Home»Régional»تعويذات لغدر الكآبة

تعويذات لغدر الكآبة

0
Shares
PinterestGoogle+

جاء المساء مبكرا يحاول الهرب من يومه. النوافذ منغلقة على نفسها والشرفات فراغ. كانت الساعة تدور وفق منظومتها وكنت أدور فقط. فضاءات تضيق وتتسع، متوتر ومغترب.أحسست بانقباض مفاجىء كأنه نزل لتوه من السماء. بحثت في الحدائق عن كرسي لقراءة تعويذات تحصنني من غدر الكآبة، فلم أجد فراغا يناسبني. ها هنا عشيقان يتوددان خفية ، وهناك أطفال متحصنين بلعب منفعل. قلت :"هي المقهى إذن…!" بحثت في جيوبي بلين ثم بعنف فلم أجدسوى خمسة دراهم يتيمة. خطرت ببالي أسماء كثيرة لمقاهي متعددة، لكنها الخمسة دراهم اللعينة لا تزيد ولا تنقص. جلست في مقهى لا يروق لي كثيرا، رفضت ذاكرتي أن تطاوعني في أول امتحان للكلمات المسهمة، واستسلمت للماضي تعيده بشكل يقلق الجغرافية والتاريخ. بدأت أسراب من الصور تتراقص في مخيلتي عكرت علي سهوا لذيذا إلى أن أيقظني النادل بكلام ناعم وهادىء : "في خدمتك سيدي….".كلام جميل تمنيت لو سمعته في مكان آخر!. فضلت أن أشرب قهوتي على الرصيف، حاولت أن أضبط حركات عيني كي لا تسقط حيث لا يجب !. ترددت، لكن نظرت، ثم أعدت النظر، وأخيرا أطلت النظر!. كنت قد ألقيت بنفسي عن غير قصد في جحيم الغواية. كانت المؤخرات المكتنزة تعطل الحديث الهامس بين رواد المقهى، فيطلقون ضحكات مجلجلة من حين لآخر تثير انتباه المارين والفضوليين. أصدرت أكثر من فتوى في أكثر من حالة ، لكني كنت منحازا دائما. قلت لا يجب أن أكون مفتيا في أمور شخصية، فالمفتي يجب أن يكون محايدا.
كنت أقول في كل مرة : "الأولى لك…."، وأبيح ما لا يباح، لكن انتقلت العدوى لأكثر من مرة. هنا كان علي ان أتحرك، أن أغير المكان. قلت : "حسنا فلأحمل جثتي فوق هامتي وأغترب..". ترددت قليلا ، ثم قمت انصياعا لرغبة ما. امتنعت رجلاي عن حمل جثة بدت أكبرمن وزنها، وجمجمة أكبر من حجمها. لكن، أجهدت نفسي على المسير. طفت بأكثر من شارع، وهززت رأسي لأكثر من شخص. كنت أطوف كعاشق ولهان أو كمجدوب غير حكيم بلا بوصلة، بعدها جلست. أحسست بتودد عاشقين بجانبي. أصخت السمع بحس طفولي لهمس دفين يسري بينهما. كان الفرق شاسعا بين همس الأمس واليوم. لفت انتباهي مناجاة عصفورين قبالتي فوق شجرة، فحلقت بعيدا. أيقنت أن لا مكان بعد اليوم للمناجاة فوق الأرض، وتساءلت : "هل لا بد من الصعود إلى السماء لتكون المناجاة صادقة؟ ". طقطق ماسح الأحذية بخفة المحترفين فوق صندوقه الصغير، وأشار إلى الحذاء. كان في حاجة إلى التلميع. فغبار الضاحية قد التهم ما تبقى فيه من سواد. أردت أن ألمعه، فتذكرت فراغ الجيوب وأحجمت. زاد شكل الحذاء من عزيمتي على الاغتراب. فغبت وغيبته معي.
في طريقي إلى محطة الأوتوبيس، استوقفتني لافتة كبيرة مكتوبة بألوان تفقأ العين، ولغة لم أعد أجيدها كثيرا :" استمتعوا بالذكاء المستورد…" . أحسست باستفزاز زاد من غربتي. رغم ذلك أغرتني يمناي المتسرعة دائما بالولوج. رجال ونساء يتكلمون لغة أخرى لإثبات هويتهم الفرنكفونية. فقء كلمات تنفجر من أعماق الأرض بين خطاباتهم لتثبت عروبة المكان !. تقدمت نحو مكتب موغل في الثراء، هواتف وجميلات يأتمرن بأوامر شاب نال منه البياض مبكرا، أو تفاداه السواد ليتفرغ للآخرين !. حركة من عينيه كافية لتغيير المواقع بسرعة البرق.
– "عفوا أريد بعض المعلومات حول….". لم يمهلني لأكمل كلامي فقاطعني على الفور :
– " الأساتذة في الغالب يفضلون هذا النوع…". ( وأشار إلى سيارة صغيرة تجلس القرفصاء كالضفضعة ) ثم أضاف :
– "رغم أن حجمها يبدو صغيرا من الظاهر، إلا أن فضاءها الداخلي واسع ، وأيضا اقتصادية ومتينة!. كم حوالتك؟ "
تلعثم لساني، لم يكن هو في حاجة للسؤال عن هويتي، وكان علي أن أواجه مكر التجار ودهائهم. ملكت نفسي وقلت :" السيارة التي لا أستطيع أن أملكها لا يجب ان تملكني " وانصرفت. كنت طوال عمري واقعيا لدرجة القساوة، لكن هذه المرة خذلت. كان الحلم أكبر من أن تستوعبه حوالة هزيلة. لم تمهلني طاحونة الواقع أن أنتشي قليلا فبدت لي الحافلة قادمة من بعيد في المنعرج . أسرعت بكل قواي عساني ألحق بها في المحطة. لكن هيهات !. كان الحكم سريعا وقاسيا، انتظار نصف ساعة أ خرى !. اختليت بنفسي تحت زيتونة لآخذ قسطا من الراحة بعيدا عن الحلم والسيارة ورقابة الفضوليين. أمارس بحرية هواية الانفلات من رقابة لا تحلو لي دائما. فعلاقتي بالواقع متناقضة تماما. حاولت أن أحاور أحد الجالسين للتو بجانبي ، فلم يطاوعني لساني. انزويت قليلا لأعيش أناي بكل تفاصيلها وتعقيداتها. وصلت الحافلة أخيرا فصعدت. بدأت أسمع خليطا من الكلام : احتجاج وهمس،غوغاء وصمت. اخترت أن أصمت ، وأجلت الكلام لزمن قد يكون فيه مفيدا. لأني لو تكلمت، سأقول كلاما مختلفا، وسأنهيه بالصراخ، أو بأشياء أخرى !.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

2 Comments

  1. متتبع
    15/04/2007 at 21:25

    نص سردي جميل ، يصف الواقع بلغة رصينة متوازنة ، تخوض في موضوعات آنية كما تعبر عن شخصية حائرة تائهة وسط مجتمع انقلبت فيه المقاييس الأخلاقية في المعاملات والتجارة والألبسة في كل شيء إن شخصية النص تنطبق على المثقفين الذين يعيشون غرباء وسط مجتمعاتهم بسبب التغريب سواء اللغوي أو في العادات أوفي التقاليد قال المتنبي:
    ( أنا في أمة تداركها الله **** غريب كصالح في ثمود ).
    دمت كاتبا وشاعرا وحالما بالجميل ومحققا له .

  2. عزيز
    15/04/2007 at 21:26

    فعلا انها قصص الكابة ياعبوس ويا كئيب كثر الله من المكتئبين

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *