قصة مغربين
رمضان مصباح الإدريسي
تقديم:
في أي مغرب نعيش الآن؟
هل هو مغرب واحد تتساوى فيه جميع الحظوظ؟ أم هو مغربان؛بقسمة ضيزى ؟
هل هذا الوطن يجري لمستقر له؛ بين الأمم الراقية أم المتخلفة ؟
أسئلة هربت بها من صخب المدينة, و من آلتها العملاقة ,التي تطحن الناس طحنا؛إلى أعالي القمم في قبيلتي؛حيث سكينة الخلق الأول ,وحيث يشعر الإنسان وكأنه ببراءة آدم قبل غواية الأنثى.
ميلاد ثنائية جديدة :
1.الوسط الحضري:
في سنة1996 قررت أن أحارب أميتي الرقمية؛بعد أن أشقاني الوعي بها لسنوات .
كيف ؛أبعد عشرات السنين من العصامية ,وبعد احتراق شباب غض, وكهولة عصية, في طلب العلم ؛أصل,في مستهل شيخوختي إلى هذه الحقيقة المرعبة ؛كما الجهل: أنت أمي رقمي يا رجل ؛وعلى أبواب عصر رقمي ,فهل تمضي فيه ودماغك حافي القدمين؟
ثم نفضت التراب عن آخر بنادق العصامية التي طمرت؛ وشرعت في إطلاق الرصاص على جهلي الرقمي,حيثما انحاش في تلافيف دماغي ؛وما توقفت حتى أجازني الشيخ « غيتس » و الشيخ غوغل ,ورحلت إلى غيرهما.
ميلادي الجديد هذا- ونحن في مستهل الثورة الرقمية لا غير- تم وعمري قاب قوسين من الخمسين.
اليوم ,وقد أكملت الستين ,حينما أتأمل محيطي- ممن هم في سني تقريبا,ومن طبقتي المتوسطة – من العائلة والأصدقاء والمعارف أكاد أعد على الأصابع من وقف مثلي, بباب الرقمية, واستشعر ضرورة اقتحامها بما استطاع من مادة رمادية مستنزفة,وبما فضل عن الطباشير من بصر.
يمكن أن أرتب على حالتي الخاصة ,هاته ,دون مجانبة الصواب كثيرا,الخلاصة الآتية :
قرابة التسعين في المائة من المغاربة الذين تتجاوز أعمارهم الستين عاما أميون رقميا؛ دون أن أتوقف عند من قبرته الأمية الأصلية وهو حي ؛وهي في بلادنا تتخذ صورة عجوز شمطاء لم يجف رحمها بعد.
كم من هؤلاء سيعيشون ما تبقى من أعمارهم ؛وهم لا يعرفون أنهم أميون رقميا ؟ كم منهم يعرفون لكنهم لا يجدون في أميتهم أدنى غضاضة؟ وأخيرا كم منهم بعزيمة قوية للخروج من الورطة, لكن يعوزهم السند؛أو يقعدهم الخجل من الجلوس للتعلم في خريف العمر؛وربما على أيادي تلامذتهم؟
في مقابل وضع هذا الجيل الذي أنتمي إليه ,أتوقف عند بعض حفدته الصغار(في حدود أربعة عشر ربيعا),ذكورا وإناثا؛فبعد زيارات لصفحاتهم في المواقع الاجتماعية وجدت أن لكل واحد أصدقاء كثر من المغرب ومن خارجه؛وقد أحصيت لأحدهم ما يزيد عن مائتي صديق من الجنسين.
يبقى أن نفكر في تفسير آخر للصداقة الرقمية(الافتراضية)؛ لأن ما تقدمه معاجم اللغة لم يعد يفي بمدلولها الجديد.
حاولت من خلال هذه العينة المحدودة أن أصل الى نسبة الأطفال « الرقميين » فوجدتها تتجاوز الأربعين في المائة؛أما
النسبة المتبقية فهي لأطفال من أسر لم تمتلك بعد أجهزة كومبيوتر ,إما لعدم توفر الإمكانيات المادية, أولعدم ارتقاء الوالدين ,ثقافيا,إلى مستوى استشعار هذه الحاجة.
أما شباب العائلة والأصدقاء والمعارف فيعكسون – تقريبا- نسبة الولوج الى الرقمية لدى الكهول والشيوخ:
تسعون في المائة, منهم, لهم حضور, وان كان متفاوتا, في الشبكة .وهم بين مهندس إعلامي متخصص ومدون و مجرد متمكن مبحر.
كم يلزم من الوقت , من البرامج التعليمية , ومن الإمكانيات, حتى تتغير هذه الخريطة الرقمية المحدودة, التي تعطي صورة ,ولو غير دقيقة, عن الواقع المغربي المعلومياتي ؟
إذا سلمنا- ولو بتعسف- بألا ضرر على الوطن, وبرامج التنمية, من شريحة الشيوخ باعتبارها في آخر العمر ؛فهل يعقل أن نترك شريحتي الأطفال والشباب ,المحرومتين من ولوج الرقمية , وبالتالي الحداثة,تواجهان مصيرهما المظلم ؛وهو في الحقيقة مصير وطن يرى نسبة مهمة من بناته وأبنائه خارج التغطية التنموية ؛بمفهومها الحداثي القائم ,أساسا,على الملتيميديا؟
2الوسط القروي:
في جماعة قروية يصل عدد ساكنتها إلى أربعة آلاف نسمة( جماعة مستفركي:وجدة) تكاد لا تعثر إلا على كومبيوترات لا تتجاوز الخمسة ,في حوزة الأفراد والإدارة.
وعليه فلا مجال ,في ما يخص المقيمين بالقرية, للحديث عن الوضع الرقمي لساكنة تتجاوز فيها نسبة الأمية الرقم الوطني بكثير. ونظرا لصعوبة الارتباط بالانترنيت يلتحق بعزلة هؤلاء حتى الوافدون.
أسجل بعض التحول في العقليات,خصوصا الاهتمام بالشأن السياسي الوطني والعربي ,نتيجة وصول الكهرباء ,واستفادة العديد من الأسر من البث التلفزي الفضائي.
وتظل كثيرة العائلات التي لا قدرة لها على الاستفادة من الكهرباء ,ولا أجهزة تلفزية لديها ,حتى من الجيل الأول (الأبيض والأسود).
تصوروا الآن مدى التباعد الذي يمكن أن يحصل بين اهتمامات مكونات هذه الشريحة الاجتماعية المحدودة جدا.
هذا التباعد يشكل مدخلا إلى ثنائية جديدة تنضاف إلى الثنائية الأصلية(= بادية ,مدينة) التي تعيق التنمية؛انها ثنائية
الرقمية والورقية: الولوج إلى عصر الوسائط التواصلية المتعددة- وعلى رأسها الانترنيت- وعدمه.
توزيع الثروة ؛أصل المشكل أم نتيجة له؟
ثنائية الغنى والفقر أزلية ؛بدأت مع الإنسان اللاقط ,حينما استقر وتعلم أن يدخر.لم يستطع أي نظام اقتصادي,قديم أو حديث ,مهما نحا نحو العدالة الاجتماعية,أن يضع حدا لهذه الثنائية ؛ربما لأنها شرط لحصول الحراك الإنساني والتنافس.ولعل سعي الشيوعية لخلق مجتمع متجانس ؛الناس فيه سواسية, مالا وفكرا ونوازع ,هو اللبنة المغشوشة التي هدت الصرح الإيديولوجي كله.
حتى الأديان تقوم في جانب مهم منها على استثمار هذه الثنائية؛ لتصريف جانب من الأمر بالخير والنهي عن الشر ؛وترتيب الجزاء والعقاب.لو تساوت حظوظ الثروة بين الجميع لتعطلت العديد من الشرائع ,ولدخل الكثير من الفقه إلى العطالة: باب الصدقات مثلا؛أو بعضه.
هذه سنة لله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
يبقى أن الأنظمة الاقتصادية الأكثر عدالة ؛حتى وهي تشجع الثري على أن يزداد ثراء ,وضعت حدا أدنى للفقر لا تقبل
بما دونه.مراعية حاجيات الإنسان الأساسية التي ,إن ضيق عليه فيها ,فقد حتى كرامته.
في المغرب جرت على الألسن منذ القديم عبارة » الله يزيده » إعلانا بقبول وضع اقتصادي يشجع نمو الثروة لكن دون أن يكون ذلك على حساب حاجيات الفقراء الأساسية ؛ودون أن توضع في طريقهم حواجز تحول دون رقيهم الاقتصادي.
حتى الاستقلال ,كمطلب سياسي,اشتغل في أذهان المغاربة- بتأطير من الحركة الوطنية- اشتغالا اقتصاديا أيضا.
حكاية العشرة دراهم الفوسفاطية التي سيجدها كل مغربي- في زمن الحرية- تحت وسادته, في كل صباح, معروفة لدى جيل هذه المرحلة.
بل حتى تعليم الأبناء أجلته العديد من الأسر الشعبية- بتأطير مغرض من بعض تيارات الحركة الوطنية- الى ما بعد الاستقلال .
العالم القروي :الضحية الأولى للمغرب المستقل
من مهد للمقاومة الشرسة للمستعمر الى حاضنة لأقسى درجات الفقر والتخلف؛لأن جميع البرامج التنموية – منذ الحكومة الأولى- اتجهت صوب المدن ؛حيث الطلب الملحاح؛خصوصا والعالم القروي لا يطالب بشيء ؛اذ ألف منذ الأزل ألا ينتظر الغيث إلا من السماء. لم يكن المسؤولون – وهم مدينيون في أغلبهم- يقدرون العواقب الوخيمة للهجرة صوب المدن, من مناطق جعلوها طاردة. ولم يكونوا يدركون أن مشاكل المدن تحل في البوادي.
إذن توفر ت كل الشروط لميلاد مغرب قروي فقير لانعدام كل البنيات الاقتصادية التحتية .
دشن المقاومة في قبيلتي القائد بلعيد-وبين يدي الوثائق الفرنسية الشاهدة-وقد اعتقلته قوة عسكرية و حوكم وغرب دون رجعة منذ سنة 1916
تصوروا لم تصل الكهرباء إلى قريتي هذه إلا في سنة 1998؛وحينما وصلت كانت بعض الدواوير قاعا صفصفا.لقد مل أصحابها الانتظار فهاجروا.
ولم يصل إليها أي مسؤول برتبة وزير أبدا ؛حتى زارها جلالة الملك محمد السادس سنة2005. هذا مجرد مثال على الأخطاء التنموية التي أعقبت الاستقلال ,والتي أفضت إلى مغرب قروي صنعنا عاهاته .
وعليه فحينما يتعلق الأمر اليوم بتصنيف المغرب,من حيث الولوجية الرقمية,إلى مغربين لا نستغرب أن تتمرد علينا الثنائية الأصلية- نتيجة التفقير- ,وتكبح جماح طموحنا إلى الحداثة.
إن العالم القروي هنا يعض, ليس على « الورقية » بل على الأمية الشمطاء بالنواجذ؛وهي تتغذى على الهدر المدرسي لتقوى على مزيد من الولادة.
ان العالم القروي –فقيرا أو غنيا- لم يرق بعد ليصبح موضوعا لسؤال الرقمية والحداثة عموما.
تعثر الولوج الرقمي في المدينة:
لا أنكر أن دمقرطة هذا الولوج قطعت شوطا مهما:
في سنة 1996 اقتنيت حاسوبي الأول –بونتيوم3- بحوالي 8000د
في 2006 أصبح الثمن لا يتجاوز 5000د. في الأسواق ,حاليا,حواسب محمولة صغيرة ب2000د.
انخراطي الأول في انترنيت اتصالات المغرب(1996) كان يكلفني شهريا حوالي 1000د.كل انقطاع للاتصال ومعاودته كان يكلف 80سنتيما؛مما كان يبغض لي الشبكة, ويضخم الفاتورة.
اليوم يكلف شهر من الارتباط ؛اللامحدود,200د فقط.بعض المقاهي الراقية توفر الخدمة الرقمية مجانا.
ورغم كل هذا ؛ومن خلال العينة التي ذكرت,يتضح أن على جميع الفرقاء المعنيين بذل المزيد من الجهود حتى يدخل الحاسوب إلى كل بيت.
إن بالمغرب اليوم ,من الهواتف المحمولة,ما يفوق عدد الأسر بكثير ؛وهذا راجع إلى ماركيتينغ ذكي عرف كيف يستثمر في ثرثرة شعوب الأبيض المتوسط ,ومنها المغرب. ماركتينغ عرف كيف يخلق الحاجة؛ والإدمان على اشباعها.
في تنفيذ برنامج المغرب الأخضر ينادي السيد أخنوش بجعل سنة 2012سنة المليون شجرة زيتون. هذا مهم ,فيما يخص خلق مصادر الثروة في العالم القروي . وفي نفس الوقت يبشر برنامج « رميد » بتسهيل ولوج الفقراء إلى الخدمات الصحية ؛وهذا بدوره مهم جدا.
لكن ماذا بالنسبة للمغرب الرقمي ؟ للأمن الرقمي؟هل من مناد بخمسة ملايين حاسب فقط ؛تدخل إلى البيوت,المرشحة تباعا للرقمية, في كل سنة؟
يمكن لأثريائنا « الدوليين » أن يساعدوا ؛ولو بزكاة تتخذ وجهة جديدة,خارج مصارفها المعروفة.يمكن لفعاليات المجتمع المدني والأبناك والشركات أن يكون لها دور في « توريطنا » في هذه الحداثة.
إن المال « عصب الحرب » كما قال نابوليون؛إضافة طبعا للتكوين ؛وفي جميع الحالات يظل الاستثمار في المعلوميات منتجا للثروة أيضا؛ في عصر اقتصاد المعرفة.
رهان الحكومة الالكترونية:
لم يرسم بعد كرهان يجب كسبه في زمن محدد ؛ربما لشراسة البيروقراطية في إدارتنا ؛وقد ورثناها,عن المستعمر, بكل شحنتها المنتقصة من قدر المواطن المغربي. لا يدري العديد من الموظفين الإداريين أنهم ,بازدرائهم للمواطن,يعيدون إنتاج سلوك استعماري عانى منه آباؤهم وأجدادهم.
ربما, أيضا ,لطوباويته في مغرب ,تتحالف ضد رقيه الأمية الأبجدية والأمية الرقمية ؛وتأبى الورقية أن تنزاح من مواقعها.
قبل تحديد هذا الرهان ,ضمن الأولويات- رغم نجاح بعض التجارب المحدودة- لا بد من تأهيل المواطنين ليكونوا خير شعب الكتروني لخير حكومة..
إن نجاح مثل هذا الرهان لا يتم بمعزل عن استنبات قيم الحداثة ,في شتى المشاتل الاجتماعية ؛ومن المعروف أن صرح القيم هو أعلى وأسمى وأقدم صرح إنساني ,يتواصل بناؤه منذ الأزل ؛وتلتقي فيه,وحوله, جهود جميع الشرائع والأديان والأنبياء وسائر المصلحين . ومن يتوهم اليوم أنه سلفي فقط أوعلماني فقط ,وحتى ملحد وكفى ؛يضيق شاسعا واسعا شامخا . إننا لا نرقى إلا بمراقي هذا الصرح ؛كما تصمد وكما تتطور نحو الأصلح الذي له البقاء .
إن توفر شروط الولوج إلى الحداثة العولمية – وهي بالمفرد- من شأنه تصحيح خريطة المغربين؛ لتصبح خريطة مغرب واحد ؛يتفاوت فيه الناس معرفة وثراء,وتتعدد رؤاهم؛ لكن دون مواطنين في الدرك الأسفل ؛ لا يعرفون من أمرهم سوى أنهم هنا في هذا الوطن,صدفة, يعبرونه ,طيلة حياتهم الأرضية,دون طموح إلى وضعية أرقى.
وكما أن الدول تتحول, بدون رهانات ومشاريع مجتمعية حضارية, إلى مجرد سفن عابرة ,يتكدس فيها الناس كما اتفق ؛دون حتى معرفة وجهتها ؛فكذلك الأفراد؛تصبح حياتهم بدون معنى, إذا جففت منابع الحرية في نفوسهم –هم الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا- و امتهنت كرامتهم ؛وهي عطاء من الله » وكرمنا بني آدم »؛وحرموا من الطموح والحلم؛وهما لا يفارقان نومهم ويقظتهم ؛سنة من الله.
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire