– القضية الأمازيغية في الخطاب السياسي المغربي – في نقد ثقافة الاعتراف على قاعدة « التأخر التاريخي Le Décalage Historique » »
– القضية الأمازيغية في الخطاب السياسي المغربي –
في نقد ثقافة الاعتراف على قاعدة « التأخر التاريخي Le Décalage Historique » »
بقلم: بلقاسم الجطاري
يبدو مفيدا التذكير بحاجة الإنسان، باعتباره ذات مفكرة، إلى منهل الحكم والشواهد والأقوال المأثورة، لأنها تختزن تجارب الجماعات ومحصلة خبرتها في معركة الحياة. مثلما يبدو مفيدا أيضا التأكيد على لزوم استدعاء أحداث الماضي في سياق بناء المواقف الآنية والمستقبلية. ولعله من نافل القول أن إحدى علامات الذكاء الجماعي تجنب عثرات الأمس، واللبيب من قال أن الغباء هو فعل الشيء نفسه مرتين، بالأسلوب نفسه، والخطوات نفسها، ثم انتظار نتائج مختلفة (أ.اينشتاين).
هذا القول البليغ نورده لحاجة في نفسنا هي بيان ضرورة تدبر الماضي، والانكباب على تفكيك مستغلقاته، في أفق تشكيل تصورات للواقع والمستقبل. وإذا كان لزاما بسط تفاصيل الصورة بشكل أشد وضوحا نورد مثالا عميقا على صحة هذه الدعوى، وهذا المثال نأخذه من الكتاب العميق الذي كتبه نوام تشومسكي، الموسوم ب »11/9″. لأنه يعود بنا، لمكر الأرقام، إلى الجذور الأولى لأحداث شتنبر 2001، وتحديدا إلى حادثة اغتيال رئيس الشيلي « سالفادور أليندي » (11/09/1973) وتدمير آخر معقل للديموقراطية في أمريكا اللاتينية، أما آخر القصة فمعروفة لا حاجة لاجترارها.
دعنا من هذا الفرش النظري العام، ولندلف إلى صلب المقال، أي إلى موضوع حضور القضية الأمازيغية في الخطاب السياسي المغربي. من زاوية سعينا إلى نقد أحد التصورات الممأسسة القائمة على أساس التوظيف السياسوي للقضية، وتجسير الإعلام لتحقيق غايات آنية أو مرحلية، وذلك على أسس ديماغوجية تدغدع مشاعر الجماهير بصرف النظر عن الاختلاف الكائن بين مستويات تلقي الخطاب لدى الأفراد. وهذا تصور تتبناه تنظيمات مختلفة (أحزاب، تيارات، فصائل، جمعيات..)، وتقوم بتصريف مقولاته وأسسه ومنطلقاته عبر قنواتها الخاصة.
يفيدنا أيضا أن نثير النقيض، طالما أن النقيض بالنقيض يعرف. يفيدنا كثيرا أن نستحضر، بكثير من التقدير، تجارب أفراد وحساسيات، وعدد من الجمعيات الثقافية والحقوقية التي بلورت تصورها لموضوع الحقوق الثقافية واللغوية بالمغرب، همسا وجهرا، وطالبت بإحقاق الحق، وإعطاء اللغة والثقافة الأمازيغية مكانتهما المستحقة. دونما استدعاء لمنطق موازين القوى، ولا لأصول « التقية »، ولا لأي شكل من أشكال التعامل التدبيري الذي يميل حيثما مالت كفة السلطة. ويحضرني في هذا السياق اسم صحفي (وفاعل سياسي) مغربي ألمعي، هو المرحوم « محمد باهي »؛ لأنه لم يتردد في تلبس فضيلة « الاعتراف بالخطإ »، وذلك على هامش تغطيته للاجتماع التأسيسي للكونغرس العالمي الأمازيغي الذي انعقد بفرنسا شهر شتنبر من عام 1995، إذ أقر بشجاعة « المثقف الحر » أن ظنه بنوايا المؤتمرين، ومصادر دعمهم وتمويلهم كان خاطئا، وأن قضيتهم عادلة لا تشوبها شائبة، وطالب بموجب موقفه الجديد بضرورة توفير الدعم المؤسساتي للغة الأمازيغية، لكي تتبوأ مكانتها إلى جانب نظيرتها العربية. وحتى تتبين دلالة هذا الاعتراف، نقول إن أطيافا سياسية واجتماعية كثيرة كانت ما تزال تجتر آنذاك أسطوانة « تهديد اللحمة الوطنية » و »الاستقواء بالأجنبي »، بل ولا تتردد من تخوين المنافحين عن ثقافتهم الوطنية الأصيلة. وهي نفس الأطياف التي لا تتردد اليوم في وضع العصا في عجلة التنزيل الديموقراطي لدستور 2011 في شقيه اللغوي والثقافي، وكبح كل الأصوات الداعية إلى صياغة القوانين التنظيمية الخاصة. وحتى لا يظن أننا نكيل تهمة الجمود إلى مثل هذه الأطياف، نقول إن كثيرا منها قد عمد إلى حلحلة تصوره الإقصائي، ومراجعة بنود مقولة « الدولة الأمَّة » التي كان يتصورها ويتفاعل بموجبها بوعي أو بدونه. وصار لافتا تحولها إلى تمجيد الخصوصيات، والدعوة إلى رعايتها. لكن الملفت في قصة هذه الأطياف أن ديدنها الوصول المتأخر إلى الركب، وحرصها على تعكير صفو المنجز من الحقوق. والدليل أنها لا تستفيد من عثراتها، ولا تبادر مطلقا إلى قراءة التاريخ قراءة نقدية موضوعية، ولا تسعى إلى تجاوز أخطائها في تقييم ملابسات المشهد الثقافي واللغوي بالبلد. لذلك تجدها اليوم في صف المنادين بلزوم الاهتمام بالثقافة الأمازيغية، والمثمنين لما جاء به التعديل الدستوري الأخير بخصوص اللغة الأمازيغية. بل وإعلان مزايدات سياسوية بين الحين والحين عشما في إقناع المغاربة بحضور الهم الثقافي واللغوي في انشغالاتها وبرامجها ومطالبها السياسية (المطالبة بجعل رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا، الحديث بالأمازيغية بالبرلمان، اقتراح قانون تنظيمي كخطوة تكتيكية، تأسيس جمعيات ثقافية (أمازيغية) على المقاس ….)، وهي التي كانت لا تتورع إلى حدود إصدار لجنة المنوني للوثيقة الدستورية في تخويف المغاربة من التبعات السلبية المحتملة لدسترة هذه اللغة. ولذلك أيضا، تجدها اليوم حريصة على إثارة سجالات ثقافية بعيدة عن بؤرة « المطلوب »، والدخول في لجاج لا يضيف إلى المشهد اللغوي والثقافي شيئا، بل يساهم في خلق اصطفافات غير ذات جدوى، تعيق سرعة الانتقال الديموقراطي في شقه الحقوقي-الثقافي.
إن المتأمل لما يكتبه كثير من المنتمين إلى هذه التنظيمات، أو المتعاطفين معها في صفحات الجرائد الوطنية، يلاحظ بجلاء نزوعا مريبا نحو « شخصنة » القضية الأمازيغية من خلال ربطها بأشخاص بعينهم، وتركيز النظر على « الحدث » (الذي تتم فبركته أو تضخيمه إعلاميا)، ثم تصيد منزلقات قلة من المغالين في الدفاع عن القضية. مثلما يلاحظ في الآن نفسه سكوتا مريبا عن كل أشكال التهميش التي تتعرض له اللغة والثقافة الأمازيغية في مجمل المؤسسات، وهي أشكال إقصاء وازدراء عديدة لو تم تخصيص ملفات صحفية يومية لتغطيتها وتحليلها لما وفتها حقها، ولما نقلت تفاصيلها البائنة والخفية. ليس هذا فحسب، بل ويلاحظ جليا أيضا تهميش هؤلاء لأطياف الصوت العقلاني الغالب داخل الحركة الأمازيغية، ونعني تلكم الأصوات التي تطالب بالنهوض بالثقافة الأمازيغية في سياق تصور تاريخاني يدافع عن التنوع على قاعدة الاعتراف والتقدير المتبادلين. أ فليس في هذا السلوك المطرد ما يدعو إلى التدبر؟
