لا نستغرب من عدو خبيث داخل جسم الأمة العربية كخبث الأورام السرطانية داخل جسم الإنسان أن يتجاوز حدود ما لا يخطر على بال من وبال ؛ والمستغرب حقا هو تنامي تربة التطبيع مع هذا المحتل المستنبت بطريقة غير مسبوقة عبر التاريخ البشري في الوطن العربي والإسلامي. لقد كان الاحتلال دون سلاح التطبيع احتلالا مهددا رغم ترسانته الحربية التي تجاوز حجمها كل التقديرات. ولما استيقن المحتل ومن استنبته أن هذه الترسانة لا يمكنها أن تضمن وجوده واستمراره في مناخ غريب عنه نظرا لطبيعة الاستنبات الفاشلة عمد إلى سلاح خطير وهو سلاح التطبيع. وهذا السلاح يقوم أساسا على تفيء الأمة إلى فئتين تصنف الأولى في خانة العداوة ؛ بينما تصنف الثانية في خانة الشراكة إلى حين. فمنذ تنبه العدو الصهيوني؛ ومن يضمن وجوده عسكريا وسياسيا واقتصاديا إلى قضية التطبيع تخلص من عقدة الزوال المحقق التي كانت تلاحقه عبر مرحلة تاريخية طويلة حتى أنه فقد الثقة في ترسانته التي وجدت خصيصا للتلويح بالتهديد لغرض التطبيع. لقد كان العدو الصهيوني مهددا في وجوده داخل البيئة العربية اللافظة له بحيث تهاوت أسطورة ترسانته أمام مجرد حجارة أطفال لولا حبل النجاة الذي وفره له سلاح التطبيع.

إن اللعنة العربية الأبدية تختزلها كلمة تطبيع التي فتت الصف العربي سواء داخل البيت العربي الكبير؛ أم داخل البيت العربي الصغير. لقد فتك سلاح التطبيع بالقيادات والشعوب على حد سواء؛ وأحدث شرخا بين القمم والقواعد. والتطبيع يقوم أساسا على التهديد والمساومة حيث تهدد القيادات وتساوم من طرف الراعي الأمريكي للكيان الصهيوني لعزلها عن شعوبها؛ وأكثر من ذلك لاستخدامها لتفتيت الشعوب إلى فئتين؛ فئة تطبيع توظف لاستئصال فئة المقاطعة.
لقد حز في النفس أن يتحدث المتحدث باسم الكيان الغاصب فيصف قطاع غزة بالكيان العدو؛ بينما يصف الضفة الغربية بالكيان الشريك في عملية السلام؛ وهو تقسيم سببه سلاح التطبيع الفتاك. فبينما نجد وصف البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا من قيمنا الدينية ؛ يصدمنا الواقع ببنيان متصدع يتبرأ بعضه من بعض ؛ وتنهار أجزاؤه تباعا.

لم يكن بإمكان العدو الصهيوني الوصول إلى حدود إغلاق منافذ القطاع إغلاق خنق لولا وجود الطرف الشريك الذي يشاطره الجلوس على طاولة مفاوضات بيزنطية بلا طائل ؛ ولم يكن الطرف الشريك ليوجد لولا ما أحدثه سلاح التطبيع مع القوة العربية الضاربة التي كانت الورقة الرابحة في حال مفاوضات حقيقية ؛ أو مواجهة حقيقية ؛ ما دام التفاوض يعتمد أساسا القوة كورقة ضغط متحكمة في نتائج المفاوضات أو المصادمات.

لقد انهارت القوة العربية الضاربة أمام سلاح التطبيں وكرست الانهيار في كل الآفاق العربية حيث صار الوضع الفلسطيني المصغر صورة للوضع العربي الكبير ؛ حيث انشطر الكيان الواحد ذو اللحمة الواحدة إلى كيانين على طرفي نقيض؛ ينفرد العدو بتدمير طرف لتسهيل تدمير الطرف الآخر بعد حين. ففي الوقت الذي يتألم الجميع لحصار التركيع المسلط على القطاع حيث الطرف المقاطع ؛ يغفل البعض عن نوع آخر من التركيع المسلط على الطرف المشارك في الضفة ؛ وهو تركيع واحد بوجهين مختلفين . فما هي نقطة القوة لدى الطرف المفاوض وآلة الحرب الصهيونية تدك ما تسميه الطرف العدو؟ وما هي نقطة القوة لدى الطرف الرافض المقا؟ وجناحه الثاني المفاوض قد قيده سلاح التطبيع قيدا لا فكاك منه ؟

ولعل فك الحصار يبدأ من فكرة تدمير سلاح التطبيع على مستوى الوطن الكبير؛ قبل الوطن الصغير ؛ وهذا التدمير يبدأ من خطوة خلق ثقة القيادات بشعوبها ؛ وإيمانها بأن الراعي الأمريكي للعدو الصهيوني لن يستطيع الوصول إليها وهي بين أحضان هذه الشعوب إذا ما ردت عليه تطبيعه. لقد استطاع سلاح التطبيع أن ينزع ثقة الشعوب من قياداتها وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يطوف في المنطقة العربية ليعانق بعض قياداتها ويشاركها رقصة السيوف ذات الدلالة المعلومة في الثقافة العربية. لقد نجح الرئيس الأمريكي في تغيير دلالة هذه الرقصة العربية حيث ازداد فقدان ثقة الشعوب العربية المحبطة لعقود من السنين في قياداتها ؛ وتوسعت قاعدة الصمت العربي بين الشعوب العربية بشكل يدعو للدهشة حتى أنه يخيل للملاحظ أن الشعوب العربية بدأت تنهج نهج قياداتها وقد أصابها سلاح التطبيع بدمار شامل .

ولقد صدق من قال إن تحرير فلسطين يبدأ من مكان بعيد؛ كما تم احتلالها من مكان بعيد. فعندما يعطل سلاح التطبيع في أبعد نقطة عربية ولإسلامية ستبدأ حتما عملية تحرير كل فلسطين؛ والسرطان الصهيوني لا يستأصل إلا باستئصال التطبيع.