Home»Régional»أحلام على الرصيف

أحلام على الرصيف

0
Shares
PinterestGoogle+

استفاق( مبكرا ) هذا الصباح ، رغم سهره لساعات متأخرة من الليل في (رأس الدرب). انتبه إلى الحائط ، حيث ساعة صينية الصنع معلقة بلا عناية، وعقاربها مثبتة بلا حراك. انتبه إلى الركن الأيسر ، هناك ساعة قديمة ، تشير إلى العاشرة . التفت يمينا ، كان فراش أخيه لا زال ملقيا بعبثية الأطفال في مكانه . انتبه من دون قصد إلى الركن المقابل، كانت أخته لا زالت نائمة هي الأخرى في هدوء، أو تتظاهر بذلك في كسل. كان نصفها الأسفل عاريا تقريبا. تأمله طويلا، جسد متكامل ، وشعر لا زال مرتبا بعناية ، كأنها لم تنم بعد. فكر في بنات كثيرات عرفن جيدا طريقا سريعا للتخلص من الفقر . سيارات وشقق وأزواج من كل الجنسيات. في الداخل والخارج. خطرت بباله أسماء بعينيها، ثم أحجم عن الاستمرار في التفكير. هاهو صوت الأم يسمع من بعيد في (رأس الدرب)، تجيب على أسئلة النساء حول أثمان الخضر في (سويقة). دخلت إلى الدار محملة بأكياس بلا ستيكية ، والعرق ينصب من جبينها. ومن دون أن يسألها أحد هذه المرة : " العافية في السوق… سعيد،… جميلة… واش مازالين ناعسين،.. العاشرة هادي!". قبل أن تدخل إلى البيت عرجت على المطبخ، وهي تدمدم مع نفسها، وكأن لا أحد يسمعها : " الله يسهل عليكم .. بناقص من هاد الجامعة ، ولا من هاد القراية… وشنو يجي منها ". حين دخلت ، كان هو قد غطى رأسه بالبطانية، أما جميلة ، فكان نصفها الآخر مازال عاريا. غطت ما كان عاريا من جسدها . تأملته ، ودعت لها دعاء لم يفهم منه شيئا. ثم غابت في المطبخ لتهيأ الفطور.

تناول فطوره كالعادة بسرعة ، ثم تأبط إجازته وبطالته ، وبضع دراهم منت بهم عليه أمه، وخرج لا يعرف اتجاها لطريقه. لكنه أصر مع نفسه على أن يحقق كل أحلامه هذا الصباح ، ولو على الرصيف !. فكر في أمكنة كثيرة وهو يلتوي مع دروب المدينة القديمة. أخيرا قرر الالتجاء إلى مقهاه المعتادة ، متمنيا أن لا يكون (المعلم) هناك. تردد قليلا، لكن ما أن تأكد من غياب السيارة، حتى تسلل إلى أقرب كرسي فارغ.

وكأنه كان هناك قبل أن يولد، صامتا شاردا يبحث عن نصفه الآخر. قليلا ما يجتمعان، إذا حضرت الجثة ،غائب الفكر. تائه في عالم ليس له ، يبسط جناحيه ويطير بعيدا. وحين يقترب من قرص الشمس ، ويحس بجناحيه يحترقان ، يعود لعالمه، أو لصمته. ينظر إلى فضاء غير مرئي . يحلل ويتمتم ، ثم يدفعه الحنين إلى الاغتراب. يطلق خياله للريح ، ويهيم على وجهه في الاتجاهات الأربع. هنا عملا ، هنا بطلا، وهناك لا شيء. وحين يمتلئ اغترابا ، وتضيق من حوله الكلمات، ينزل إلى عالمه الأرضي. يشير إلى بائع الكلمات المتقاطعة، والسجائر بالتقسيء، طفل ملائكي الملمح ، رمت به الأقدار إلى العالم السفلي ، لا يعرف أبا ولا وطنا إلا وطنه!. مغترب صغير اغتصبت فيه جماليته، فأصبح يحمل ملامح الكره والحقد والجنون. يناوله رقعة سلفا ، ثم ينحني ليفك ألغازا، ويملأ فراغا أكبر من فراغه. عملة صعبة ، سيارة فخمة، نجمة إغراء، عالم بلا هواء!. يتوقف لحظة ، ليتمعن خريطة غير واضحة المعالم ، لمستقبل على حافة الاغتراب. بقايا رغوة في فنجان قهوة لزبون عابر، وكأس فارغ كعالمه. وآخر لسائح طلبه فقط ، للتخلص من فراغ طاولته ، ثم أهمله ليتفرغ لأشياء أخرى." يا إلهي هم لا يتحملون الفراغ حتى فوق طاولاتهم على الرصيف !" . كم مرة فكر في الاستيلاء على مخلفات السياح!. أربعة كؤوس عصير ممتلئة ، لكن النادل يكون دائما بالمرصاد. هي معركة خفية بينه وبين النادل على الدوام ، رغم الهدوء النسبي المغشوش بينهما. كلاهما يعرف الآخر حق المعرفة. أبناء( الحومة) ، وصديقان قديمان، وينتميان لفيلق واحد (فوج 86). تمر أمامه الأشياء والأسماء، يحتار في تصنيفها. يعصر دماغه كقطعة إسفنج ، ليدرك أنها واحدة لوجوه متعددة . هو مطارد على الدوام من حقيقة تلازمه ، لكنها لا تنصفه. تمر أمامه الحروف تباعا، بألوانها الحمراء الفاقعة، تشكل عالما لا يطيقه، أو ترسم كابوسا يزعجه. في كل مرة يلقي عليها نظرة حزينة، ويكون مضطرا لتقديم التحية. ومن خلالها يتحدد مصيره، يستمر هناك، أو يرحل مبكرا. كانت رائحة البن الطرية ، ودخانها الأبيض المتصاعد من فنجان ساخن، لزبون جديد تزلزل كيانه ، تدغدغ خياشيمه، ثم تلقي به بعيدا ليحترق هناك. يتفحص بنظرات عابرة ، ملء عينين نائمتين، عابرين مبعثرين وغير مصنفين. فقر وجهل، بذخ وقلة حياء. يركب الصور بعضها ببعض ، ويصدر أحكاما، أقلها يدفعه نحو الجنون. لكن يموت النطق بالحكم بين شفتيه، ويصبح بلا قيمة، فيعود لتركيب الحياة من جديد.! نخلة وتمرة، شتاء وصيف، عابرون ، عابرون، عابرون. يتذكر كل الأسماء و الشهداء ، وحين يصل إليه، ينهي المشهد الأخير على إيقاع مؤلم ، ولون سياسي باهت. يتذكر أنه- أنهم ، مروا من هنا جميعا ، من هذا المكان، مقهى الأندلس. أو من هناك . ينسى التاريخ ،ويستمر وحيدا، كأنه لم يقرأ، ولم يفهم!. فكر كثيرا ونطق قليلا. " كل المصائب جاءتك من هناك". تلك القلعة (الحصينة) التي لم تعد تحصن أحدا. ( كسالى) لا يعرفون طريقهم للمجد. اختاروا طريقا مستقيما للمعرفة ، فأصبحوا لا يعرفون شيئا. حتى كيف يملئون فنجان قهوة على الرصيف.!

يا إلهي ، أ إلى هذا الحد، أصبحت عاجزا عن ملء فنجان قهوة!؟.

فكر في أصناف كثيرة، استنبتت حديثا بيننا. قوادون، سماسرة، مقاولون جدد، سياسيون أميون!…. فكر في أسماء كثيرة سبقته إلى هذا الكرسي ، لكن بفضل الحاج يرحمه الله ،أصبحوا موظفين بوجوه ناعمة، وجباه لامعة.

" كانت طرقات خفيفة على بابه الخشبي الممتلئ بالمسامير ، وبضع كلمات للاستجداء ، وانحناءة ضعف على يديه الرخوتين ،كافية لتجلسك على كرسي وثير في إحدى الإدارات! . وتضمن لك أجرا محترما. وها أنت اليوم بلا حاج، جالس معي كاليتيم! ".

يقول له الحاج (عمر) الذي لم يسبق له أن طاف بالكعبة. لكن تكرم عليه الناس بهذا (التشريف). غاب الحاج، وخفت وهج ذلك الإطار، و كتابته النحاسية!. إنه العهد الجديد. يصوب وجهته نحو الخلف. يصمت قليلا ، يشعل سيجارة ويقول للحاج عمر:

" كل المصائب جاءت من هناك، من تلك القلعة الحصينة، التي لم تعد تحصن أحدا!". ينشطر رأسه إلى شظايا، تتفرق على أطراف المدينة، يحاول عبثا تجميعها وتركيبها من جديد. يجد بعضا منها ، ويفشل في العثور على الأخرى. يستجمع ما تبقى من ذاكرته، ويفكر في نشر إعلان على صفحات الجرائد. ثم يهمس لجليسه الحاج (عمر) متقاعد عن العمل، كحمال في السوق القديم متهكما :

" من وجد شظايا دماغ ، فله منه الخمس…!".

فيرد عليه (الحاج) الذي لم يحج، بنكهة الأمي الذكي :

"(دماغ إنشتاين …؟!". ثم يطلق العنان لضحكة عجوز، يكاد لا يسمعها أحد.

يمد يده سهوا إلى الفنجان الفارغ ، بحثا عن قطرة يحلي بها ريقا ، بدأ يميل إلى المرارة. تكون من سوء حظه، قد سبقته نحلة إلى قعر الفنجان . يجمع يده، ويحول اتجاهها إلى رأسه، فيحك شعره، يتأمل المشهد من جديد، ويلوذ بالصمت.

ككل يوم بمقهى في المدينة القديمة ، ينظر إلى الغيمة الحمراء، المنتصبة أمامه ، يرى فيها خريطة وعلما، ثم أحلاما وإبهاما. يغيب لحظة ثم يعود ومعه امرأة وشاب، يتكلمان لغة أو لعنة. يدخنان ثم ينصرفان. ثم يغيب ثانية ، ليعود ومعه خامس وسادس وسابع. يثرثران، يضحكان، يتألمان ثم يصمتان. ينصرفون جميعهم، ويظل جالسا ينظر إلى كأسه الفارغ . يرسم منازل ومآذن، مدن وعمارات، سفن وبواخر. يقطع البر والبحر، ثم يستقر به الحال أمام طاولته يستضيف ذبابا عابرا ، ويتأمل كأسا فارغا.! يقتلع الأشجار ويزلزل المدن، وكل العمارات، يفجر كل السفن والبواخر ، ويتذكر طارقا قديما ، وطوارق جدد يحرقون بواخرهم، ويستنجدون بالبحر!. ثم ينتابه شعور يعيده إلى صوابه فتستوي خارطته من جديد. ينتظر ضيوفا آخرين محتملين لا يعرفهم، وأمامه فنجان فارغ كالعادة. ينظر إليه وإلى عالمه البئيس، يقرأ طالعه ، ويحلم بأشياء كثيرة. مرت أمامه الأولى ، ومعها أنيس متأخر بعض الشيء. نظر إليها ، ونظرت هي إلى أشياء أخرى . تخيل للحظات أنه هناك، بجانبها في الشانزيليزيه، وألغى الأنيس من المشهد. أغمض عينيه للحظات ، قبل أن يستفيق على غوغاء فوج من السياح ، لم يدرك ملامح جغرافيتهم. مرت الثانية ، كانت شقراء ناصعة البياض، نظر هو إلى حاضرهم ، ونظرت هي إلى ماضيه. ثم زاغ به الخيال إلى مقهى باريسي حالم ، ثم إلى فندق إيطالي ، قبل أن يقنع عاملا بحقل من حقول الكروم…!. فجأة لاح صاحب المقهى بسيارته الفارهة. أسرع النادل يمسح الطاولة على عجل!.

ماذا تشرب؟ المعلم جا…

غير شي شويا ونمشي… أرجوك…!

والله ما كايبغي….

ترك مكانه للفراغ ، وهو يلقي نظرته الأخيرة على الفنجان ، ثم على مؤخراتهن المكتنزات. وفي مخيلته أكثر من سيناريو جديد ، لأحلام قديمة. تذكر أخيرا انه سيظل هنا ، وهم عابرون…!

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. عكاشة البخيت
    13/08/2007 at 12:26

    مقيم وعابرون
    أحلام عابرة ، وزوارق عابرة، وسياح عابرون ، ولحظات فرح عابرة في سماء ملبدة بالغيوم،
    ما أقسى أن يموت الأنسان في صمت ، شباب ضائع ، وشواهد عليا أو سفلى تقود صاحبها إلى الهلاك ….ويسرح الرعاة والمتطفلون ويمرحون ويقررون ….ما أتعس الحياة أفواج من الخرجين
    عابرون في دهاليز اليتم والأحزان والأمواج الفتاكة …..إلى متى ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
    شكرا للكاتب على قصته الشيقة التي استمدت من واقعنا الأليم موضوعها وعالجت تيمة يعيشها
    أبناء المغاربة الفقراء تيمة الحزن والألم والإقصاء والتهميش ولي أخ معاق حاصل على الإجازة
    في الحقوق يحمل رسالة ملكية ولازال منتظرا وما أقسى الأنتظار…..!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!.

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *