المقامات الدفية : الدف الخامس والأربعون – الرجل الذي التقى بأشعب الطماع في مهرجان الجياع
المقامات الدفية : الدف الخامس والأربعون – الرجل الذي التقى بأشعب الطماع في مهرجان الجياع
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من ذوي الحرص، عاش ينتهز الفرص كلما كانت سهلة القنص، ويشتري كل حاجياته بأبخس الأثمان والرخص…كان يأخذ نصيبه ويريد غيره بالجشع، ويتفنن في ذلك إلى حد العشق والولع، حتى عرف عند الناس بكثرة النهم والطمع…رجع ذات ليل إلى منزله وقد أصابه ألم في الأسنان، بعد انتهاء وليمة عقيقة أقامها أحد الجيران، ثم نام وهو يشعر بالقيء والغثيان…وحدث يوما أن أُقيمَتْ بالمدينة مناسبة كبيرة، حضرها الفنانون ومطربو « الراي » وجماهير غفيرة، وتكسرتْ فيها قنينات وسالت منها مياه غزيرة…خرج صاحبنا يتصيد المناسبة بما ملك من الاشتهاء، بعد أن أوشكت فعاليات المهرجان من الانتهاء، فقصد المكان يبحث بين الخيام المنصوبة وبين الأبهاء…رأى حشدا من الناس فظن أنهم يجتمعون للأكل، فأسرع ليأخذ مكانه بينهم وهو يدعو عليهم بالويل، ولما وصل وجد العسس يشحنونهم بالرفس والركل…كبت رغبته منتبها إلى ما قد تؤدي به زلة القدم، ثم ابتعد عنهم قليلا وهو يشعر بكثير من الندم، وبطنه قد تضورت جوعا واشتاقت إلى لذة الدسم…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في تنظيم المهرجانات، أن صاحبنا سمع أحدهم يؤكد في بعض الخطابات والبيانات، أن ما يُصرف في المهرجان يفوق ما يُصلح مخلفات الفيضانات…اقترب من صاحب الخطاب ربما يجد لديه صحيح الاقتراح، ومطرب « الراي » يغني ما فعله الرأي فيه وما خلف من الجراح، واختلط صوت الخطيب بصوت المطرب وشعر هو بعدم الارتياح…شاهد على يمينه جماعة صغيرة من الأطفال، تجري خلف رجل وتنعته بأقبح الخصال، وهو يسبهم وينعتهم بحثالة الأجيال…تدخل صاحبنا لإبعاد الأطفال وتَرْك شأن الرجل، مغريا إياهم أن المنصة توزع خبزا بالجبن والعسل، فصدقوه وأسرعوا متسابقين في الحين والعجل…شكر الرجلُ صنيعه وتخليصَه من الملاحقة واللمز، وتساءل هل فعلاً يتم توسيع الأكل على ذوي العجز، وهَمَّ بالالتحاق لينال نصيبه من العسل والخبز…لحق به ليؤكد له أن ما قاله هو نوع من الادعاء، حتى ينفض الأطفال من حوله ويتركوه ينعم بالهناء، لكن الرجل صدق الخبر وسقط في شرك الإغراء…هدأ الرجل قليلا ثم قدم نفسه بكل اعتزاز وافتخار، وأفصح عن اسمه المشهور بأشعب في الروايات والأخبار، ثم أنشد يقول ويذكر ما تعرض له من الأضرار:
أهان جوع الطَّوى مَنْ دَأْبُه الطَّمَعُ كيف المـآل إذا ما هـالَهُ الهلعُ
يَظُـنُّ ما شـاهَدَتْ عيناهُ مائِـدَةً بالخَيْر قَـدْ زُيِّنَتْ سـادَها الولعُ
سال اللعـابُ يُجاري لَـذَّةَ الدَّسم حتَّى وَإِنْ كـان مما طالَهُ الضبع
يستـاء أهـل العقول كلَّما هَرمتْ لا تستقيم عقـول فاتـها الشَّبَعُ
يروي أحد الفضوليين المتخصصين في تنظيم الأمسيات والحفلات، أن صاحبنا رحب بأشعب في إطار المعهود من المجاملات، وطلب منه أن يطلعه على ما صدر من الناس في حقه من المعاملات…علمه أشعب كل ما يحتاجه لتقوية مهارة الطمع، وكيف يمارس حرفته في أوقات الجوع وفترات الشبع، وأوصاه بضرورة التمييز بين التخمة والوجع…تعلم صاحبنا الصنعة وأحاطها بالعناية والإتقان، شاكرا في كل وليمة أشعب ممتنا له بكامل الامتنان، منتظرا موعد المهرجان للاختبار والامتحان…واتُّفِقَ أن توصل برسالة تدعوه إلى المشاركة في الاقتراع، حيث سيناقش ما جاء في جدول الاجتماع، وقرر أن يقترح تنظيم مهرجان خاص بالجياع…وافقت أغلبية الحاضرين مبدئيا على صواب الاقتراح، واتفقوا حول تخصيص ميزانية خاصة بالأفراح، تُوَزَّع بحسب مهرجانات « الراي » والجياع والأمداح…ظل صاحبنا يتابع الحوار ودون اهتمام يَسْمَعُ، حيث لم يجد فوق الطاولة ما يفيد وينفعُ، متسائلا متى سينتهي ذلك الجمع ومتى سيُرفعُ…ولما بلغ الجُوعُ منه مَبْلَغ النار من الحطب، صرخ في الجمع يريد أكلا بإلحاح في الطلب، فاستغرب الحاضرون وأبدوا علامات العجب…أمر كبير المجتمعين بإحضار شيء ما يُؤكل، وطلب رأي الحاضرين هل يستمر الاجتماع أم يؤجل، وانقسموا بين من يريد التأجيل وبين من لا يقبلُ، عاد النادل بالمطلوب وهم لم يستقروا بعد على الأمر، فانقض صاحبنا على الطبق بنهم على الفور، ولم يستطع الانضباط ولا التمسك بالصبر… يروي أحد الفضوليين المتخصصين في أنواع الدهان، أن صاحبنا غاب عن منزله طيلة أيام المهرجان، واضعا كل ما تحتاجه أسرته من الأكل في الحسبان…وكان يزور كل ليلة مركز تجمع الجياع، ليتزود بما يحتاج إليه من المتاع، وردِّ كيد أصحاب الحسد والخبر المشاع…انتهز الفرص ووفر الكثير مما يحتاجه طيلة العام، وشكر القائمين على تنشيط المدينة الكرام، متمنيا أن يعيش الجياع في حب وود ووئام…مرت أيام وشهور بالسرعة والتعجل، اكتسب فيها الكثير من مهارة الطمع والتطفل، وكفَّ فيها عن مدِّ اليد والتسول…أسس جمعية تهتم بقضايا ذوي الخصاصة والاحتياج، حتى يتسنى له ما يحتاجه من الدواء والعلاج، ويستفيد من عائدات السمسرة والرواج…نظم الكثير من الأنشطة تحت شعارات الدسم، تنشط فيها الموائد حيث حفل شاي أفضل من العدم، واشتهرت جمعيته بين العرب والعجم…فكر في أن يتنافس على أعلى كرسي في المدينة، فقد اكتسب ما يؤهله لركوب زوبعة السفينة، خاصة بعد أن أقلع عن طبيعة الطمع المشينة…دخل مقر البلدية لحضور أول اجتماع بعد الفوز، وانتُخِب رئيسا حسب ما أفرزته لوائح الفرز، فشكر كل من كان وراء هذا القفز…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في التنمية والنماء، أن المدينة في عهده عاشت في الغنى والرخاء، بفضل ما أعطاه الله من الحنكة والذكاء…أشرف على تنظيم ندوة حضرها أهل الربع، وسماسرة الكلام ومصاصو الدم والضرع، تحت شعار: »سلوك الطمع بين ماء الوجه والنفع »…واحتدم النقاش وكثرت الآراء واختلفت التعليقات، واختتمت الندوة بالدعاء لصاحبنا تحت حرارة التصفيقات…ومن يومها أصبحت كلمته بين الناس تصول وتجول، وتمنى أن يملك ما يجعل أيام العز تدوم وتطول، وتعلم أساليب الدعاية وكيف يبرر ما يفعل وما يقول…فكر في الترقية وتغيير المنصب، وفي ما يعمل على تحقيق المطلب، بعد أن ضمن منابع المأكل والمشرب…ترشح لخوض غمار انتخابات مجلس النواب، معتمدا على صياغة بريق الطمع وبلاغة الخطاب، ونجح بقدرة قادر اعتبرها البعض عجبا من العجاب…اجتمع الفائزون لتشكيل المكتب واللجان والهياكل، وقد استعد لخوض المعركة بكل ما يملك من الوسائل، وانتخب رئيسا نظرا لم جاء به من البدائل…وتسلم المهمة الجديدة راغبا في امتلاك المنصب الجديد، خاصة أنه أصبح قريبا من كرسي الوزارة العتيد، فاستحضر وصية أشعب التي لا مجال فيها للمغفل البليد…ولما علم خبر توليه كرسي الوزارة، استيقظ مذعورا فوجد نفسه يلهث بفعل الحرارة، ثم مات والجياع يلاحقونه ويرجمونه بالحجارة…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك نهاية الطمع، شَقَّ بطنه التي لا تكُفُّ عن الطلب رغم الشَّبَع، ثم مات ثلاثا مخلفا كل ما اكتسبه بالخُدَع…..
يتبع مع المزمار الأول من المقامات المزمارية محمد حامدي
Aucun commentaire