Home»Régional»الفيديو كليب أو ديمقراطية الغواية

الفيديو كليب أو ديمقراطية الغواية

0
Shares
PinterestGoogle+

في إمارات افتراضية ( رقمية) منفلتة من إكراهات الجغرافيا ، ومتحصنة في استوديوهات فضائية لا وطن لها، يعقد سوق عكاظ دائم للغناء والرقص واستعراض الاستدارات الحميمة للجسد المجود، و ذلك بوفرة لم يشهدها العالم من قبل لا تضاهيها إلا وفرة البضائع في الأروقة التجارية، والمعارض،وعلى صفحات الويب، وفي الأرصفة … وفرة تتخذ جميع الأشكال الممكنة: وفرة في الفضائيات ووفرة في نجوم الغناء والرقص، ووفرة في الأغاني المصورة ، وداخلها وفرة في الأجساد وفي عدد السيارات الفارهة..إنها وفرة مضاعفة إذ تعد ملايين الكيلومترات من الشرائط الرقمية لتغطي البث المسترسل الذي يملأ الزمن الحقيقي:24 ساعة يوميا من " الغناء" و"الرقص" و" أشياء أخرى"… أعداد لا تحصى من الصبايا يتثنين بقاماتهن الرشيقة والمجودة كأحسن ما يكون التجويد وملابس شفافة تترك كامل الحرية للجسد لكي يغني ويتكلم .الجسد الذي تدخلت في نحته وتصفيته من الشوائب صناعة الجسد باعتبارها رديفة صناعة التسلية وإحدى ضروراتها.

تعطل القيم الكبرى:

لخلق فرجة مستديمة تؤبد التسلية وتجعل كل أيام الأسبوع آحادا، و تمنح الديمومة للوقت الثالث جاعلة منه الوقت الأول.. في مجتمع انتقل بفضل الطفرة البترولية من البداوة و شظف العيش، و التقشف، و الندرة، إلى مجتمع الرخاء و الوفرة واليسر و كل ما يتولد عنها من كسل ونزوع إلى الاستهلاك غير المعقلن.. في عصر تولد فيه عن تعطل القيم الكبرى الاحتفاء بقيمة العطلة( على رأي إدغار موران)،تمضي صناعة الفرجة ( الفيديو كليب، الأخ الأكبر أو التلفزة –الواقع، كرة القدم ، السينما، الأزياء…) مدججة بكل عتادها التقني و الرقمي واستراتيجياتها التجارية والصناعية والدعائية، في اكتساح الفراغات المتبقية في حياة جمهور يحس بتعاظم الفراغ حوله ،مستخدمة في ذلك مبدأين ناجعين:السهولة و السرعة..
تتقاضى عارضة أزياء مثل ناعومي كامبل عن خطوات معدودات من المشي في عرض أزياء أضعاف ما يتقاضاه أشهر جراح للأعصاب لقاء عملية دقيقــــة و مضنية… و الشيء نفسه يقال عن نجوم الغناء والرقص ،لاعبي التنس،نجوم كرة القدم،أبطال سباق السيارات..إلخ…هذه الإمبريالية الفرجوية الآخذة في التعاظم و التي يلهب ظهرها سوط العولمة الكاسحة التي تمكن الثقافة ونمط الحياة السائدين في كاليفورنيا من إحكام القبضة على العالم و لتي تنمي باستمرار حاجات غير ضرورية جاعلة منها مركز اهتمام الأفراد،في سعي حثيث و لا مرد له نحو إشباع خصاص شيمته النهم.
إن حجم فائض القيمة الذي ينمي الرأسمال ويراكمه أخذت أبعادا لم تكن في الحسبان ، كما أنه، في صناعة الفرجة التي تبوئ التسلية ودغدغة العواطف( والغرائز؟) المكانة الأهم بالنسبة للإنسان في مجتمع العولمة.. لا يمكن الحديث عن عمل بالمعنى المعروف و لا عن استغلال رب العمل لعرق العامل لأنه ليس ثمة عرق… إن حديث بعض نجوم الفرجة عن الاستغلال الذي يتعرضون له من قبل صناع الفرجة ومحتكريها من أصحاب الامبراطوريات الفرجوية التي لا تغيب عنها الشمس ( يقر بعض أغلى وأغنى النجوم أنهم لا يأخذون سوى الفتات مقارنة بما يجنيه الكبار من وراء ظهورهم ) لا علاقة له بالاستغلال الذي يتعرض له العمال خاصة في الدول النامية من عدم تكافؤ ما بين نوع العمل وما يدره من أرباح على رب المعمل .إن نجوم الفرجة يتلقون مقابل "جهدهم"( المشي بضع خطوات في ديفيليه الأزياء، أوالتريض،أوالغناء في حفل جماهيري مثلا) ما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتلاءم مع قيمة العمل الذي أدوه .إن هذا الثمن الخيالي لـ" عمل" ليس كالأعمال تتحكم فيه نزعة الجمهور المتنامية إلى التلصص، سواء أكان على لاعب يريض جسمه( على حد تعبير أمبرطو إيكو)،أوعلى جسد أنثوي يعرض فستانا ذا قيمة جد ثانوية أمام الجسد الذي يعرضه،أو مغنية تجيد استخدام الجسد في فيديو كليب يكون فيه كل من الصوت والشعر و الموسيقى كلها أمورا ثانوية…
كانت الأغنية القديمة تستغرق وقتا طويلا في إعدادها و تسجيلها:كانت تشبه بحق الحوليات التي كان الشاعر الجاهلي يصرف سنة كاملة في تجويدها و تشذيبها،ثم كانت بعد ذلك تدخل في ديمومة الاستعمال حيث مازالت أغاني أم كلثوم و عبد الوهاب تسمع إلى اليوم سواء من أفواه أصحابها أو من مغنين شباب أعادوا إنتاجها،خلاف الأغنية الجديدة التي صارت تشبه البضاعة ذات الاستعمال الوحيد أو العابرjetable .لقد ناوءت الرأسمالية الحديثة البضاعة القابلة للاستعمال المتجدد فازدهرت من العقود الأخيرة من القرن الماضي صناعة المنتوجات العابرة الاستعمال و التي تلقى فورا بعد استعمالها.إن هاجس التجدد و هوس الوفرة يتماشيان تماما مع هذه الصناعة المتنامية لغناء شبيه بالوجبة السريعةfast-food التي تنتجها مطاعم تزاوج بين الجاذبية و السرعة.إن تنامي ثقافة الاستهلاك مس جميع جوانب الحياة المعاصرة من ذوق وأفكار وفنون إلى سائر الأمور…

الاغتراب و الخرق

يروج الفيديو كليب العربي عالما منسوجا من الأحلام،تتجسد فيه كل القيم اللاواقعية:الجمال الذي تضمنه السلالة اللبنانية،ويضطلع بجانب منه طب التجميل وويتولى استدراك ما قصر عنه تقويم الجسد الاستنجاد بالسيليكون ، مقابل القبح (الاجتماعي والسياسي والبيئي…)النظام مقابل الفوضى( ضعف النظام العام، خرق القوانين…)،الحرية( حرية الجسد في امتهان الغواية..)،إنه عالم مسكون بالاغتراب في أقصى حالاته: يقدم بديلا لعالم يوجد رهين قيمه البدوية.يقابل الصحراء في الفيديو كليب المراعي التي تجري تحتها الأنهار،الثلج الذي يكسو الأرض،المدفأة…
ديموقراطية الغواية:
هذه الإمارات الباذخة( على رأس أهم الإمبراطوريات الإعلامية العربيةفي مجال صناعة الفيديو كليب أمير، كما أن أمراء خليجيون آخرون يمارسون ،إلى جانب تنظيم سباق الخيل و السيارات، كتابة نصوص الأغاني لمطربات و لمطربي الفيديو كليب…) تحمل على عاتقها أن تحقق في الوهم ما تعذر تحقيقه في الواقع:الديموقراطية،لكن فقط ما يمكن اعتباره ديموقراطية الخطيئة أو ديموقراطية الغواية… حق المواطن العربي في الاستيهام البصري والتلصص على العوالم الحسية التي تدغدغ العواطف و تعيد إنتاج عوالم ألف ليلة و ليلة.. غابات من السيقان المرمرية و النحور العارية و الشعور المشرعة للريح، عيون حوراء تغمز و غرف نوم مشرعة، حريم متنوع الأشكال و الأنواع و الأحجام يتجدد في كل مرة إلى حد يسبب الدوار ..نساء جميلات ومتحررات يبالغن في انتهاك سافر ومغرض لقيم الوهابية…

الجسد: المرأة و السيارة

في الكليب العربي يكاد يغيب النص الشعري ( غالبا) والصوت حد التلاشي,وحتى حين يحضر فهو ثانوي إذ ينزع الفيديو كليب نحو البصرية… يحضر نص الجسد.و الجسد هو جسد المرأة المصنوع و المعدل جراحيا سواء كانت خلفية للصورة(راقصة مع رجال يغنون في الغالب، أم كانت الجسد الفريد البالغ الشبقية والذي يكفي لوحده لكي يكون موضوع اللذة القصوى لا يحتاج إلى مقٍو آخر غير ذاته،لذا تنزع الصورة نحو التبئير على الجسد بواسطة اللقطات المكبرة والقريبة و تصير الخلفية هامشية، و هو ،كذلك جسد السيارة الفريدة في شكلها الانسيابي واستداراتها (الشبقية) . تحضر السيارة والمرأة معا باستمرار ربما لأنهما ،معا، مطيتان في الاستيهام العربي،كلاهما وسيلة للركوب،امتياز و دليل قوة و فحولة ، موضوع تباه ومنافسة…مواكب من السيارات الناعمة و غابات من الحريم الفاره الرافل في الحرير شبه الشفاف وسط عوالم سديمية تغرق في الخضرة و النعيم، جنان معلقة تجري من تحتها الأنهار.. لكنها خاطفة …هذا الغياب الجزئي أو الكلي للصوت و اللحن تعوضه الصورة الرقمية و الجسد و الألحان التي يؤلفها الكومبيوتر..
دكتاتورية الجمال:
في الإعلام الغنائي العربي المتمترس في فضاءاته القصية والمدجج بالتقنية، تنتعش صناعة الجمال. ففي قنوات البيترودولار تعطى الأولوية للجمال:لا ينحصر الأمر في الفيديو كليب وقبله السينما، بل تعطي القنوات العربية الأولوية المطلقة لمعيار الجمال في اختيار منشطات المنوعات والبرامج الفنية،بل وحتى البرامج الثقافية ونشرات الأخبار و إذا كانت القنوات التلفزية في مختلف دول المعمور تعطي الأولوية للكفاءة في اختيار منشطات البرامج والمذيعات، فإن القنوات العربية وفي مقدمتها قنوات البترودولار تشترط الجمال معيارا أساسيا . لا يعني هذا الكلام أن الجمال يناصب الكفاءة العداء، فقد تجتمع الكفاءة المهنية والثقافية بالحسن و الجاذبية،لكن المقومات المهنية والشخصية والثقافية هي التي تصنع إعلامية ناجحة.فلو كانت كريستين أوكرنت عربية لمنعت من أن تكون الإعلامية المتالقة التي نعرف.
إن اعتماد الفيديو كليب على الجسد الجذاب الذي يساعد على ترويج المنتوج التجاري( ترويج الكاسيت والأسطوانات الذي تنتجها الشركات الفنية، وتحقيق فرجة كبيرة تساعد على الإشهار، وتحفز على الاستهلاك…) يساهم في تطوير صناعة الجمال، في العالم العربي.و إذا كانت هناك دول في العالم تشهد ازدهارا غير مسبوق في صناعة ملكات الجمال مثل فينزويلا ، وهوسا مرضيا بتجويد الجسد ونحته كما في البرازيل والولايات المتحدة، وغيرها من الدول،فإن طب التجميل في لبنان وسوريا ومصر…يشهد إقبالا منقطع النظير.ثمة سباق محموم بين أغلب الفنانات العربيات على التغيير الدائم في الشكل سعيا على التجويد الأمثل. فالمطربات الجميلات أصلا،يحولن شكلهن باستمرار جريا وراء الحسن الأقصى تحقيقا لأحد المبادئ الأساسية في صناعة الفرجة:المظهر الجديد:new look باعتباره أنجع وسيلة لمقاومة العدو اللذوذ للفرجة: الملل.

المقدس و المدنس:

في بحر ممتد من المتعة الملفعة بالشبق والحسية والشكل الغربي الخالص( المرأة الشقراء الرشيقة والمتحررة…والتي لا علاقة لها بالمرأة الخليجية المكتنزة والمسربلة في عباءاتها،والمعتقلة خلف الأسوار العالية والتي يمنع عليها حتى امتطاء السيارة) ووسط هذا السيل العارم من السيقان والاستدارات المجودة والنحور و السرر العارية والكلمات المتأوهة المنبعثة من الأحشاء، يترك صانع الفرجة العربية فرجة للمقدس… تقطع إحدى الفضائيات المتخصصة في المتعة البصرية إرسالها وتقطع مسافات زمنية ومكانية ورمزية بعيدة للاستماع الأذان من المسجد الحرام…ينبعث المقدس بين وصلتين لا تتوقفان من المتع البصرية. وسط وابل من الصور المنثالة المشحونة بالاستيهامات و المنذورة لعبادة الجسد المتعهد بالتجويد والإتقان الأمثل… يوجد دائما مكان لخطيب الجمعة وهو يحدد ما يجب على المؤمن عمله لكي يعود القرن الأول الهجري …تختلط فتاوي بن تيمية بتأوهات هيفاء وهبي…ويخصص إمبراطور فضائي آخر من بين كل قنوات الغواية المدججة بأجساد النساء الجواري، قنوات المتعة والترفيه التي تنشطها صبايا باذخات الحسن، مسيحيات في الغالب، يقدمن صورة تشكل النقيض الأقصى للبداوة العربية، قناة لنشر الوهابية في سبيل الله مجانا،من بين كل القنوات الأخرى المشفرة.
إن صانع الفرجة العربية يظل وفيا لصورته حيث يتصالح الضدان دون مشكل : المقدس و المدنس :التزمت و الغواية يسيران جنبا على جنب ،علما بأنه،,في التقليد العربي،لاعتبارات تاريخية وسوسيوثقافية ،كثيرا ما ينظر إلى الفن باعتباره غواية وافتتان ورجس من عمل الشيطان. فالفنانات اللواتي يختتمن مسارهن الفني بالتحجب والانعزال عن الأضواء يعتبرن هذا الفعل توبة من الفن.الفن بهذا المعنى فعل منحط و مدنس يستوجب النبذ والتبرؤ …
و سواء أكان هذا الاحتفاء الدال بالمقدس احتيالا لترضية للوهابية المتنفذة أو نفاقا في مجتمع يرزح تحت الاستبداد الملفع بالدين،أو كان تكفيرا عن "الدنس" و"الانحطاط" الذي يمثله الفن في لاوعي صانعيه ومروجيه و الذين يستثمرون في صناعته و ترويحه ثروات هائلة و يجنون من ورائها ثروات أشد هولا، فإنه يعطي صورة عن الذهنية العربية القائمة على الازدواجية والتناقض وكل أنواع النفاق الفردي وا

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. عباسي مصطفى
    19/12/2007 at 15:24

    تحية إليك أساذ كلموني على تحليلك العميق و الذي يحاول مقاربة هذه الظاهرة الفنية الجديدة.أتمنى أن نلتقي بك في كتابات جادة أخرى.والسلام عليكم يا أستاذ و رحمة الله

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *