المقامات الدفية : الدف الواحد والعشرون – الرجل الذي نبح سهوا .
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن لَبيباً من فائضي الفهم ، يُعْرَفُ بِبَليلِ اللسان والشحم ، عليلِ الإقدامِ والعزم ، قرر أن يتعلم فنَّ الصياح ، من الأبواق الصحاح ، ولما حلَّ موسمُ اللقاح ، نبَّهَهُ أحدُ الفضوليين الكبار ، أن يُحْسنَ التمييز والاختيار ، بين إسْهالِ الكلام والاجترار .فأشار عليه بتجريب جميع الأصوات ، المُجَرَّبَةِ في الأحياء والأموات ، من هَديل ونقيق ، ونباح ونهيق ، وصهيل وزعيق ، مع كل زفرة وشهيق . وأن يتدرب على كل خوار وثغاء ، وصرير ومواء ، وصياح وعواء .وعوض شراء كل هذه الأصوات بالتقسيط ، اقترح عليه أحد الفضوليين المحنكين في التنشيط ، شراء الحناجر جملة واحدة ، لِما لها من نفع وفائدة . أحضرَ صاحبُنا أمهرَ الميكانيكيين ، وأكبرَ المهندسين الفنيين . ولما حقَّقوا في الأمر ، واكتشفوا ما به من سر ، نصحه أحدُهم بشراء الحناجر بحلاقيمها ، حتى يحافظ على تصاميمها . وطيلة شهرين ونيف ، وبعد جهد مكلف ، أحضر صاحبُنا الطلبَ المطلوب، واستدعى الميكانيكيَ الموهوب، لينظر الأمرَ المكتوب . جاء الميكانيكيُ وكلُّه مَفْخَرَة ، وزرع خلايا نُباحية في كل حنْجَرَة ، ثم نظر الأمرَ فَقَلَّبَ ، فَكَّكَ فأخْلَطَ فَرَكَّبَ ، حسبَ تَصْميمِه فَعَلَّبَ ، ثم سقاها بعد أن جَرَّبَ ، وتركها تجف أسبوعا وقليلا ، ورأى صاحبنا ذلك صنعا جليلا ، سيعطيه نباحا نبيحا أصيلا . ولما انقضى أَجَلُ الأسبوع ، رَكَّبَ الحلقوم المصنوع ، وخرج به إلى أطراف المدينة ، ليجرب ما به من أصوات دفينة ، فعاش بين وبر وصوف وريش ، ما قُدِّرَ له أن يعيش ، حتى إذا اشتد عود نباحه ، واستوى ليله بصباحه ، عاد إلى المدينة بعزم وإصرار ، ليقتحم السوق بكل افتخار، فصوته جاهز لمن يكرم كثيرا ، وسيحول ما عَسُرَ يسيرا ، وما مرت إلا برهة قصيرة ، حتى تحلقت حوله جماعات كثيرة ، تضم ما اختلف من العباد ، جاءت من كل أرض وبلاد ، لتسمع عويل الرفض والعناد . ارتاد المكانَ كلُّ الثرثارين والبراحين والحلابين والسفاحين والهجائين والمداحين والنباشين والنباحين والصباغين والسباحين والضحاكين والنواحين ، وتوسطهم صاحبنا مادحا ، تارة يغني مازحا، وتارة يصرخ جارحا . وفي لحظة اشتد فيها اللغط ، واختلط فيها الجد والبسط ، وغاب فيها العقد والربط ، دعا أحدُ الفضوليين الجمعَ للاستماع ، يما ستجود به حنجرة الاصطناع ، من صوت لا يُشْتَرى ولا يُباع ، فتقدم مسرعا إلى الأمام ، ومن خلفه الخواص والعوام ، داعين لصاحب نعمته بالتمام ، على مر السنين والأيام .
انضم إلى الجمع كل البائعين والمتسوقين والنازلين والمتسلقين والكارهين والمتشوقين والمنفصلين والمتعلقين والغاضين والمبرققين والجريئين والمتملقين . نادى نابحا في الجمع ، أن هلموا إلى النبع ، ونقر على دَفِّهِ ثلاثاً ، وهو ينفث فيه نفاثاً ، حتى خرج منه فم بلسان طويل ، ويد بحجم خرطوم الفيل ، فكثُر حول ذلك القال والقيل . بعد أيام معدودة ، أصبحت الناس إليه مشدودة ، وضمن هو مزيدا من العطاء ، وصار صياحه يصدح في الهواء وملأ كل أرجاء الخلاء . حقق صاحبنا بذلك أموالا طائلة ، والأصوات لولي نعمته مائلة . فتح دكانا لتعليم الصياح ، ارتاده أهل الطلاح والصلاح ، لبيع وشراء الحناجر المستعملة ، والبث في المصالح المستعجلة . ولما حلت الأيام الملاح ، استدعي من أهل الفلاح ، لإقامة مهرجان الصياح . تجمع الناس من حوله ، منصتين متمعنين في قوله ، صاح بملء حنجرته وفيه ، يلعن ويشتم كل سفيه ، ويتغنى بخصال معافيه . علا الصياح في عنان السماء ، منشدا الخير والنماء ، واتسعت حنجرته لتنطق بتسعة أصوات ، ثلاثة للأحياء وستة للأموات ، وفي كل صوت تسع نغمات ، وفي كل نغمة تسع نسمات . وفي رواية بعض الفضوليين ، أن حنجرة صاحبنا تطاير منها فتات أصفر ، ورذاذ وريق أحمر ، التصق بحناجر الحاضرين ، وأصبحوا من الشاكرين ، أما صاحبنا فقد نتأ من رأسه حجر ، ونبت في جسمه صوف ووبر ، وسقطت كسوته كسحابة رماد ، التصقت حباته بكل حي وجماد ، وأحس بيد تمتد نحوه مفزوعة ، لتنزع حنجرته المزروعة ، فما أن لامست طرفا مستورا ، حتى أفاق من نومه مذعورا ، تمعن في وجه زوجه كثيرا ، وحاول أن يصرخ في وجهها كشيرا ، لكنه ما وجد في حنجرته إلا شخيرا ، فأخرج من تحت فراشه دلوا ، تقيأ فيه ما ركبه من أصوات سهوا ، حتى امتلأ الدلو بالصياح ، لا يفرق فيه بين العويل والنباح . أفرغ محتوى الدلو في ثقب المرحاض ، فاحتضنته مجاري الأمراض ، وانتشر النباح في كل الأعراض . وفي رواية أخرى أن صاحبنا لما تخلص من كل الأصوات أراد أن ينادي على أبنائه لكنه نبح سهوا ، فأدرك السر توا، ثم نبح ثلاث مرات ومات .
يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
Aucun commentaire