Home»Femme»الكتابة فوق العادة!

الكتابة فوق العادة!

0
Shares
PinterestGoogle+

أعرف صديقاً يكتبُ بطريقة مرعبةٍـ من ناحية إثارة القلق في الأذهان ـ أو ربما تتجاوزها. لكن ليست طريقة الكتابة هي ما أودّ التّركيز عليه، بل شيء أكثر إثارة للرّعب، على الأقل بالنسبة لي..

يوماً كتبت على « غوغل » إسمه -من باب التسلية وكسر الروتين- فإذا بي أجد الموقع الذي يحتوي أرشيف كتاباته بحيث أن كل موضوع منشور على أكثر من عشرين موقعاً! تمالكتني نوبة من الضحك، وأنا قد قرأت قبل سنة كلّ تلك المواضيع، ثم تساءلت : ما الذي يجعل مواقع كهذه تنشر له كتاباته التي أصنفها شخصيا تحت قائمة  » فوق العادة  » ؟

أذكر أنني عشيّة يوم من أيام رمضان دخلت أقرأ له في موقع شهير بنقله للأخبار، فوجدت أن 99,99% من التعاليق هي تعاليق ضدّ الكاتب، اتهامات وشتائم، حتى لا أرفع من شأنها وأسميها « انتقادات » لأن شروط الكتابة النقدية لم تتوفر فيها، ثم تساءلت في سخرية : وما الذي يفهمه هؤلاء في هذه النصوص كي يعتقدوا أنهم في مستوى تقييمها؟

فيما بعد، حاولت إخبار الكاتب بأنه يرتكب خطاً بنشره تلك الكتابات « الغريبة عن جسد المجتمع المثقف البسيط » في مواقع تتراوح مواضيعها واهتماماتها اليومية بين جريمة قتل في نواحي المدينة القديمة و خبر صراع المعارضة مع الحزب الحاكم !

قد يتساءل شخص ما عن نوع هذه الكتابات الغريبة التي تثير هذا الصخب، وأعتقد أنه ليس من الصعب العثور عليها من طرف شخص يتمالكه الشعور بالغثيان من كلّ ما ينشر يومياً على المواقع الإلكترونية، وأعتقد أن الغثيان هو أقل ما يمكن وصف الحالة به، الأمر الذي يدفعني للتساؤل : أي إنسان تريد أن تنتج تلك المواقع؟ أو بالأحرى، ولتحرّي الدّقة في السؤال، من يظن الكاتب على المواقع الإلكترونية أنه يخاطب؟

أعتقد أنني اقتربت من نقطة حرجة جدّاً في هذه اللحظة، وهي مسألة الثقافة الإلكترونية. وهل يمكن الحديث عن ثقافة إلكترونية وأخرى ورقية؟

ما أريد الوصول إليه باختصار هو أنه مؤخراً أصبح هناك عدد هائل من « الكتّاب الإلكترونيين » أو كما تسميهم أعراف المجتمعات الإلكترونية  » مُدوّنين  » دون أن نجد محاولات جادة للبحث في نتائج هذا المفهوم، وبالطبع هذا الإرتفاع في الكمّ مفيد من عدة نواحي، ذلك أنه يسمح بتنوع المحتوى الإلكتروني من جهة، وأيضا هو خدمة لحرية التعبير الفردية، عن النفس أو عن الجماعة، لكن من جهة أخرى نفاجأ برداءة المحتوى، من حيث الجودة، هناك خلل كبير أعزيه لعوامل سيكولوجية بالدرجة الأولى، لأنه من المفترض أن من يكتب أكثر من أربعة مواضيع في الأسبوع مطالب بأن يتعلم أكثر مما ينتج، أقصد أن الكتابة ليست بسيطة للغاية كما يتصورون، ليست مجرد ترتيب اعتباطي لكلمات بسيطة بلغة « ساذجة » وربطها ببعض الأرقام لإضافة المشروعية إليها ثم إرسالها للقارئ في لمح البصر؛ كلاّ، كلاّ.. فعل الكتابة أعمق من مجرد عملية ميكانيكية بلا أي معنى.

كنت قد قمت بنعت اللغة في الفقرة السابقة بوصف « السذاجة »، فهل فعلاً هناك لغة ساذجة؟ – بالتأكيد. إنها اللغة التي ليست لغة؛ أي اللغة التي تخاطب الشيء الأكثر سطحية في الإنسان : غباءه ! رغم أن الغباء أحيانا أكثر عمقا من اللغة الساذجة.

أعلم أنه قد يتبادر إلى أذهان البعض أنني أقصد رداءة لغة الكتابة وعدم احترامها للقواعد المسطّرة من طرف اللّغويين الكبار، غير أن الواقع أنني أتجاوز القواعد التي وبالرغم من أنها تشكل الكارثة الأولى في المسألة، غير أنها ليست سوى جزءا من منظومة أخطاء إن شئنا تسميتها كذلك؛ كما لا أخفي أحداً أنه يحزّ في نفسي أن أقرأ لأحد مشاهير المدّونين على أشهر المواقع الإلكترونية موضوعا لا تخلو فيه فقرة من خطأ يعكّر صفاء النّص ويغري بالإبتعاد عنه بدل الغوص فيه أكثر فأكثر، وأنا هنا أغض الطرف تماما عن الأخطاء الإملائية بدعوى أننا حين نكتب على لوحة المفاتيح فإن احتمالات الخطأ اللامقصود مرتفعة دوماً، وأركز أكثر على تلك الأخطاء « الساذجة » التي لا أفهم صدقاً كيف يتمكن الكاتب من هضمها قبل أن يتوقع من القارئ أن يهضمها بدوره؛ لطالما اعتبرت اللغة، أي لغة كانت، هي مسألة ذكاء وحسب، وليست مرتبطة بالحفظ الميكانيكي لقواعد الصرف والتحويل التي لا أتذكر منها سطرا واحداً مما كنا نحفظه في المدرسة وما بعدها، كي نحصل على بعض النقاط في أسئلة الصرف والتحويل وشكل النصوص، مع الإشارة إلى أنني وطيلة فترة حياتي في الدراسية، لم أستند يوماً إلى قاعدة لغوية كي أقوم بشكل أحد النّصوص.. كنت أفعل ذلك بتلقائية أبحث من خلالها عن النّشوة الكامنة وراء كلّ حركة من حركات الشكل، وإذا ما سألني الأستاذ عن تبرير لوضع الكسرة بدل الفتحة أجبته بسؤال آخر : وهل تحتاج الحركات إلى تبرير وجود؟ إنها هنا لأنه مكانها ولأن أي حركة أخرى مكانها ستفسد النطق.. أقصد ستفسد جمالية العبارة وحسب !

مضت أعوام وبدأت أفهم، مع « الكتابة في درجة الصّفر » و « لذّة النص » لـرولان بارت، « تاريخ ويوتوبيا » لـإيميل سيوران، « الإمتاع » لأبي حيان التّوحيدي، ثم « الكتابة والإختلاف » لجاك دريدا، وغيرها الكثير من المؤلفات العظيمة، أن ما كنت أسميه « جمالية العبارة » و « جمالية النطق » كانت أمراً موجوداً فعلا، ولم تكن مجرد اختراعات لأعذار كي لا أحفظ نصوص القواعد الإملائية.

لقد قال أبو حيّان التوحيدي في « الإمتاع » بأن « أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم ». (الليلة الخامسة والعشرون)، كما اعتبر إيميل ميشيل سيوران « الأسلوب مغامرة »، فإنه -وبالفعل- على الكاتب أن يعرف كيف يمارس هواية الصيد عبر النصّ الذي هو بصدد كتابته، عملية صيد المعنى والجمال أوّلاً، وثانياً صيد القارئ.

الكاتب إذن ليس مجرد كاتب وحسب، إنه مغامر يحمل على عاتقه مسؤولية مزدوجة : النص ثم القارئ.

وأنا أكتب هذا، تقفز إلى ذهني مقولة للروائي « الطاهر بن جلون » أثارت قبل مدة جدلاً بين بعض الأصدقاء، يقول فيها ما معناه أن الكاتب هو من يعرف كيف يعيد تشكيل تجاربه الشخصية في قوالب لغوية تصلح لأن يقرأها الآخرون، ثم يضيف قائلا : على هذا الأساس يجب على أغلب الكتاب الحاليين أن يستقيلوا من مهمة الكتابة. ( ترجمة شخصية للمقولة الفرنسية )

وقد كان سبب الجدل القائم يتمحور حول « إقصائية » الطاهر بن جلون، ودعوته لاحتكار الكتابة في بعض الأيدي المحدودة.. لماذا ذكرت هنا هذه المقولة، لسبب بسيط هو أنني لا أريد أن تبدو وجهة نظري « إقصائية » أيضاً لبعض الأقلام الإلكترونية، فأنا أحترم رغبة الكاتب « الصادقة » في الكتابة والنشر، غير أن ما أرفضه باسم الحرية أيضاً والرغبة الصادقة، هو أن يتجاهل الكاتب كل ما يحدث خارج برجه العاجي الذي يبنيه بأوهامه وكأنه وصل لقمة الثقافة، ما أريد قوله أن من ينشر ليس بأكثر قيمة من يقرأ، لأن القراءة هي كتابة ثانية، كتابة من دونها لا يبقى للنص من جدوى. إنني مع الكتابة الدائمة بالموازاة مع التعلم الدائم، فإن كان الكاتب مثقفا فهذا ليس معناه أن أي شيء يكتبه يجب على القارئ أخذه كما هو، كما لا يعني أن هذا القارئ بدون أي ذائقة لغوية وبالتالي بإمكاننا جعله يقرأ أي شيء كيفما كان.

أعتقد أنه آن الأوان لكي ننتقل إلى مرحلة جديدة من الكتابة، مرحلة وصل إليها هؤلاء الذين انفصلوا تماما عن الطبقات المتوسطة ثقافياً، وحتى ولو نزلوا إليها، فمن ذا الذي سيفهم هلوساتهم الممزوجة بالصّرخات الدامية، ومن ذا الذي سيقرأ في نصوصهم ما لا يريدون قوله مقابل ما يريدون قوله؟ لهذا السبب رفضت دوماً أن يعاب على الطبقة البرجوازية من المثقفين (برجوازية الثقافة وليس البرجوازية بالمعنى الطبقي الإجتماعي) غيابهم المتواصل عن الساحة العامة، ذلكَ أنهم حاولوا مراراً مناشدة الساحة لغاية الإنتقال لمرحلة أخرى، ما بعد الواقع الروتيني وما فوق كلاسيكية المعنى واللغة، غير أن الآذان كانت منشغلة بتلك الأشرطة المتآكلة التي تروي وقائق اليوم بكلّ روتينية؛ ولهذا رحلوا وحدهم، وقاموا ببناء قصورهم هناك في « الما بعد « ، مابعدية الحاضر والآن.

ترى كيف سنقنعهم إذن، ومن جديد، بلا جدوى البقاء في مستنقعات الحضارة؟ كيف نجعلهم يفهمون أن للغة تخوماً يمكن تجاوزها؟

ليس من الحكمة استنزاف الوقت في محاولات إقناع فاشلة، التاريخ لا ينتظر، حتى الساعة في غرفتي لا تتوقف عقاربها عن الدوران، وأي لعنة هذه؟ ألا يمكن فعل شيء حيال الأمر؟ كل ما أعرفه أنه لا يجب الإنتظار ثانية واحدة، لأن « الإنتظارات تسبب الألم » يقول شكسبير، ولأن الألم يسب الموت، أو على الأقل الإحتضار، لا يجب أن ننتظر. من كان يرى أنه أصبحت لديه جميع الوسائل الممكنة للتحليق في الأفق فليبدأ الطّيران بدون أدنى محاولة لإقناع الآخرين بالذهاب معه.. حين كان يبحث عن الأدوات اللازمة كانوا ينعتونه بالأحمق الذي لا يشغله سوى العَدَم .. وأعتقد أنه حان الوقت فعلاً لكي يبرهن لهم أن تلك الحماقة تشبه جنون أولئك الذي غيّروا شيئا في العالم، فقط لأنهم آمنوا بإمكانية فعل ذلك.

رغم سنوات من المعاناة على جسد اللغة إلا أن الرغبة في إنتاجِ نصّ يتَرجمني، ولأني أعرف أن ما بداخلي إعصارٌ، لا أخشى أن أتألم وأنا أُنتجــه بقدر ما أخشى على القارئ بعدَه!

هذه العملية، أي الكتابة فوق العادة، تستلزم غياباً عن العالم، غيابٌ لن يتحقق إلاّ بالذوبان في الذاكرة ونسيان الحاضر!

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

2 Comments

  1. ahmad
    15/02/2013 at 08:02

    بارك الله فيك.تذكير وازن بشروط الكتابة في زمن ذيوع الرداءة

  2. رمضان مصباح الادريسي
    15/02/2013 at 12:51

    غمرتني سعادة فوق العادة وأنا اقرأ مقالك
    قراءة فوق العادة.
    هاهي ذي كتابة تفجر الروتين

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *