التسول في غزة مهنة أم حاجة؟!
التسول في غزة مهنة أم حاجة ؟! سامي الأخرس
تتسارع مراكز الإحصاء في كل أنحاء العالم لدراسة الظواهر التي تتفشي في المجتمعات ، حيث تستخدم هذه المراكز أدواتها الإحصائية للدراسة والخلوص بنتائج علمية ، لا تعبر في الكثير من الحالات بمصداقية مطلقة حيث أن هناك من الظروف التي تحيط بالنتائج وتؤثر عليها ، وذلك يعود لمدي التحقق من مصداقية وثبات الأداة الإحصائية التي يتم تطبيقها ، والظروف المحيطة بالإحصائي وبالأداة معاً والكثير من العوامل الإحصائية والبيئية الأخرى ، ولكي نبتعد عن لغة الأرقام وتضاربها وخاصة في ظل عدم توحد مصادر الأرقام الإحصائية في قطاع غزة نتاج عملية التجاذب السياسي الذي نعيشه ، ولكي لا نختلف ونحيد عن جوهر الموضوع سأبتعد عن لغة الأرقام الإحصائية التي ربما الخوض فيها يحول مسار الهدف من هذا الموضوع ، ويكون دافع لحرفة عن موضعه الأصلي وغايته .
أعود لجوهر الموضوع والغاية من هذه المقدمة ألا وهي ظاهرة التسول التي أنا بصددها وهي ظاهرة قديمة جداً تعاني منها معظم الشعوب والمجتمعات ، وهي تخضع لمقاييس وظروف تتنوع من مجتمع لآخر حسب الأوضاع السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية السائدة في المجتمع يتم من خلالها دراسة هذه الظاهرة وتشخيص أسبابها .
الدافع الفعلي للكتابة في هذا الموضوع هو ما تم ملاحظته في الفترة الأخيرة ، والانتشار الملفت للنظر لظاهرة التسول في شوارع وأسواق قطاع غزة ، وهو كما وسبق وأسلفت لم يشكل ظاهرة جديدة ولكنه أتخذ شكلاً ابتعد عن الشكل التقليدي الذي كنا نعرف به التسول والمتسولين سابقاً ، كما أنه لم يصل لدرجة الحديث عنه كظاهرة بل اقتصر على فئات معينة في المجتمع الفلسطيني ، هذه الفئات التي كانت تتميز بملامح ومواصفات معينة مثل :
أولاً: كبر السن للمتسول حيث إننا كنا لا نري سوي كبار السن ومن هم بمرحلة الشيخوخة .
ثانياً: معظم من كان يقوم بالتسول كانت تبدو عليهم مظاهر الإعاقة أو الفقر والحاجة والإصابة بأمراض معينة بصورة واضحة .
ثالثاً: عدم وجود مصدر دخل أو القدرة علي العمل .
رابعاً: كانت عبارة عن حالات فردية قليلة جدا وأحيانا تكون محصورة في أفراد معروفين للجميع .
أما التغيير الذي بدأ يلمس على ظاهرة التسول فهو تغيير انعكاسي كامل للحالات المذكورة سابقاً ، حيث بدأت تشاهد ظاهرة منتشرة في الأسواق الشعبية وبشكل ملفت للنظر وبأعداد لا بأس بها ، بل وتصادفهم في كل مكان أمام البنوك ، في المستشفيات ، وهناك من بدأ يأتيك لباب منزلك يطرقه للتسول وأهم التغيرات التي تلاحظ تتمثل في :
أولاً: صغر السن حيث أصبح العديد من المتسولين من صغار السن ومن هم بمقتبل العمر والأطفال.
ثانياً: البناء الجسماني والتكوين البدني للمتسول وهو ما يوحي لك بأنه لا يعاني من إعاقات وأمراض ، بل تشعر انه يتمتع ببناء جسماني وتكوين بدني سليم .
ثالثاً: العنصر النسوي الذي أصبح يشكل غالبية في هذه الفئة ، مع صغر السن للنساء المتسولات الذي يتراوح ما بين العشرينات والثلاثينات.
رابعاً: العامل الاقتصادي الذي يعيش فيه مجتمعنا الفلسطيني وخاصة قطاع غزة وهو الواقع الذي يرتبط تلقائيا بالعوامل السياسية والاجتماعية .
خامساً: اختلاف النظرة الاجتماعية للتسول حيث كان سابقا يعتبر من المحرمات والكبائر المطلقة ، بل ولدرجة العار وفقا لمعايير وعادات وتقاليد مجتمعنا الفلسطيني ، وهو ما شهد تراجعاً في هذه النظرة التي يمكن أن تكون قد شكلت مدخلا لظاهرة التسول هربا من الضغوطات الاقتصادية .
سادساً: التفكك الاجتماعي الذي حدث بالمجتمع الفلسطيني والذي أنتج غياباً لمفاهيم وقيم التضامن والتكافل ، والتعاضد ، والتلاحم ، وغياب مفهوم الجسد الاجتماعي الواحد .
" حسنة لله " ، " رزقني الله يرزقك" وكثير من العبارات والجمل التي تجدها أمامك من أيدي ممدودة لك تطلب المساعدة ، تصادفك أينما وليت وجهك وفي أي مكان ، هذه العبارات تجعلك تقف لحظات تتأمل قائلها ومرددها شباب بمقتبل العمر ، وأطفال صغار ، وفتيات ونساء من فئة الصبايا وصغار السن ، وكثيرا ما تجد هؤلاء النسوة محجبات أو يحملن أطفالا صغاراً لا يتعدي أكبرهم عامان أو ثلاثة .
من أين نبدأ ؟
اقتصاديا : لو ارتكزنا لهذا الجانب فمن السهل تفسير هذه الظاهرة ، والاستناد للمبررات التي سنخلص إليها وهي الحصار الشامل ، ومحدودية فرص العمل أو شبه انعدامها ، والغلاء الفاحش في الأسعار ، وتوقف التنمية الاقتصادية والمشاريع التنموية عن العمل ، الانهيار الصناعي والزراعي في غزة ، تحول مؤسسات المجتمع للأداء الاستهلاكي وعدم مبالاتها بالجوانب التنموية والإنتاجية .
وبإطلاله سريعة على المؤسسات المالية نجد أن معظمها إن لم يكن جميعها وخاصة البنوك منها تحولت لعبء علي المجتمع ، حيث اتخذت دور المؤسسات الاستهلاكية الربحية وتخلت عن دورها الاستثماري ، فالبنوك هي أكبر أدوات الاستثمار في أي مجتمع وهي القاعدة الأساسية للناتج الوطني في حين أن البنوك في فلسطين عامة وغزة خاصة أصبحت مؤسسات جباية لمدخرات المواطنين دون أي إنتاجية أو استثمار يعود لصالح المواطن والإنتاج المحلي ، فهي تكتفي بمنح القروض الفردية وفق خطة ربحية شاملة ودون أدني اعتبار للاستثمار تعتمد علي الفوائد البسيطة والمركبة في أرباحها ، مع عدم وجود أي ملامح استثمارية سواء طويلة الأمد أو قصيرة الأمد لهذه المؤسسات المالية ، وبالتالي انعدام دورها الاستثماري الوطني والفعلي ، وأصبحت تشكل عبئاً علي كاهل الاقتصاد الوطني بما أنها تجمع مدخرات المواطن والسيولة النقدية وتستثمرها في مناطق لا تحقق أي رفاهية اقتصادية لأصحابها ، وبالتالي حرمان المدخر من استثمار مدخراته لصالح رفاهيته الاقتصادية والصحية والاجتماعية .
أما المؤسسات والجمعيات الأهلية فبالنظر إليها في قطاع غزة ستجد أنها بأعداد كبيرة وبتخصصات متنوعة ، وبرامج تغطي كافة الفئات والشرائح الاجتماعية ، فمنها من يختص بالعمل الأهلي التنموي الشامل ، ومنها من يختص بتنمية المرأة والطفل والأسرة ، ومنها من يختص بالمعاقين ، واسر الشهداء ، والأسري ، والفقراء ..الخ ورغم ذلك فالظاهرة العامة أن هذه المؤسسات التي تعتبر رافداً للمجتمع ومكملا للدور الحكومي أصبحت هي نفسها من تمتهن التسول وتحترفه بأشكال محترفة ومتنوعة ، وتحولت من رافد اجتماعي وترفيهي للمجتمع إلي عبء يستنزف طاقات المجتمع ، ومصدراً من مصادر الفساد المالي والاجتماعي ، وأصبح من اسمي أهدافها وأهداف القائمين عليها التكرش وجني الثروات ، أو تقديم خدمات لفئة معينة مقربة منها ، وإخضاع المواطن لمعايير سياسية وحزبية لكي يستحق خدماتها ، بل وهناك العشرات من هذه المؤسسات والجمعيات من يتبني الفساد منهجا ويستغل هذه المشاريع للتلاعب بالقوانين وبالمجتمع .
سياسياً: المحور الثاني المرتبط بالمحور الاقتصادي وهو المحور الأهم هو المحور السياسي الذي يشكل رأس الهرم للمنظومة عامة ، هذه المنظومة التي ترتكز وتترابط اقتصاديا واجتماعيا لتشكل سويا الأضلاع الثلاثة للمثلث العام ، حيث شهد مجتمعنا الفلسطيني عامة وقطاع غزة خاصة انقسام سياسي حاد ومرعب ، تم من خلاله تقسيم وتصنيف المجتمع وفق الانتماء الحزبي الذي أصبح جواز المرور الوحيد المعترف فيه بعمليات التوظيف ، وتقديم الخدمات والمساعدات للمواطن ، وهو ما استفاد منه فئة متحزبة سياسيا سخرت إليها كل الإمكانيات التي تحصل عليها المؤسسات المحزبة سياسيا وتضع الانتماء كوسيلة للحصول علي مساعداتها وخدماتها ، في ظل ثقافة المحرمات التي تشترطها الأحزاب الفلسطينية ، هذه الثقافة التي أهملت نسبة غير قليلة من المجتمع وهي فئة المحايدين أو الغير منتمين حزبيا ووضعتهم أمام فوهة الفقر ، والحاجة ، والعوز .
هذه الثقافة الحزبية شكلت دافعاً لتناسي هذه الفئة وتهميشها بلا خدمات ، وبلا توظيف ، وبلا فرص عمل ، مما جعلها تعيش حالة الفقر الشديد والبحث عن أي وسيلة للعيش بعيدا عن السقوط في براثن المحرمات كالدعارة والمخدرات والجريمة …. الخ فالتجأت للتسول لكي تستطيع العيش بجزء من الكرامة .
إذن مجموعة من الأسباب التي ترتبط ببعضها البعض لتشكل مدخلاً للبحث في أسباب تفشي هذه الظاهرة العامة التي بدأت تشهدها أسواق وشوارع قطاع غزة .
وبعد استعراض للجانبين الاقتصادي والسياسي بشكل جزئي ومقتضب ، هناك الجانب الاجتماعي المرتبط جدليا بالجانبين الآخرين حيث أن ظاهرة التفكك للنسيج الاجتماعي الذي بدأ يلقي بنتائجه علي الحياة في المجتمع الفلسطيني من خلال غياب العادات والتقاليد التي ميزت مجتمعنا على مدار تاريخه ، ولكنها بدأت تتفكك وتغيب منذ قدوم السلطة الوطنية عام 1993م ووصلت ذروتها خلال انتفاضة الأقصى التي زادت من تشرذم وتفكك ، وتمزق النسيج الاجتماعي عامة في ظل ما سردته سابقا وهو الحزبية والتصنيف الحزبي الذي أصبح قانونا في المجتمع الفلسطيني ، وبناءاً علي هذا التصنيف تلاشت مميزات التضامن الاجتماعي ، والتعاضد ، والتلاحم .
وكذلك التغيير الذي طرأ علي البناء الأسري الذي كان يمتاز بالأسرة الممتدة التي استطاعت إكساب المجتمع الفلسطيني شخصية خاصة ذات مميزات ريفية قروية تجمع بين أركانها الحب والتواد ، والتلاحم والتماسك الاجتماعي ، حيث تحولت الأسرة الفلسطينية لأسرة نووية ممزقة الأوصال اكتسبت ملامح التمدن والتحضر ، وأصبحت تتميز بشخصية المدينة ومشكلاتها وتعقيداتها الاقتصادية والاجتماعية ، وافتقدت لأهم الصفات ألا وهي الصفات الاجتماعية التي كانت ترتكز في غرس التربية بالنشء بعادات وقيم اجتماعية أصيلة مصدرها ومنبعها الحب والتراحم .
مع هذا التغيير والابتعاد عن القيم والثقافات الأسرية الخاصة التي ارتكزت للأخلاق كمفهوم رئيسي في التربية ، طرأ كذلك تغيير علي دور التربية العلمية والمدارس حيث طال التغيير مناهجنا الفلسطينية التي تحولت لمناهج تحتوي علي الكم المعلوماتي فقط ، دون أدني اهتمام للتغيير النوعي في المعلومة وتجريد المنهج من التربية الوطنية الاجتماعية ، فأصبح النشء لا يخضع لعمليات التنشئة السليمة سواء في أسرته أو في مدرسته أو بمجتمعه بصفه عامة.
رغم ذلك فأن هذا لا يمكن أن يعتبر ظاهرة التسول ظاهرة غريبة عن مجتمعنا الفلسطيني أو ظاهرة دخيلة علينا ، أو تهويل لحجم الظاهرة ، ولكنها تأتي كمدخل يفتح باب الحوار والنقاش والدراسة لواقع جديد بل وظاهرة شهدت تحولا عما كانت عليه في السابق ، حيث كانت في السابق لا تشكل أي مشكلة اجتماعية بما إنها كانت حالات فردية بمواصفات معينة ، في حين أن الوضع الحالي يجعلنا نفتح الباب علي مصراعيه للوقوف أمام هذه الحالة التي بدأت تأخذ منحي وشكل هو الغريب ، مما يدفعنا لدق ناقوس الخطر الذي يحيط بإمكانية استغلال الظاهرة كوسيلة للهدم الاجتماعي ، وخاصة في المنظومة الأخلاقية ، والقيم والتقاليد والعادات التي يتمتع بها مجتمعنا الفلسطيني .
خاصة وأن الملاحظ انتشار هذه الظاهرة في العنصر النسوي وبأعمار سنية صغيرة جدا وهو ما يشكل مدخلا للاستغلال وتحويلها كظاهرة منظمة تستغل من الساقطين نفسياً وأخلاقياً لخلق حالات منظمة أو بشكل عصابات أو جماعات كما تشهد بعض المجتمعات الأخرى ، وعليه نتحول من دراستها كظاهرة فردية إلي ظاهرة جماعية تشكل خطراً على مستقبل الأجيال ، وعملية البناء الوطني عامة .
وهذا يتطلب منا جميعا ومن مؤسسات المجتمع المدني بشقيها الحكومي والأهلي اليقظة والتحرك الفعلي من خلال الدراسة العلمية لأسباب ومسببات هذه الظاهرة ووضع خطط العلاج المستندة للعملية وفق العديد من الأسس والقواعد من أهمها:
أولاً: ضرورة قيام المؤسسات المالية العاملة بالاستثمار الفعلي والحقيقي وتحويل مدخرات المواطن لوسيلة إنتاجية من خلال مشاريع تنموية قصيرة وطويلة الأجل ترتقي بالمواطن وبالاقتصاد المحلي والارتفاع بمستويات الدخل .
ثانياً: مراجعة القوانين المالية والتشغيلية الفلسطينية لتتمكن من علاج ظاهرة البطالة والاستثمار من خلال قوانين تحقق مردود إنتاجي ، حيث أن معظم عمليات التشغيل الحالية وخاصة في مجال البطالة تعتمد على منح المساعدات فقط وهي تفسح المجال للاستغلال والفساد ، وغياب الرقابة الفعلية.
ثالثاً: الرقابة الصارمة على مؤسسات المجتمع المدني التي تحولت لعبء على كاهل المجتمع الفلسطيني ، ومؤسسات ربحية الهدف منها الاستغلال والتكرش للقائمين عليها .
رابعاً: مراجعة علمية ودقيقة لقوانين الأحوال الشخصية التي تتناول واقع الأسرة والتربية ، وحقوق المرأة والشباب والأطفال والعمل بقوانين أكثر دينامية وفعالية.
خامساً: التركيز علي الشق التنموي في القطاع الأسري وتوجيه الأسرة لتأخذ دورها في العمل الإنتاجي وتحويلها من أسرة مستهلكة لأسرة منتجة.
هناك العديد من النقاط التي تحتاج لدراسة أكثر شمولية وموضوعية تستند لركائز علمية ، تخلص بتوصيات قابلة للتنفيذ لكي نستطيع الحد من مظاهر السقوط التي نحيا وسطها وتنتج لنا كل يوم شيء جديد.
إن مجتمعنا الفلسطيني يشهد هدماً للبناء الاجتماعي علي كافة الصعد ، وذلك نتاج فعلي لحالة التجاذبات السياسية التي فرضت علينا ، وأصبحت هي السائدة في حياتنا ، وما ظاهرة التسول سوي أحد تجليات هذا التجاذب الذي أهدر طاقات المجتمع وسخرها لخدمة أحزاب وفئات تنظيمية .
وأخيراً " هل نرحم المواطن الفلسطيني من أطماعنا الحزبية ؟!"
سامي الأخرس
18/9/2007
Aucun commentaire