بلى، إنه علامة من علامات التأخر التاريخي le Décalage Historique، وأمارة من أمارات التصرف بمنطق « الصدى »، وشاهد على تغييب صوت العقل، ودليل على عدم نقاء السريرة. إن ما نسمعه اليوم من اعترافات من قبل من كانوا بالأمس القريب معارضين لأدنى اعتراف بالحقوق الثقافية الأمازيغية لا يعدو أن يكون محاولة لمجاراة خط السيل، وسعي لنفي تهمة العيش خارج التاريخ ليس إلا. أما أن يكون غير ذلك فالطريق إليه معروف، والسبيل إلى تأكيده يقوم على ثقافة المبادرة والفعل، وليس التربص بالآخر وتحين عثرات غُلاته. إن الدفاع عن الأمازيغية بمنطق الكلام الإنشائي، واستدعاء لغة الخشب، لا يقدم للأمازيغية شيئا، ولا يضيف لأصحابه ومعتنقيه نقاطا في مدرج القيم. ولا يحقق لهم (بالمنطق البراغماتي) لا غاية ولا مقصدية. بل إنه غالبا ما يتسبب في استعداء الكثير ممن يقفون على خط الحياد. وإذا شئنا تفسير وجود خطاب أمازيغي « متشدد »، فالأحرى بنا العودة إلى أدبيات الحركات والتنظيمات السياسية والجمعوية المغربية منذ فترة الاستعمار إلى اليوم. ففيها الجواب الذي يشفي الغليل. ومنها نستشف أن العنف يستجلب بالضرورة عنفا مضادا. وأن التهميش الرمزي والمادي الذي تعرضت له الأمازيغية لعقود تحت ذريعة ايديولوجيات مستوردة. هو سبب نشوء الخطاب المتشدد المذكور. لكن الذي ينبغي إثارته والتأكيد عليه هنا أن هذا خطاب التشدد (بمختلف تجلياته) لا يذيع بين الناس؛ ولا يستقطب من الجماهير إلا نفرا تجرهم حماسة الشباب، وتدفعهم الرغبة في التميز وإثبات الذات. فلماذا الحرص إذاً، على استدعاء الاستثناء للقياس عليه؟ ولماذا يتغاضى المتحدثون باسم هذه التنظيمات عن الخطاب العقلاني السائد (بالقوة والفعل)، ولماذا لا يتم غض الطرف عن منزلقات هذه القلة من الشباب، طالما أن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم، ولا يبوحون إلا بِلَغْو الانفعال الذي تعوزه الحكمة، وتنقصه الدراية بتشعبات الظواهر والقضايا. إن معاملة بالمثل تقضي أن تنبري أطياف الحركة الأمازيغية إلى اختزال موقف التنظيمات والحركات السياسية المغربية كلها (اليسارية والإسلامية الخ..) في موقف غلاتها وإقصائييها، وهؤلاء الغلاة كثر لا يملون من اجترار مقولات بالية متهافتة من قبيل التخوين وزرع الفتنة والشوفينية والعمالة للأجنبي.
إن الحاصل هو عكس ذلك تماما، وخطاب النضال الأمازيغي الرصين والمهيمن يشهد على ذلك، إنه يَزرُ التنظيم السياسي وزْرَ أدبياته وتصريحات غالبية المنتسبين إليه. وهذا المقال الذي ارتأينا المساهمة به في الموضوع، موجه أساسا إلى الصوت الإصلاحي داخل النظيمة السياسية المغربية، وهو مقال حاورنا وتحاورنا به مع أدبيات هذه الأطياف. وأثرنا عبره بطء بديهتها، واستثقالها الهم اللغوي والثقافي الأمازيغي، مع أن قليلا من التبصر والحكمة يقولان أن واقع النهوض بتجليات الثقافة والهوية الوطنية لا ولن يعرف القهقرى، وأن اللحمة الوطنية تزداد تماسكا وتآلفا بموجب الإيمان بوحدة التاريخ والجغرافيا والمصير والشخصية الثقافية الوطنية الغنية. إن قطار التصالح مع ذاتنا الغنية يسير سيرا حثيثا إلى الأمام، ولهؤلاء أقول إنكم لا تأخرون موعد رحلة النضال القائمة والمقبلة، مطلقا ! إنكم تلتحقون بآخر مقصورات القطار، وتسعون، بإصرار، إلى عرقلة المسير، ليس إلا.
Aucun commentaire