حقيقة الحب ونقيضه البغض
موضوع الحب موضوع كثير الاستهلاك ولكنه لا يخلق ولا يبلى ؛ والحب لا يخلو آدمي رمى فيه بسهم أوتلظى منه بنار أو اشتار عسله ؛ فهو من مميزات بني آدم منذ خلقهم الله ؛ وأول من زاول الحب آدم عليه السلام وقد شاركته حواء في هذه المزاولة. لقد شاءت إرادة الله جلت قدرته أن يكون ا بليس اللعين عدوا لآدم وتكون حواء حبيبته . ولما كانت العداوة تقتضي البغض كان الحب والوداد من مقتضيات الصداقة ؛ لهذا كانت أول قصة حب بين آدم وحواء. وكان حبهما في الجنة كاملا ككمال حياة الجنة التي قال فيها رب العزة :( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) ولما هبط آدم وحواء على سطح كوكب الأرض ظل الحب بينهما ولكنه تحول من حب كامل إلى حب ناقص كنقصان الحياة الدنيا لما فيها من شقاوة لا توجد في الجنة ؛ ولهذا عرفت العداوة بين بني آدم لأول مرة على سطح الأرض حيث ترتب عن الحب الناقص البغض نقيض الحب ؛ والشيء إنما ينقلب إلى ضد إذا زاد أو نقص عن حد كما يقال ؛ ولهذا كانت أول جريمة قتل في تاريخ البشرية حيث مد قابيل يده لسفك دم أخيه هابيل ؛ وكانت تلك بداية شريعة الشيطان الذي دفعه الحسد إلى بغض آدم والكيد له ليخسر دار النعيم والسعادة ؛ ومن ضمنها سعادة الحب الكامل غير المنقوص ؛ ويعيش حياة الزوال السريع والشقاوة ومن ضمنها شقاوة الحب المنقوص .
وتوارث البشر عبر العصور شقاوة الدنيا ومنها نقصان الحب وطغيان البغض وسالت دماؤهم المسفوكة بحارا وأنهارا بسبب هذا البغض ولو ساد الحب لما سالت منه قطرة واحدة. إن الحب والوداد والحب أيضا بكسر الحاء والمحبة كما يعبر عنه في لغة العرب عبارة عن شعور يختزل التعلق بما فيه منفعة ولذة سواء كانت من المحسوس أم من المعقول. ولعل الخالق قد فطر الخليقة على هذا الشعور ؛ وجعل علاقته بهذه الخليقة مؤسسة على هذا الشعور مع فارق بين حب الخالق للمخلوق الذي هو حب دون خلفية المنفعة واللذة إذ لا يفتقر الخالق افتقار المخلوق. أما المخلوق فحبه للخالق لا يخلو من منفعة ولذة لفقره وحاجته إليه ؛ والنعم المسبغة من الخالق المنعم على المخلوق المفتقر هي المحرك لشعور الحب في هذا المخلوق.
وقياسا على حب المخلوق للخالق يحاكي المخلوق حب المخلوق مثله أيضا طلبا للمنفعة واللذة افتقارا وحاجة. ومعلوم أن الحاجة والافتقار نقصان يستدعي قلقا لا ينجلي إلا باستغناء ؛ وهذا ما يوجه الحب ويتحكم فيه ؛ ويتدخل في اختيار المحبوب أو المحب بضم الميم وفتح الحاء أو الحبة بضم الحاء أوالحب بكسر الحاء أوالحبيب أوالحباب بضم الحاء ؛ ولغة العرب غنية في هذه المادة لأهمية القضية .
فاختيار المحبوب الذي يحتار فيه الناس مرده إلى شعورهم بالافتقار والحاجة إلى ما عند هذا المحبوب مما يفتقرون إليه ؛ فمن تعلق بشخص وكان حبته بضم الحاء وحبيبه وجد فيه ضالته من اللذة واستغنى به عن افتقاره وحاجته وحاول أن يستكمل نقصان الدنيا ويدفع عنه شيئا من شقاوتها التي لا تبارح الحب فتسمه بوسمها فيعاني الناس من ذلك. وقديما حاولت الأسطورة الإغريقية أن تجد مبررا للحب فزعمت أن الإنسان كان كاملا فأذنب فعاقبته الآلهة بالانشطار وأبعدت كل شطر إلى مكان قصي فظل كل شطر يتشوق إلى شطره المبعد عن طرق الحب ؛ لهذا لا يكون الحب حسب هذه الأسطورة إلا بين شطرين من مخلوق كان واحدا في الأصل قبل لعنة الآلهة. والأسطورة تختصر قضية المنفعة واللذة التي هي وراء عاطفة الحب.
فحب الخلق للخالق سبحانه يكون لمنفعة يجدها المخلوق في خالقه ؛ فهو موجده ومحييه ورازقه ….الخ وحب المخلوق لوالديه أو أولاده أو قرابته يكون لمنفعة يجدها فيهم ؛ فهم سبب وجوده واستمراره وحمايته وبسببهم تتحقق مصالحه ….الخ وحب المخلوق لشريك الحياة يكون لمنفعة يجدها فيه ؛ فهو سكينته ؛ وهي من آيات الله عزوجل لقوله : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) فقوله تعالى : ( خلق لكم من أنفسكم أزواجا ) يحيلنا على ما اشرنا إليه عند ذكر أسطورة يونان التي تفترض أن الجسد المادي ذا الطبيعة الكثيفة المظلمة شطر إلى شطرين فظل كل واحد منهما يحن إلى الآخر؛ بينما يفترض القرآن الكريم أن الروح النورانية الشفافة هي المنشطرة وفي الحديث : ( الأرواح جنود مجندة ما تعارف منا ائتلف وما تنافر اختلف )وهذه الأرواح المنشطرة يحن كل شطر منها إلى الآخر والدليل على ذلك حرف( من) في العربية الذي يفيد التبعيض. وقوله تعالى : ( لتسكنوا إليها) يفيد المنفعة ؛ فالسكينة عبارة عن هدوء بعد اضطراب سببه النقصان و الحاجة والافتقار إلى الكمال؛ واللام ههنا للتعليل؛ وقوله تعالى : ( وجعل بينكم مودة ) يفيد ما يترتب عن المنفعة من حب والواو لا تفيد العطف وإنما تفيد استئناف الكلام حتى لا يقال عطفت( وجعل) على( لتسكنوا) لمن يريد تبرير علة الخلق بوجود الحب ؛ أي أن الله خلق الخلق لأجل الحب؛ فالله خلق الخلق لأجل منفعة السكينة ؛ ومنفعة السكينة اقتضت الحب.
إن الإنسان ذكر كان أم أنثى يحب من تتحقق منفعته عنده فيتعلق به ؛ فهذا يشعر بنقص في خلقته بكسر الخاء فيتعلق بمن هو أجمل منه ليكمل نقصه ؛ وذاك يشعر بنقص في خلقه بضم الخاء فيتعلق بمن هو أحسن منه خلقا ؛ وآخر يشعر بفقر مادي فيتعلق بمن هو أكثر منه مالا وأعز نفرا ….إلى غير ذلك من مركبات النقص المفضية إلى طلب الكمال في الآخر . وقد لا نستغرب تعلق مجموعة محرومة من شيء بمخلوق واحد يملك هذا الشيء كتعلق مجوعة من الرجال بامرأة جميلة أو عظيمة أو ثرية أو شريفة …أو تعلق مجموعة من النساء برجل وسيم أو عظيم أو ثري أو شريف ….ولا غرابة مثلا أن نجد القبيح من الخلق يحب الجميل والأشقر يحب الأسمر لافتقار القبيح لجمال يكمل به نقصه وافتقار الأشقر لسمرة تعوزه ؛ واللئيم يحب الكريم لافتقاره للكرم ؛ وكم من سكير عربيد يختار كحبيبة عفيفة لافتقاره للعفة ليس غير….الخ
فالقضية في نهاية المطاف هي تحكم الحاجة والمنفعة في الحب ؛ ولكن الناس يسقطون هذه الحاجة ويلتمسون للحب مبررات تجعله مستعصيا على الفهم ؛ فيصير مجالا خصبا لتفلسف الفلاسفة ولأحلام الشعراء وربما لطلاسم السحرة والمنجمين.
والعجيب في هذا الحب أنه يفضح صاحبه من خلال ما يستعمل من كلام في حق من يحب فيناديه تارة (بروحي ) وتارة (بقلبي أو فؤادي ) وطورا ( بعيني أو بقرتها ) وأخرى ( بحياتي ) وغيرها …. وكلها كلمات تدل على الذات وقد أسندت إليها ياء المتكلم ؛ وهو ما يعتبر إقصاء للآخر مقابل إثبات للذات بسبب المصلحة والمنفعة.
يا معشر المحبين فكروا قليلا وستجدون السبب الذي من أجله تحبون ؛ ولا يضير حبكم أنه ناتج عن منفعة واعلموا أن أرقى حبكم هو حب الخالق سبحانه لارتباطه بأكبر المنافع على الإطلاق بالنسبة إليكم ثم تتوالى درجات حبكم لغيره حسب المنافع ؛ حتى إذا انتهت المنافع مهما كانت مادية أو معنوية حل البغض محل الحب ؛ فما أبغض إبليس آدم إلا لضياع منفعته بسببه ؛ وما أبغض أول إنسان وهو قابيل أخاه الإنسان هابيل إلا لضياع منفعة بسببه ؛ وهذه سنة الله في خلقه ؛ وسيظل حبكم مهما بلغ في هذه الدنيا عدا حب خالقكم ناقصا لنقصان الحياة وشقاوتها وسيعود إلى كماله في الآخرة لأنها دار سعادة ولأنه لن تعود هنالك منفعة أو مصلحة فالكل يومئذ ممن سكن الجنة قد أغناه الله تعالى فإذا أحب إنما يحب من هو مثله استغناء فيكون الحب كاملا ؛ أما من سكن النار فانه لا يعرف إلا البغض لقوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) صدق الله العظيم ؛ هذه هي حقيقة الحب والبغض ؛ أما الحب الذي يعبر عنه الشعراء فهو محض خيال ومجرد مجاز بعيد عن الحقيقة و من قبيل بعد القول عن الفعل وهو الغواية لقوله تعالى : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون )
Aucun commentaire
اللهم اجعلنا من محبي الله سبحانه وتعالى واقتلنا على فراش محبته وطاعته آمين واعنا على محبة الخير والحق والاستقامة والعدل ومن احب الله احب كل شيء جميل وعظيم .