مع وقف التنفيد ( الجزء الأول )
طيلة فترة احتكاكي بالتجارة و أناسها، تعلمت منذ عهدي الأول بها حتى الآن أشياء كثيرة جدا و فقدت بالمقابل بسببها عدة أشياء . ربما استطعت بفضل التجارة من إضافة مبادئ أخرى إلى رصيد شخصيتي و اقتحام شطارة التجار و مكرهم، لكن انتبهت فجأة إلى أني كبرت قبل الأوان و بسرعة على حساب طفولتي . لذلك أنا أفهم جيدا لماذا يحتقر أبناء بعض التجار مهنة التجارة وكل ما له علاقة بها، و أنا منهم .
فمعنى أن تكون ابن تاجر أو حتى ابن بقال، فهذا يعني أنك مجبر على حل واجباتك المدرسية بمتجر والدك تحت صراخ و قهقهات الزبائن، لذلك أنا أفهم أيضا لماذا العديد من أبناء التجار تكون مسيرتهم التعليمية متعثرة إلا من رحم ربي، هذا طبعا إن كانوا محظوظين و لم يدفعوا ثمن أنانية ولاة أمورهم عندما يحرموا أبنائهم من حق التعليم لغرض مساعدتهم في تجارتهم .
إن كان قدرك أن تتربى في كنف التجارة و ابتلاك الله بأب تاجر أو بقال، فعليك أن تعتاد الالتحاق بوالدك في متجره مباشرة بعد عودتك من المدرسة بدعوى أن تحتك بالزبناء و بالناس كي تصير رجلا، وكأن الرجولة تتمثل في حرمانك من اللعب مع أقرانك أو على الأقل أن تراجع دروسك في ظروف طبيعية عوض أن تجلس القرفصاء في إحدى أركان متجر والدك و تقوم بتشييد مكتب خاص بك بين صناديق السلع كي تراجع دروسك تحت رحمة مساومات الزبائن و ملاسناتهم مع مساعد والدك التاجر .
يستحيل حقا وأنت من صلب أب تاجر، أن تنعم بحق مراجعة دروسك في ظروف جيدة و أنت في عين ضوضاء المتجر و حركة الزبائن الذين يقطعون عليك تركيزك وأنت ملم بمراجعة دروسك عندما يسألونك عن قيمة سلعة ما، لترد عليهم بنبرة حادة بأنك مجرد ( وارث سر ) والدك وأن لا علم لك بثمن و بقيمة الأشياء حولك . هذا فقط لكي تتقي صداع الرأس معهم و لكي ترجع إلى دروسك و تحفظ في سلام . لكن تكون في ردة فعلك تلك قد جنيت على نفسك عندما ترى النجوم في عز النهار حينما ينزل والدك بيده على قفاك بذريعة أنك رفعت صوتك على أحد زبائنه الأوفياء .
عندما كان والدي يسألني و أنا بعد صغير السن عن الوظيفة أو المهنة التي أحلم بمزاولتها مستقبلا، كنت أجيبه بأني أود الالتحاق بالبحرية كي أصير قبطانا ولكي ينادي علي البحارة بـ : ( الرايس بلقاسم ) ! الواقع أن والدي كان يتوقع مني أن أصارحه بأني أحلم بأن أصير تاجرا ناجحا مثله و أن أحمل مشعل التجارة بعده، لكني كنت ماكرا و تعمدت أن أخيب ظنه – سامحني الله – فقط لأني لا أحب التجارة . كيف لا و قد حرمتني كطفل من مشاهدة الرسوم المتحركة و من اللعب مع أقراني و حتى من حقي في مراجعة دروسي في ظروف عادية كباقي الأطفال في مثل سني . لذلك كنت أختبئ وراء منصب القبطان تهربا من أي شيء له صلة بالبيع و الشراء . بالرغم من كون والدي حاول مرارا إقناعي بأن جميع المهن تقوم على أساس مبدأ البيع و الشراء، إلا أن عنادي كان يدفعني إلى الرد عليه بأني مستعد لكي أجرب كقبطان، البيع و الشراء مع الأخطبوط و الأسماك و الحيتان في البحر إن اقتضى الحال !
