مواقف ،أو مذكرات مدرس
مواقف (6)
بشهر وبضعة أيام ، قبل قدوم خديجة ، والتي ستقضي تماما على النوم الهادئ والعميق لأبويها ، وتدخل البهجة إلى قلبي جدها وجدتها ، والسرور على أعمامها وعمتها ، وخاليها وخالاتها ، كنت مع صديق لي ، تعودنا ، بعد أن نضج كلانا وأصبحنا مسؤولين وتركنا لعب الورق ، على قضاء ما تيسر من وقت ليلتي آخر الأسبوع في لعب الشطرنج ، في مقهى جميل ، لاصغير ولاكبير ، يواجه باب المدينة القديمة الغربي ، ويبعد عنه بعدة أمتار .
كنا نجلس ساعة أو ساعتين ، أو أكثر من ذلك ، كل أسبوع ، نريض عقولنا، ونحتسي مرة قهوة سوداء ، ومرات نطلبها متسخة بشيء من الحليب ، وقد نعدل إلى المشروب الغازي أو نضيفه إذا ارتفعت الحرارة واشتد الظمأ ، ولا تنفك يدانا ، إلا قليلا ، عن سجائر التبغ .
كنا ندخن ، وأكثرنا من التدخين ذلك اليوم ، إلى أن نفذت علبتانا معا . نزلنا من الطابق العلوي ، حيث كان مجلسنا المفضل ، وقطعنا الطريق إلى كشك قريب ، بعد أن تركنا القطع والمشروبات تنتظرنا على الطاولة .
وضع الصديق مصطفى يده على كتفي ، بعد أن صرنا على بعد أمتار معدودة من بائع السجائر ، ونظر في وجهي مليا ثم قال : لوكانت مصلحة مهمة ما تركنا ، نحن الإثنين ، المقهى ونزلنا نسرع الخطى من أجلها ؛ إنها السجائر تجر صاحبها ، هكذا ، كالكلب .
أمسكت العلبة ، بعد أن دفعت ثمنها ، وقلت : ياصاحبي ، إنها الأخيرة ، فإما رجل وإما كما تفضلت وقلت .
هو كذلك ، قال بعد أن أشعل سيجارة ، أصفر لونها ، ثم اشترط ، بعد أن عدنا إلى مجلسنا سالمين ، واقتربت اللعبة على الانتهاء ، أنه من زاد ، منا ، على علبته ، دفع ثمن غذاء أو عشاء ، في مطعم ، قرب المدينة ، معروف بتقديم وجبات الشواء .
كانت الأخيرة ، تركت منها سيجارة واحدة ، وضعتها على طاولة في غرفة مسكن ، من البناء المفكك ، انتقلت إليه ، بعد أن تحسنت الأحوال ، رفقة خمسة من الأساتذة الشبان .
كنت كلما أحسست بالرغبة الشديدة في ملء صدري بدخانها ، أمررها قرب أنفي ، أشم رائحتها ، وأقسم بأغلظ الأيمان أن لن أكون ما نعتنا به الصديق أكرمه الله .
تركت التدخين ، غير آسف ، وعاد إليه مصطفى بعد مدة قصيرة . لم أطالبه ، لا بالغذاء ولا بالعشاء ، تمنيت فقط ، وما أزال ، أن تقوى عزيمته ويكبر إصراره ، فيتخلص منه ومن سمومه .
أصبح للأكل طعم ، غير الذي كان ، وعليه إقبال أكبر من الذي كان ، و أصبح للرائحة الزكية والطيب وقع أكبر على النفس مما كان .
كنت أمسك خديجة ألاعبها وأقبلها ، دون خوف من إيذائها برائحة كريهة ، في الفم كما في اللباس ، لم أعد أطيقها ولا الجلوس في المقاهي بسببها . كنت أتحاشى الوقوف إلى جنب المدخنين في صفوف الصلاة ، وأبحث ، في الولائم والمناسبات ، عن جليس ، أتوسم فيه ، من خلال لون الشفتين ، خيرا ورفقا .
سيكثر الصراخ ، بعد أقل من سنة ، في بيتنا ، وتجد البكر رفيقة لها ، تلعب بها ومعها ، تعينها وتتناوب معها على حرماني وأمهما من نوم مسترسل ، طويل أو قصير ، في الشتاء كما في الصيف .
ازدادت فرحة العائلة بهما ، وازدادت أعبائي ومتاعب أمهما . كنت أقضي ليلتين في الأسبوع ، وجميع أيام العطل المدرسية ، معهما ، أضحك لضحكهما وأفرح لفرحهما ، وغاية السعادة أسعد لرؤيتهما تكبران ؛ ألاحظ مسارعة الصاحبة لتلبية حاجاتهما ، وأعجب لصبرها ، مع ضجرها ، من بكائهما وكثرة مطالبهما .
عرفت منذئذ السر في وضع الله الجنة تحت أقدام الأمهات .
يتبع
Aucun commentaire