أصبحت ظروف العمل الجديدة تفرض علي السفر باستمرار ، ففي نهاية كل أسبوع اشد الرحال إلى بوعرفة لأعود منها في بداية الأسبوع الآخر .

إن كثرة الأسفار صيرتني خبيرا في مجال النقل ، اعرف مواعيد الحافلات ، أوقات انطلاقها وأوقات وصولها ، الحافلات التي تنطلق من وجدة و العابرة لها ، الحافلات المكيفة وغير المكيفة ، الحافلات الحديثة الصنع والحافلات المتهرئة ، بل نسجت علاقات مع السائقين ومساعدي السائقين والعاملين بوكالات بيع التذاكر و » الكورتيا « .

لقد أصبحت الحاجة تلزمني بان اعرف أسماءهم ، واحتفظ بأرقام هواتفهم لاستعملها عند الضرورة .

في كل يوم جمعة ، وبعد انتهاء الحصة الدراسية الصباحية ، اتجه مسرع الخطى نحو المحطة الطرقية بوجدة ، فانا شديد الحرص على أن أكون على مثن الحافلة نصف ساعة على الأقل قبل موعد الانطلاق ، حتى يمكنني الجلوس بالمقعد المحاذي للنافدة،  لكي لا أفوت على نفسي مشاهدة الطبيعة ، وقهر الملل الذي من الممكن أن يتسرب إلى النفس بحكم بعد المسافة ، ووحشة الطريق .

ما أن ارتب أمتعتي على الرف و استوي على مقعدي حتى تبدأ فرجة من نوع خاص ، جمهورها هم ركاب الحافلة ، أما الشخصيات فهم مختلفون نساء ورجال وأطفال ،والركح هو الممر الذي يفصل مقاعد الركاب  .

يصعد الحافلة رجل متوسط الطول ، أنيق المظهر ، تبدو عليه سمات الوقار والتدين ، يبسمل ويحوقل ، ثم يبدأ في سرد ما تيسر من القران والأحاديث ومن أدعية شيوخ الفضائيات بطريقة ميكانيكية ، دون التفكر في مضامينها .

يخرج من حقيبته الدبلوماسية أكياسا بلاستيكية تحتوي على الحبة السوداء ، قال إن فيها الدواء لكل داء ماعدا السام استنادا إلى حديث نبوي شريف .ودعا الناس إلى التحلي بالنية وتصديق مايقول فمن  صدق صاب ومن كذب خاب , أو كما يقول احد الحكماء لم يذكر اسمه  : إذا وافق الداء الدواء كان الشفاء ولو في شربة ماء .

لم يجد من يقبل على بضاعته فانصرف داعيا للمسافرين السلامة من كل سوء .

يصعد رجل ثان يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق ، يبدو في هيأة طبيب ، يخرج من حقيبته مراهم من صنع صيني تصلح لعلاج كل الأمراض الجلدية : الاكزيما والتولال والجرب والالتهابات … وقد نبه المسافرين إلى ضرورة التقيد بالوصفة الموجودة داخل العلبة ، وانتهاز الفرصة لان العرض خاص ، وستنفد الكمية المعروضة ، والثمن ارخص من ثمن البيع بالصيدليات .

لم يكترث لبضاعته  احد فانصرف ممطرا المسافرين  بسيل من الأدعية .

يصعد رجل ثالث وهو شاب ملتح ، يخرج من حقيبته الجلدية أكياس بلاستيكية بها مادة برتقالية تشبه مادة الشب قال إنها زبد البحر ، ذكر المسافرين أن هذه المادة والتي ثمنها رخيص لايتجاوز 5 دراهم هي من إعداد وإنتاج اكبر العشابين بفاس ، وهي تصلح لعلاج أمراض الفم واللثة والأضراس وروائح الفم الكريهة .

غادر الرجل الحافلة بخفي حنين ، بعد أن فشل في تسويق بضاعته  .

يصعد رجل رابع على وجهه لحية شعرها غير موزع  بشكل عادل ، يخرج قنينات عطر صغيرة ، انه عطر مكة المكرمة ، وقد حث المسافرين على التزين إحياء للسنة النبوية ’خذوا زينتكم عند كل مسجد ’ ’من أحيا سنة من سنتي فقد أحبني ومن أحبني أنا وإياه في الجنة ’

عرفت بضاعته الكساد و  البوار لان اغلب المسافرين ربما يعرفون بان العطر هو من  صنع صيني ولا دخل لمكة ولعربها بصنعه .

تصعد امرأة معاقة ، فتسلم لكل المسافرين ورقة صغيرة كتب عليها : أخي المسلم ..أختي المسلمة : زوجي مريض مرض خطير ولدينا 7 أطفال ونكتري بيتا ب 400 درهما شهريا ، فساعدونا بما تجود به أيديكم والله لا يضيع اجر المحسنين .

رغم أنها تستغل عاهتها في التسول ، إلا أن اغلب المسافرين لم يستجيبوا لندائها وأسلوبها ، لست ادري هل لان المسافرين أصبحوا يفطنون إلى نصبها فنفس المرأة تستعمل نفس الأسلوب منذ خمس سنوات ، فالزوج  مريض بمرض خطير ولازال لم يمت ،  وعدد الأولاد كان هو ستة وأصبح سبعة ، فكيف لمريض مرضا خطير أن ينجب أطفالا  ؟ وثمن الكراء كان 300 درهما فأصبح 400 درهما تماشيا مع  ارتفاع الأسعار .

إن عيب  هذه المرأة  أنها  لم تسمع بمقولة مالتوس المشهورة : يزداد عدد السكان وفقا لمتوالية حسابية والإنتاج يزداد وفقا لمتوالية هندسية ، وان سبب فقرها هو ارتفاع عدد أفراد أسرتها .

يصعد رجل سادس وهو شاب اسمر فاره الطول يبيع شوكولاطة زانها بأحسن الأوصاف ، فهي:أحسن شوكولاطة في العالم-حلوة وبنينة وجاية من المدينة –حلي باش تولي …

10 قطع ب 5 دراهم وقطعة بالمجان ، يشتري بعض المسافرين الشكولاطة ، فيفاجؤون بان العدد في الكيس هو 9  وليس 10 كما يدعي الشاب الاسمر .

يصعد رجل سابع فيبدأ في ذرف الدموع ، ثم يتوسل من المسافرين أن يساعدوه على شراء تذكرة للذهاب إلى مدينته في جهة ما بغرب المغرب ، وبنبرة خافتة ورأس مطاطا يقول بأنه لم يتعود التسول ، و هوخجول من نفسه اشد الخجل ،  ولمن لم يصدقه يطلب ان يرافقه إلى مكتب بيع التذاكر لإسداء هذا المعروف  .

أتابع هذه المشاهد باهتمام ، فكل هؤلاء الأشخاص يوزعون الأدوار بينهم ، فلا يمكن أن يقف على الركح أكثر من عارض واحد ، ولا يشرع العارض في العرض ، حتى يتأكد من أن السابق قد أنهى عرضه .

كل واحد من العارضين يحاول النصب والاحتيال على المسافرين بطريقة خاصة ، وكل واحد منهم يوظف الدين أو الخطابة أو العلم أو الإعاقة للدخول إلى جيوب الناس .ثم أن هده الظاهرة ربما تستفحل بشكل اكبر في الحافلات المتجهة نحو الجنوب الشرقي والجنوب ،  لست ادري هل لطيبوبة أهالي هده المناطق وسذاجتهم أم لتفشي الأمية والجهل ؟ وهو ما يغري المحتالين والنصابين الدين ينتهزون الفرص للإلقاء بالطعم ؟

تنطلق الحافلة في الوقت المحدد ، فيعم الهدوء ، لا صوت يعلو على صوت المحرك ، إلا صوت المذياع الذي يستعمله السائق لتمضية الوقت .

تطوي الحافلة بنا الطريق طيا ، تتوقف في محطات معدودة لإنزال الركاب في قنفودة وعين بني مطهر وتندرارة كما تتوقف في بعض المحطات لإنزال الرحل بالجنان وحوض النص وقعدة البيض .

من الأشياء التي تثير انتباه المسافر إلى بوعرفة وجود منطقة جرداء أصبحت تسمى الطراريد –terre arride  -كانت فيما مضى تضم قاعدة عسكرية أمريكية في المكان المسمى حاليا بالجنان ، يشاع أن المنطقة- والعهدة على الراوي-  ربما كانت حقلا للتجارب العسكرية الأمريكية ، وهدا هو سبب تصحر المنطقة ، إلا أن هده الفرضية تبقى مجرد إشاعة قابلة للتصديق أو التكذيب في ظل غياب المعطيات .

سمعنا بان المنطقة سينم كرائها من طرف مستثمرين أجانب لإقامة مقبرة للطائرات قصد تجميع هياكل وأجزاء الطائرات ، لكن هدا المشروع لم ير النور بعد ، وحتى في حال إخراجه للوجود سيثير احتجاج الخضر وأنصار البيئة ، فلا شك أن المنطقة ستصبح مزبلة للنفايات الغربية ، فهدا  ديدن الرأسمالية المتوحشة لا ترى في الصحراء إلا مزبلة للتخلص من نفاياتها ، مع العلم أن هده المنطقة لو تم إصلاحها لوفرت الغداء الكافي لإطعام الصين بكاملها .

يثير انتباهك في الطريق أيضا وجود أطفال الرحل على جنبات الطريق يرعون أغنامهم ، لقد فشل مشروع ميدا المدعم من طرف الاتحاد الأوروبي لتمدرس أبناء الرحل وكذلك المدرسة الجماعية في إيجاد مقاعد دراسية لهم رغم أن الشعارات تؤكد على إلزامية التعليم للجميع خلال المرحلتين الابتدائية والإعدادية .

يثير انتباهك أيضا ترامي مصلحة المياه والغابات على آلاف الهكتارات وتسييجها قصد التشجير ، العملية تدخل في إطار المغرب الأخضر ، فكم من ملايير صرفت على عمليات مشابهة من قبل لكن النتيجة كانت صفرا ، بل الأدهى من دلك أنهم غرسوا شجيرات زادت في ملوحة الأرض وتسببت في تكاثر الفئران والزواحف بشكل اخل بالتوازن البيئي بالمنطقة .

بعد اربع ساعات ونصف من السفر المتعب تصل الحافلة الى بوعرفة ، فيثير انتباهك هذه المرة حاجزين اقيما على الطريق  بقرب من فج بوعرفة الاول لرجال الدرك والثاني لرجال الامن ، فما اشبه بوعرفة فعلا بسجن كبير .

الصديق كبوري / بوعرفة