطن للجميع؟
لماذا يكره البعض مؤسسات الدولة المدنية ,ويدعي طهرانية أصحابه فقط ؛ويعتبر أن الخطاب الديني ،فقط، هو المؤهل للإصلاح،في جميع المجالات .هي مشكلة دين فقط ،ويستقيم كل شيء؛هكذا يتوهمون.
ماهذه السذاجة في تدبير الدنيوي ، وقد فوض لنا أصلا من صاحب الرسالة وما حملت؟
لكن حينما لا تملأ العين غير السلطة ،تمشي الأقدام على الجماجم ،وهي لا تشعر. هانحن نرى الدولة التيوقراطية ,التي حاربها الرسول صل الله عليه وسلم؛واقتلع جذورها حتى لا تعاود الظهور ،تطل علينا لتغتال كل فكر متنور ينازعها مبتغاها . فكر ظلامي يغتال فكرا متنورا لأنه يكره النور.
اليوم حينما تستمعون الى علماني متطرف،لا يقبل حتى مقولة الفصل ،لأنه يغتال الدين كلية، ولا يرى له مشروعية واستمرارية ،ولو قيمية ثقافية فقط؛فلا تتهموه بل اتهموا أساتذته ،من المتطرفين الظلاميين الذين – من حيث لا يشعرون- يعلمون الناس أن يكونوا نقيضهم تماما.
ان كراهية الدولة المدنية تورث حبها؛كما أن الظلامية تورث حب النور؛ونحن نعرف أن النبتة لا تنمو ولا تزهر، إلا اذا تغذت جذورها من نور الشمس،وأكسجين الحياة، قبل كيمياء التراب الأسود.
وكل قراءة للنص القرآني ،تغيب فهم وممارسة المسلمين ،العلمانيين ،الأوائل لا يمكن الا أن تهدم المحجة البيضاء التي لا ظلام فيها.
ان الذي ترك لنا أمر دنيانا نتدبره حسب الظروف والأحوال والأزمنة ،كان مقتنعا من نتائج تربيته للسلمين على التحدي والإبداع ،وليس العيش عالة على سلف لو نهض لتبرأ منا.تربيته صلى الله عليه وسلم تربية قيمية ،ولودة،لأنها متطورة بتطور الفكر الذي دعينا الى اعماله من المهد الى اللحد.
قد تتبدل الأنظمة التي نستقر عليها لكنها تظل محكومة دائما بأساس قيمي عميق؛شريطة ألا نفجر هذا الأساس .
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire