قراءة في ملابسات توثيق مدونات المستمزغ الفرنسي Amédée Rénisio للمأثور الشفوي بمنطقة الريف
قراءة في ملابسات توثيق مدونات المستمزغ الفرنسي Amédée Rénisio للمأثور الشفوي بمنطقة الريف
د. بلقاسم الجطاري
نحاول عبر هذا المقال الموجز تسليط الضوء على بعض من ملابسات التوثيق الخاصة بالمأثورالشفوي بمنطقة الريف ، وبيان أثر معطيات التوثيق في بناء الأحكام والاستقراءات، وذلك في أفق التأسيس لتصور جديد ينهي مع عهد التدوين العفوي والتعامل الحدسي مع المادة التراثية (القولية وغير القولية)، ومن ثم القطع مع كل فعالية لاواعية خاضعة لسلطان الحساسية الخصوصية L’idiosyncrasie. وسنتخذ متكأ وشاهدا على هذه الدعوى مؤلفا كولونياليا فريدا كان له فضل إنقاذ مادة أدبية ولسانية ريفية هامة، ونعني المؤلف الموسوم ب »Etude sur les dialectes berbères des beni iznassen du Rif et de Senhaja de srair« ، للمستمزغ الفرنسي « أ.رينيزيو A.Rénisio« .
I. منزلقات التوثيق المطردة في المؤلف:
يكفي إجراء قراءة سريعة لمجموع المدونات التي ضمها المؤلف للوقوف على أنواع من الصعوبات القرائية، وتجليات مختلفة من المعيقات التي تحول دون استكناه التأويل الدلالي الصائب والمناسب. وعموما يمكن توزيع هذه المنزلقات إلى فئتين:
1. منزلقات موصولة إلى الخيار الفونو-غرافي:
ونعني بها تلكم المنزلقات الناشئة عن الخيارين الخطي والإملائي اللذين اتبعهما الباحث، من قبيل اعتماده على صيغة تدوينية تتأرجح بين الكتابتين: الفونيتيكية (التي تروم إعادة إنتاج المنطوق بتفاصيله)، والفونولوجية (التي لا تولي بالا للاختلافات الصوتية إلا ما امتلك منها صفة التمييزية)، وهكذا أهمل الباحث الصوامت النفثية Les spirants التي تميز أمازيغيات الشمال جميعها (tazizwit عوض ÃazizwiÃ)، لكنه ظل حريصا على إثبات الحركة المختلسة Le Schwa في كل مواقعها داخل المقاطع، بما في ذلك موقعها في مفتتح المقطع ( ennes).
إلى جانب هذا التردد بين الصيغتين المذكورتين نسجل أيضا وقوع الباحث في أخطاء كثيرة عند تدوينه للمفخمات Les emphatiques(المطبقات)، وإغفاله للكثير من المدغماتLes géminées . وهو ما زاد من معدل الاختلال القرائي الذي وسم المؤلف قياسا مع مؤلف المستمزغ الفرنسي « صامويل بيارناي S.Biarnay » الذي اعتمد صيغة التدوين الفونيتيكي مستدعيالذلك قائمة من الحروف من النظام الصوتي العالمي.
من الأخطاء الواقعة في دائرة الكلام نفسه نذكر أيضا عدم استناد الباحث إلى قواعد معينة بخصوص تفكيك سلسلة القول (أو ما يعرف بأوفاق الوصل والفصل الإملائي). إذ لجأ الباحث في حالات عديدة إلى إدماج الأدوات الأحادية القطعة (مورفيمات: حدثية-زمنية، وظيفية…) في كلمات الفئات الكبرى (أسماء، أفعال…) التي تتحكم فيها، بحيث تشكل جسما خطيا واحدا، متأثرا، على الأرجح، بإملائية اللغة العربية (التي يتم فيها إدماج بعض الأدوات المشار إليها مع كلمات متعلقة بها، ومن أمثلتها الضمائر المتصلة مثلا، وبعض حروف الجر). وهكذا كتب الباحث مثلا:
izenzišem عوض izzenz išem
dedduxan عوض ß dduxxan
وهو ما أدى إلى نشوء التباسات قرائية عديدة مردها إلى اختلاف وضعية هذه الأدوات في اللغة الأمازيغية عن نظيراتها من اللغات ذات القرابة من الناحية التنميطية (العربية الفصحى والعبرية)، « إذ أن مجمل هذه الأدوات غير ثابتة تركيبيا، بمعنى أنها تتنقل، في بعض السياقات المحددة بدقة تركيبيا، وتصعد لكي تلتصق بعنصر قبل-فعلي في تمام مستهل القضية« .
2. منزلقات مرتبطة بشح المعطيات السياقية والتاريخية:
ونعني هنا مجموع المعطيات التوثيقية التي يفترض أن يتم بها تصدير المدونات بإطناب يسهم في تأويل الملفوظات تأويلا دلاليا « صحيحا ». إذ يلاحظ بجلاء أن الباحث كان مُقِلا في إدراج مناسبات النصوص وحيثياتها السياقية والتاريخية وملابساتها الإثنوثقافية المختلفة، معرضا عن توصيف أشكال التعبير التي تحايث الإنجاز القولي (تعبيرات جسدية، طقوسية، موسيقية، تلفظية …)، وهو ما يظهر من خلال ارتهانه بالنص واكتفائه بذكر اسم القبيلة التي جمعت منها المدونات (أو التي ينتمي إليها الراوي أو الإخباري L’informateur)، وعدم إشارته إلى ملابسات مدوناته إلا في حالات معدودة، كقوله مثلا: » سافر رجل مع ابنته، فاعترضته جماعة وأشبعته ضربا، وعندما اقتربت منه ابنته لتساعده على النهوض، أنشد هذه الكلمات باكيا فقره وحظه العاثر« . ولعل سبب سكوت الباحث عن هذه المعطيات، وعدم سعيه إليها راجع إلى طبيعة تكوينه الأكاديمي الذي تظهر منه نزعته اللسانية، وميله البنيوي، بدليل عنوان المؤلف وموضوعه ومنهجه، وكذا رهانه الإيديولوجي الكولونيالي.
III. أثر الخطأ التوثيقي في بناء الاستقراء الخاطئ:
إن ما عرضناه من أمثلة وشواهد كاشفة لمنزلقات التوثيق ليس الغرض منه تقييم مستويات الدقة والرصانة في هذا المؤلف، وليس استعراض قدرة الميتانص المنهجي الحديث على كشف عيوب المؤلفات القديمة، ولكن الهدف منه التنبيه إلى أثر الأخطاء والمنزلقات التوثيقية في نشوء الأحكام والاستقراءات الخاطئة والمضللة. والذي دفعنا إلى ذلك وقوفنا على ما نعتبره أخطاء في صياغة المقترحات والأحكام، وقع فيها باحثون استندوا إلى المتن الأدبي التقليدي الذي دونه « أ.رينيزيو » في مؤلفه موضوع المداخلة.
من أمثلة هذه الأحكام نورد الرأي الذي صاغه الباحث عبد الله بونفور بخصوص البنية العروضية الخاصة بالشعر الريفي التقليدي، وذلك من خلال تفكيكه للشاهد الشعري الذي دونه المستمزغ « أ.رينيزيو » على هذا النحو:
a tarbat iåobàen isiÄ eddnub ennes
amen tisi telÄemt eràil ellel ennes
وتعريبه على هذا النحو:
الغيداء الجميلة، ** تحملت وزر آثامها.
كما تتحمل الناقة ** (ثقل) أمتعة أهلها !
إذ خلص الباحث بعد إعماله لقواعد القياس العروضيRègles de mesure métriqueإلى خضوع هذا النمط الشعري لتماثل عددي خاص قوامه وجود أحد عشر مقطعا في كل بيت وهو ما يظهر من خلال معطيات الجدول أسفله:
مق 11 | مق 10 | مق 9 | مق 8 | مق 7 | مق 6 | مق 5 | مق 4 | مق 3 | مق 2 | مق**1 | |
nns | nub | Äd | si | ni | bà | åu | Ãi | ba | Ãar | a | ب 1 |
nns | lal | ll | ài | tr | Äm | Ãl | si | Ãi | mn | a | ب 2 |
وهذا رأي غير دقيق بدليل شذوذه عن قاعدة إجماع الباحثين الذين قاربوا عروض النظم الريفي، والذين وقفوا على بنائه الإثني عشري (يتكون الايزلي الريفي من بيتين شعريين يضمان إثني عشر مقطعا).
أما سبب وقوع الباحث في هذا الخطأ العروضي فيرجع إلى منزلقات التوثيق التي سقط فيها مدون النص الشعري، ذلك أن الصواب أن يقطع الإيزلي على هذا النحو:
a Ãar ba Ãi sub àen i siÄ edd nu ben nes
a men Ãi åi Ãel Äemt err àil nel la len nes
وذلك كي تتبين بنيته العروضية، وتتضح بجلاء أشطره الأربعة ومقاطعه الأربعة والعشرون (إثنا عشر مقطعا في كل بيت). والحق أن الطريق إلى هذا التقطيع معتاص بسبب أخطاء الإملائية الواردة في النص-الشاهد من جهة، وعدم ملاحظة إمكانية تشطير الإيزلي إلى أربعة مقاطع عروضية-تركيبية. وهذه سمة فنية لم ينتبه إليها المدون لما أسلفناه من الاعتبارات، ولم يفعل الباحث أيضا بسبب عدم تمكنه من أمازيغية الريف.
في نفس السياق أيضا، أي في سياق الأخطاء التي وقع فيها الباحثون الذين اتخذوا مؤلف « أ.رينيزيو » مادة مصدرية نورد أيضا خطأ وقع فيه الباحث الجغرافي الفرنسي « جيرار مورير Gérard Maurer« ، والذي اقتبس من المؤلف المذكور إشارة تاريخية وردت في حكاية عجيبة (نص وظيفي)، وصاغ من خلالها رأيا تاريخيا يخص قبيلة « أيث بونصار »، إحدى القبائل المشكلة لاتحادية صنهاجة السراير، وفحوى هذا الرأي أن هذا الفرع القبلي هو أقدم فروع الاتحادية الصنهاجية، وأن تاريخ تشكله، حسب الباحث، يعود إلى حدود العصر الموحدي. وقد توصل الباحث إلى ذلك بتركيب شهادتين تخصان شخصية تاريخية هي » مفتاح بن اعمار »، إذ ورد اسم الرجل في مدونة « أ.رينيزيو » باعتباره قائدا على صنهاجة بني بونصار، مثلما ورد في مؤلف تاريخي آخر أن الرجل عاش خلال العصر الموحدي، وهو ما حدا بالرجل إلى صياغة رأيه المشار إليه أعلاه. ولعل منشأ الخطأ الذي لم يتفطن له الباحثان معا هو اطمئنانهما إلى صحة رواية شفوية وحيدة يبدو من خلال تأمل مضمونها أن رواتها ومعتنقيها لا يتورعون في نسبة بطولات الرجل الصنهاجي المذكور إلى مجال قبيلتهم الحديث التشكل. وهم في ذلك لا يختلفون عن غيرهم من رواة الخوارق والكرامات وحكايات البطولات الذين يطلبون بذلك التفاخر والتباهي بين القبائل.
VI . مقترحات لتجويد فعل التوثيق ومأسسته:
إن ما أوردناه من أمثلة لمنزلقات التوثيق وأثرها على دقة الأحكام لا يعدو أن يكون عينة تمثيلية أردنا من خلالها بيان جدية السؤال وأهميته واستعجالية استدعائه إلى حلبة الدرس والنقاش العلميين. لقد تم التعامل مع المأثور الشعبي بالمغرب بكثير من الاستخفاف منذ الاستقلال إلى حدود سبعينيات القرن الماضي، وعندما انطلقت مسيرة الاشتغال في مواضيع التراث بداية العقد الثمانيني كان الرهان الغالب في أذهان الباحثين والمهتمين هو إخضاعه لآليات الاشتغال المنهجي لبيان الثراء المعرفي الذي يختزنه، وللرد على خصومه الذين ما فتئوا يزدرون الإبداعات الشعبية، ويتندرون على كل داع إلى احتضانها ورعايتها. أما موضوع التوثيق العلمي لأشكال التعبير التراثي فلم ينطلق إلا خلال العشرية الأخيرة، والفضل في ذلك يرجع أساسا إلى عدد من مشاريع البحث العلمي الأكاديمي التي احتضنتها جامعات ومؤسسات مغربية معدودة.
والذي يعنينا هنا بعد ما تقدم من الإشارات ليس التأكيد على وجوب إيلاء الموروث الشفوي ما يستحقه من الرعاية، لأنه أمر بديهي ما عاد اليوم في حاجة إلى من يبسط حجيته. إن الذي يعنينا تحديدا من خلال هذا المقال هو بيان الأثر الكبير للفعل التوثيقي في صياغة الأحكام العلمية الدقيقة، وتحصيل النتائج الرصينة.
Aucun commentaire