بالرغم من كوني كنت أُكن للتجارة ما يُكنه الفأر للقء إلا أن الشيء الوحيد الذي أعشقه في التجارة، هو مجالسة مساعد والدي . كنت ألتصق به كالعلكة العنيدة و أتوسله لكي يحكي لي إحدى طرائفه أو يضحكني بنكتة من العيار الثقيل و التي تدخل عادة في حكم : ( باستشارة الوالدين ) ! كان والدي يوبخني في كل مرة يراني فيها مع مساعده، ربما لأنه يخشى أن ينحرف سلوكي أو لساني و أنا برفقته . و لا زلت أذكر يوم زل لسانس و خانني قاموسي اللغوي و تفوهت بعبارة من قبيل العبارات التي يطلقها أحد اللاعبين حين يضيع ضربة الجزاء، لتشفع لي تلك العبارة بأن أقضي بعض السويعات بالعلية جنبا إلى جنب مع مساحيق التصبين التي تسبب لي الحساسية في الأنف .
حتى في أيام العطل الدراسية كنت كلما أغضبت والدتي وأشق عصا الطاعة بالبيت، ترسلني إلى المنفى، أي إلى متجر والدي . وهناك لا عزاء لي سوى مساعد والدي بالرغم من كونه لا يحبني كثيرا لأني أوشي به دائما و أفضحه أمام والدي عندما يختلس قطع الحلوى كي يهديها إلى صديقته . كان مساعد والدي يقول بأني ناكر للجميل كلما ضبطه متلبسا يحشو جيوبه بالحلوى أو ما شابه، فبالرغم من كونه يهددني بأنه سيقطع لساني إن كشفت أمره لوالدي، إلا أنه كان طيبا و يقتسم معي الغنائم ! الكارثة أني لا أجيد طمر معالم الجريمة عكس مساعد والدي الذي له سوابق في ذلك، فما إن تظهر بحوزتي القرائن و الدلائل، حتى أجد نفسي مضطرا لتقديم تفسير مقنع لوالدي وإلا سأقضي ما تبقى من سحابة يومي بالعلية . أما الرأس المدبر فيكون نكاله عبارة عن صفعة أو اثنتان تفقده توازنه و ينتهي الأمر، هذا إن لم يكن مصيره ( برَّا البطيخة ) كما يقول المصريون .
وكم من مساعد قطعت رزقه بسبب قلة حنكتي في إخفاء معالم الجريمة، لذلك كان أغلبيتهم عندما يشمون رائحة دنو و اقتراب أجل خدمتهم مع والدي، يقومون بتصفية حساباتهم معي بطريقتهم الخاصة، كأن يسقطوا على رأسي شيئا ثقيلا من أعلى السلم أو يطفئوا علي النور و أنا في العلية قصد إخافتي …
قليلون هم التجار الذين يعون مسألة تعليم و تكوين أبنائهم خارج إطار مفهوم الإعالة المعنوية عبر تمهيد المهام و المسؤوليات تدريجيا قصد تجنيد أبنائهم للمستقبل، دون أي اعتبار للحساسيات التي قد تنجم وراء هذا الحيف الممارس على فلذات أكبادهم وعلى حساب احتياجاتهم . و عندما أتحدث هنا عن التجارة، فالعبرة بعموم لفظها لا بسبب بخصوص سببها . فما أكثر الآباء الذين بسبب سوء تدبيرهم و بسبب أنانيتهم يرغمون أبنائهم على الالتحاق بهم سواء في الأوراش أو في المتاجر و غيرها ولا يراعون في ذلك لا حاضرهم الذي يجب تأمينه لهم عبر ضمان احتياجات طفولتهم، ولا حتى مستقبلهم فيما كان أطفالهم راضين حقا عن خدمة الزبناء في متاجر ذويهم وهم في ذاك السن، أو تعريض صحتهم و حياتهم إلى الأخطار التي قد تنجم بسبب حوادث الشغل في أوراش العمل، أم هم مجرد ضحايا دفعوا ضريبة أنانية و تسلط ذويهم .
لا أظن بأن هناك طفل في العالم غصبت طفولته و سعادته و حرم من حق التعليم على حساب أب جشع مستبد لم يقدر على تجنب طفله خطأ تشغيله عوض تشغيل يد كفئة، على أنه سيفكر ذات يوم في إدارة مقاولة والده عن طيب خاطر . سيضل يكره صوت تلك المفاتيح التي يصدرها والده عندما يلج المنزل كل مساء . تلك المفاتيح التي سيجدها يوما في راحة يده و والده يلفظ الشهادتان . سيكبر ذاك الطفل يوما محكوما عليه بالعقوق لأنه لم يمتثل يوما لأنانية والده . فبين أخطاء الآباء و أنانيتهم و بين عناد الأبناء و تشبتهم بمبدأ إثبات ذواتهم، هناك حلقة مفقودة أو بالأحرى يريد أحد الطرفين أن يجعلها كذلك . إنه صراع الأجيال … يتبع
Aucun commentaire