خواطر من قلب شمال المغرب
عدت من رحلة إلى شمال المغرب بدايتها من طنجة عاصمة البوغاز التي كانت ذات يوم منطقة دولية لازالت أثارها بادية للعيان سواء من حيث الطابع المعماري الذي يزخر بتنوع يؤرخ لحضارة عريقة سمتها الحسن و الجمال والذوق الرفيع زادتها روعة الطبيعة جاذبية وبهاء ا, وللبحر أسرارا لدى الطانجويين كما هو الشأن لمغارة هرقل الذي تحارب مع أطلس وفصل القارة الاروبية عن شمال إفريقيا في أسطورة شبيهة بملحمة الإلياذة و الاوديسا .
ومغارته هاته الواقعة بالمكان المسمى » اشقار » تحولت إلى مزار يؤمه السياح للتأمل في منحوتات العوامل الطبيعية وما فعله الدهر في صخور فصلت على شكل بيوت سكنها إنسان الكهوف و المغاوير حسب الاركيولوجيين . فالبحر حاضر في الذاكرة من خلال الغزاة الذين كانوا ينفذون غاراتهم ويقصفون من بوارجهم المواقع الإستراتيجية , كما أن طارق بن زياد عبر المضيق الذي يحمل اسمه إلى الضفة الأخرى فاتحا ,فلا زال صدى خطبته يتردد » البحر من ورائكم والعدو أمامكم …. » . والبحر هو أيضا مصدر عيش الساكنة المحلية وللبحارة قصص ومغامرات في ركوب الموج واصطياد الأسماك والحيتان , وتسخير الفلك بحثا عن الرزق في أحشاء البحر حيث الدر كامن .
وفي منظر بانورامي يعانق البحر سلسلة جبال الريف المكسوة بغابة كثيفة يلتقي اخضرارها بزرقة البحر والسماء في لوحة رومانسية شاعرية عجزت ريشة بيكاسو عن رسمها ,إنها هبة الطبيعة تزيد المتأمل فيها إيمانا بعظمة الخالق سبحانه .
سحر المكان اسر العديد من الكتاب والأدباء العالميين الذين سقطوا في عشق طنجة واستقروا بها أمثال بول بولز ,تينسي ويليامز ,الطاهر بن جلون ,محمد شكري وغيرهم.
من طنجة إلى القصر الصغير على الطريق الشاطئية تتوالى المناظر الخلابة ,شواطئ ذات رمال ذهبية تعج بمصطافين يتمتعون بالسباحة في عز فصل صيف قائظ لا تطفئ لهيبه إلا مياه البحر الأبيض المتوسط المشهود لها بالجودة والصفاء.
وأنت تتابع طريقك تطالعك اوراش ميناء طنجة المتوسطي ,احد اكبر الموانئ إفريقيا وعربيا ,منشاة اقتصادية هامة تساهم في خلق رواج تجاري من خلال نقل البضائع والأشخاص في اتجاه اروبا ,إنها إحدى منجزات عهد الملك محمد السادس في إطار برنامج تنمية وتأهيل أقاليم شمال المملكة التي عانت لفترة طويلة من التهميش واللامبالاة .
الطريق الساحلية الممتدة من طنجة إلى السعيدية شقت وسط الجبال بمحاذاة البحر مما يجعل منها طريقا سياحية بامتياز جاءت لفك العزلة على المنطقة الريفية التي لم تحظ بمثل هاته المشاريع في عهد الاستعمار الاسباني الذي عانى الأمرين على يد المقاومين الأشاوس تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي بطل معركة أنوال التاريخية .
وبعد الاقتراب من مدينة الفنيدق ومن أعلى المنعرجات تظهر مدينة سبتة السليبة ببناياتها وأزقتها ومحيطها المسيج بالأسلاك الشائكة ,شاهدة على بقايا الاستعمار الاسباني في القرن الواحد والعشرين ,منطق لا يقبله العقل ذلك الذي تنهجه اسبانيا في التعاطي مع ملف سبتة و مليلية والجزر الجعفرية ,فالجغرافيا تؤكد انتماء هذه المواقع للتراب المغربي وهذا ما يلاحظه الزائر للمنطقة بالعين المجردة وقد سبق لسائح أجنبي أن صرح لي لدى وقوفنا بعين المكان بان الاحتلال الاسباني ليس له أي مبرر لأنه لا التاريخ ولا الجغرافيا يبيحان لها الاستمرار في احتلال أراضي مغربية تقع خارج القارة العجوز في خرق سافر للمواثيق والقوانين الدولية .
وغير بعيد عن هذا المكان توجد قرية مغربية اسمها بن يونش ,الوصول إليها يمر عبر طريق جبلية كثيرة المنعرجات تفضي إلى شاطئ صخري في غاية الجمال يرتاده هواة الصيد بالقصبة ومحبي العزلة و الهدوء والسكون , ومن هناك تتراى لك صخرة كبيرة على شكل شبه جزيرة تسكنها الطيور والحيوانات لا اثر فيها للإنسان و لا تصلح للاستغلال لطبيعتها الصخرية ويمكن الوصول إليها سباحة من الجانب المغربي ,إنها الجزيرة المسماة ليلى أو المعدنوس التي كادت أن تشعل حربا بين البلدين الجارين في السنين الأخيرة بسبب طيش رئيس الحكومة الاسبانية آنذاك خوسي ماريا أزنار سيء الذكر لولا حكمة ملك المغرب ووساطة الدول الصديقة. انه مكر التاريخ يعيد نفسه على أبواب الاتحاد الاروبي فضاء الحرية و الايخاء والمساواة . فقد آن الأوان أن تتحرر اسبانيا من العقلية الاستعمارية ,وان تفتح حوارا جادا مع المغرب في شان مستقبل سبتة و مليلية وباقي الجزر المحتلة التي لا احد ينكر مغربيتها, وعلى الرباط ممارسة المزيد من الضغوط لتحقيق جلاء الأسبان من الثغور المحتلة التي تشكل أخر المستعمرات الاروبية بالقارة الإفريقية .
وإذا كانت سبتة ترزح تحت نير الاستعمار البغيض ,فان الاقتصاد المغربي متضرر من التهريب الذي ينشط انطلاقا منها ,ويعم مدن الشمال المغربي ويصل إلى مدن الداخل ,ورغم مساهمته نسبيا في التشغيل فان أثاره كارثية على الاقتصاد الوطني ,وعلى صحة المستهلك بسبب عرض المواد الغذائية المنتهية الصلاحية وفي ظروف غير عادية.
وهذه الظاهرة تنتشر بكثرة على الشريط الممتد من باب سبتة إلى تطوان مرورا بالفنيدق والمضيق ومارتيل ,
زبناؤها يفدون افردا وجماعات خاصة في فصل الصيف و أثناء العطل للتبضع والسياحة ضاربين عصفورين بحجر واحد .
يلاحظ الزوار بان هذه المنطقة حظيت في السنين الأخيرة باهتمام بالغ ورعاية ملكية سامية جعلت منها قطبا سياحيا يضاهي شواطئ ومنتجعات الجنوب الاسباني مثل مربيا وطوري مولينوس وكوسطا ديل صول …
فوجود الفنادق الراقية والاقامات والموانئ الترفيهية والشواطئ النظيفة على طول الساحل المتوسطي وتوفر التجهيزات الأساسية و البنية التحتية المتينة,جعل منه قبلة مفضلة للسياح وطنيين وأجانب تبلغ ذروتها في شهر غشت رغم تزامنه هذه السنة مع شهر رمضان الفضيل الذي يتميز بطقوس روحية خاصة ,فبعد الانتهاء من العبادات , يتحول الليل إلى فضاء للسمر ,فتغص الحدائق والمنتزهات والمقاهي والمطاعم المطلة على البحر بعشاق السهر في أجواء عائلية حميمية تمتد إلى وقت السحور ,كما يلجا البعض للبحر بحثا عن هواء منعش وسط الرمال الذهبية و هدير الأمواج المتلاطمة والسباحة تحت الأضواء الكاشفة التي نصبت بالشواطئ لتصل ليلها بنهارها في منظر رائع .
وفي رحلة العودة إلى طنجة مرورا بالحمامة البيضاء تطوان ذات البنايات الشاهقة و المآثر التاريخية الشامخة والشوارع الفسيحة التي ضاقت بما رحبت بفعل حركة المرور والازدحام الذي أصبح قاعدة لا استثناءا ,يحمل الزائر على اختصار زيارته لهذه المدينة الجميلة وفي نفسه شيء من حتى ,خاصة إذا لم يجد موقفا ليركن به سيارته ,وهذه معضلة ينبغي التفكير في إيجاد حل لها في ظل التوسع العمراني السريع الذي تشهده تطوان والمناطق المجاورة لها والمنجزات الكبرى من طرق سيارة ومساحات خضراء وفضاءات رياضية وثقافية واجتماعية ومرافق ومركبات متعددة الاختصاصات …
خلاصة القول إن جهات شمال المملكة المغربية تعيش عصرها الذهبي بفضل التوجيهات الملكية السامية والتتبع الشخصي لجلالة الملك للمشاريع و الاوراش الكبرى التي غيرت وجه المنطقة ولقيت استحسان المواطنين الذين يتفاءلون خيرا بالزيارات الملكية المتتالية .
جمال مصباح
Aucun commentaire