ها قد عاد الملك ، فكيف عشنا الغياب؟
رمضان مصباح الإدريسي
الغياب الكبير في مستهل القرن التاسع عشر:
شخصيا عشت غيابا مضاعفا ؛إذ تزامن غياب جلالة الملك ،بالنسبة لي،مع اشتغالي على أرشيف الدبلوماسية الفرنسية
لمستهل القرن العشرين:مرحلة الفتن الوطنية الكبرى-خصوصا فتنة الروكي- وإرهاصات تمدد الكولونيالية الفرنسية ،صوب الغرب المغاربي.
تمدد حرص المستعمر على أن يوفر له كل ظروفه؛في استثمار كبير لتجربة احتلال الجزائر.
طبعا،لازمتني في رحلتي،هذه، عبر الزمن، خلاصاتي عن الحاضر المغربي؛ومن شدة غياب مؤسسات الدولة في مستهل القرن ؛بما في ذلك المؤسسة الملكية ،المؤهلة للتعامل مع كولونيالية متمرسة ،ومدعومة دوليا؛بدت لي ،واضحة ،بلا مراء،وبلا نفاق لأحد ،ايجابيات الحاضر المغربي:ملكية ,حكومة،مؤسسات و مواطنين.
سبق أن عشت مثل هذا حينما رافقت،قارئا، « الكونت دو شافانياك » في رحلته »من فاس الى وجدة « ،في أواخر القرن التاسع عشر.اليوم، كلما عبرت « الأوتوروت » بسيارتي أجدني أستعيد الوصف الرائع والدقيق لسفر ساعتين ،الذي استغرق من « شافنياك »،وفرقة الفرسان المرافقة له، ستا وأربعين ساعة.
ذلكم زمن وهذا زمن،نعم ؛لكن لا بد من قراءة الحاضر –أحيانا- من خلال الماضي؛لأن هذا الماضي البئيس،في الحالة المغربية، كان حاضرا لم يحسن أهله قراءة ما ضيه.
الغياب على المستوى الرسمي: فتنة شباط
خلافا لفتنة الروكي في مستهل القرن العشرين،وهي فتنة حضور جسور ؛تبدو فتنة شباط فتنة انسحاب وغياب. ما كان لزخمها الإعلامي أن يصل إلى المدى الذي وصله ،لو كان الملك حاضرا .
فتنة أعطت للغياب العادي للملك –كما نتغيب جميعا عن أعمالنا ،طلبا للراحة- بعدا وطنيا ودوليا، كبيرا؛ وغياب ملكي
بادلها « تشهيرا بتشهير ».
سارت الأمور في اتجاه تنكيس راية رئاسة الحكومة،إلى حين ؛و رفع راية حزب الاستقلال على نغمات نشيده الدائم : « المغرب لنا لا لغيرنا. »
كل الكتابات التي تناولت فتنة شباط كانت ملزمة بالتعرض لغياب الملك ،وانتظار التحكيم.
وهي بالنسبة لي فتنة ,ليس إسقاطا لقراءاتي الدبلوماسية الحالية ،ولكن لأن أصحابها فكروا ودبروا ،واختاروا أن يقفوا في المنزلة بين المنزلتين :لا إقدام ولا إحجام.لا هم يقدمون استقالتهم من الحكومة ،وفق مقتضيات الدستور؛فلا يحرجون رئيس الحكومة،في وجود النص ؛ولا هم يتراجعون عن « زعم » الانسحاب؛مع استغلال جشع لمكالمة هاتفية ملكية ،تثبيتية للوضع؛انفردوا برواية مضمونها.
ما كان لهم أن يتحدثوا عن مكالمة شخصية عادية للملك ؛لكنه الجشع السياسي يسهل استغلال كل شيء.
هذا سلوك الفتانين ،خصوصا حينما يهندسون جيدا لحظة الإعلان عن نواياهم:لحظة العزم الدولي على قلب الموازين في صحرائنا؛ولحظة الغياب الملكي.
ما هو مؤكد الآن أن الفتنة كانت فرصة سانحة ليظهر وجه آخر لرئيس الحكومة:لقد حافظ على رباطة جأشه ،وهو يعيش هذه الفتنة التي لم يسبق أن عاش مثيلها غير عبد الله ابراهيم ،وهو يواجه اللوبي القوي المعروف.
رغم نفوري الكبير من مدرسة التهريج التي يمتح منها كثيرا بن كيران – جادا ومازحا-وجدتني أثني بيني وبين نفسي على هدوئه وتعقله ،وهو يرى حليفه الكبير في الحكومة ينكص نكوصا غير معهود في أدبياته كلها.
لعله كابد وعانى حتى في كظم أفكاره الشخصية. ولعله بدوره تلقى مكالمة أزالت دهشته وتوجسه ،لكن –خلافا- لشباط،فهم أنها مكالمة شخصية ،ويجب أن تظل مشتغلة في حدودها.
الغياب على المستوى الشعبي:
في حدود محيطي ،واتصالاتي التي تسمح بها انشغالاتي البحثية،لمست حالة غريبة ؛حينما يتحدث الناس- في البادية كما في المدينة- عن غياب الملك:
الإجماع على ما يشبه الشحنة العاطفية القوية ،التي عبر عنها الشاعر الحارث بن حلزة، في قوله ،وقد برح به طول غياب الحبيبة:
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
أسأل أحدهم في البادية: وهل تعتقد أن الملك غائب ،وأنت تحدث ابنك ،في اسبانيا، يوميا؟انه عصر التواصل الآني.
يجيبك: شخصيا يبدو لي البلد خاليا من دونه.
نفس المعنى يكرره حتى المثقفون؛ومن هنا استغرابي.ليس من « معاناة » المواطنين من « ندرة الملكية « على مدى أزيد من شهر؛ولكن من عدم حصول الإشباع المؤسساتي .
إن مؤسسات الدولة ،خصوصا الفاعلة في التدبير المباشر للشأن العام :رئاسة الحكومة,الوزارات ، المؤسسة التشريعية؛لم تجعل الناس ينسون ،أو على الأقل يتناسون غياب الملك.
كيف نفسر هذه الحالة؟
صحيح هي حالة عصية ؛ولا أعتقد أن العنصر المشوش على التفسير السياسي (فتنة شباط) ؛هو الذي يبرر هذه الصعوبة.
لماذا لا يقتنع المواطن المغربي بمؤسسات الدولة ؟ لماذا ينتظر أن يراها مدعومة –دائما- من طرف الملكية الحاضرة و الساهرة،وإلا فهي ،في نظره، قاصرة ,ان لم تكن زائغة؟
لماذا حرمت مؤسسات الدولة ،نفسها، من ثقة المواطن؟
لا حظوا حتى حزب الاستقلال العريق لم يثق في هذه المؤسسات، ودستورها ،وقوانينها ؛واضطر الى التحكيم الملكي ،في خلاف حزبي أكثر منه حكومي.
لماذا نصحح المواطن العادي حينما يقول : « خلاها خالية ».
درس الغياب:
غاب الملك ،عاد الملك ؛لكن لماذا غابت الدولة العميقة ،و صنع كل مكون من مكوناتها لنفسه « غودو » على هواه ،وطفق ينتظره؟
هنا المشكل الكبير الذي لا يمكن لكاتب مثلي أن يجد له حلا في عمود.
لا بد من دراسة الحالة ،من جميع الجوانب-استحضارا للمشوش ،وتغييبا له- حتى يألف الناس ،ويقتنعوا بالثقة في مؤسسات الدولة ,لأنها لا تزول بزوال، أو غياب الرجال.
إن الملكية في المغرب ثابت كبير ،وضامن للاستقرار؛لكن في المقابل يجب الارتقاء بمؤسسات الدولة ،كلها،حتى تصل ،بدورها ، إلى هذا المستوى.
إن للملكية بهاء وصولة وصولجان ؛في نفوس المواطنين ،بفعل العتاقة وتوالي القرون ،وتنوع النسيج الثقافي والمجتمعي في « الإمبراطورية » المغربية ,كما كانت تسمى.
لكن الملك شخص عادي ؛يمكن أن تصادفه مستجما ،سائحا،متخففا من كل أثقال الملك التي تنوء بها الجبال .
له أن يحضر وله أن يغيب ،كما نفعل جميعا ؛لكننا ،جميعا، ننتظر استكمال بناء مؤسسات قوية ،حاضرة,مقنعة؛والمرجع في كل هذا للأحزاب السياسية ،شريطة ألا تتتلمذ في مدرسة شباط.هذا الذي يبدو اليوم أسير قفص صنعه له حدادوه على المقاس.
Ramdane3@gmail.com
www.histoirzkara.com
Aucun commentaire