مجزوءة الشاي بالسوق الاسبوعي لبلدة سيدي لحسن ….ايام زمان
محمد شحلال
كان السوق الأسبوعي ببلدة ،،سيدي لحسن،،من الفضاءات الشعبية التي تستهلك بها كميات هائلة من الشاي، باعتبار مكانة هذا المشروب في النظام الغذائي للأهالي.
اعتاد المتسوقون أن يفدوا على مكان القوى الشرائية المحتملة ،في الصباح الباكر،ليكون الفطور بعد إنهاء عمليات البيع الأساسية في الجناح المخصص لتسويق الحيوانات ،وكذلك في الفضاء المخصص لتصريف الحصير وباقي مشتقات مادة الحلفاء.
كان فطور الأهالي يتكون من كؤوس الشاي والخبز أساسا،فإذا كان بعض الشركاء قد ابتسم لهم الحظ في معاملاتهم، فإنهم كانوا يجودون ببعض حبات من الفول السوداني كعربون على ،،الترقي الطبقي،،المؤقت الذي يثير فضول المتحلقين بالجوار.
ليست حركية السوق هي مادة هذا الحديث الذي سبق الخوض فيه،وإنما هي طقوس الشاي بالسوق التي عرفت انقلابا لا فتا بعدما خرجت المقاهي التقليدية عن الخدمة،لتختفي نهائيا بعد هدم السوق التاريخي لإقامة،،معلمة عصرية،،كما توضح ذلك البطاقة التقنية للمشروع.
كان إعداد الشاي يوم السوق يخضع لطقوس متوارثة،ذلك أن جلسة تناوله ،كانت بحاجة لشراكة بين ثلة من الأشخاص الذين يقتسمون التكاليف إلا في حالات استثنائية عندما يتطوع أحدهم فيعفي مدعويه من الأداء.
كان المتطوع يتكلف بمصاريف الشاي ومرفقاته إن عقد صفقة رابحة،أو كان يهدف إلى البحث عن عروس أو مجرد شهود في نازلة من نوازل البدو المزمنة.
إن ما كان لافتا في شاي السوق ذات زمان،هو العرف السائد بين التجار والمتسوقين،حيث اعتاد هؤلاء التجار أن يحولوا قوالب السكر إلى مجزوءات تتلاءم مع رغبة كل زبون،
وهكذا،فقد كان التاجر يلف قطع السكر وما يناسبها من حبات الشاي أو ما يسميه الأهالي : ،،التلقيمت،،في أوراق المجلات الإسبانية الغالبة،ثم يسأل المشتري عن عدد،،البراريد،،التي ينوي إعدادها،إذ كانت هناك ملفوفات تكفي لبراد واحد،وأخرى لاثنين أو أكثر.
وبهذه التسهيلات التجارية،صار بإمكان الجميع تناول الشاي مرة على الأقل بالنسبة للبعض،بينما يحرص آخرون على الشرب حتى الثمالة لأنهم يقضون بياض اليوم بالسوق !
كان محبو الشاي،يختارون المقهى الذي يشتهر صاحبه بحسن الخدمة،بما في ذلك الماء الجيد والكؤوس النظيفة ثم الحصير الذي لم يفقد بعد كل لونه.
كان معظم الزبناء ،يفضلون المقاهي التي توفر بعض الدفء في فصل البرد ،وهو ما كان يسمح باقتناص جلسات لا تخلو من متعة وقهقات ،تفجرها قفشات البدو التي يحتفظون بها ليوم جدير بالتفريغ وتبادل الانتشاء.
غير أن المشترك بين كل مقاهي الماضي،هو حالة المراجل والقدور التي ،يلفها غطاء سميك من السخام الذي لا يفارق هذه الأواني حتى تخرج عن الخدمة بعد أن تستتفذ كل محاولات الترقيع
التي يميل إليها هؤلاء البسطاء ،تفاديا لنفقات طارئة قد تؤثر على عائداتهم الزهيدة.
لم تكن مراجل وقدور المقاهي التقليدية بالسوق لتشذ عن القاعدة،فنظيراتها في البيوت ،ترفل في ذات الحلل السوداء،ومع ذلك فإن الماء المغلى فيها،كان يصنع شايا يرضي أذواق البدو وضيوفهم،كما كانت القدور تضفي على الطعام الذي ينضج على مهل فوق الجمر الطبيعي ،نكهة لا تقل لذة عن الشاي.
لا تخضع هذه المراجل للتنظيف إلا عندما يعوق التكلس انسياب الماء،حيث تعمد ربات البيوت إلى تعبيد المسالك عبر ما توفر من أدوات كأغصان الحلفاء،ولعلها مناسبة للتذكير بجودة البيض البلدي الذي يتم سلقه في ،،المقراج ،، ،ليصبح في مقدمة الوجبات التي يحظى بها الضيوف أو كهدايا خلال زيارة الأقارب.
كان لنا- نحن معشر-تلاميذ يومئذ، نصيبنا من شاي السوق،حيث كانت عائداتنا من تحرير رسائل الأهالي وقراءة الوثائق الإدارية،ناهيك عن السنتيمات التي كان يجود بها الأهل أحيانا،كانت هذه العائدات تسمح لنا بعقد شراكة لتناول الشاي مرفقا بما تيسر من علب السردين،لنشفي غليلنا في هذا اليوم الذي يحررنا من سلطة الأسرة وتحكمها في المحاصصة !
لن ينسى جيلنا بعض المقاهي الأسطورية التي كثيرا ما جمعنا حصيرها على كؤوس الشاي، واقتناص أخبار البدو وهم لا يعرفون حدودا لأحاديثهم الصاخبة التي ترافقها رشفات مزعجة ،تطفىء رغبات حبيسة حان موعد انفلاتها.
رحم الله،،رابح البوزكاوي،،وزوجته ،،خديجة،،اللذين كانا يديران مقهى في ملكيتهما،وكانت له مواصفاته التي تستقطب زبناء عديدين يسارعون للاستمتاع بردود،،المرحومة،،خديجة التي لا تخلو من إفحام،كما اشتهرت بالجوار ،مقهى كل من عائلة،،الكيحل،،والمرحومة،،شغنونة،، وأسماء أخرى طواها النسيان.
عرفت مقاهي السوق تحولات كبيرة،وكان أبرزها،اختفاء المراجل والقدور بحللها الشديدة السواد،بسبب الاستخدام الاضطراري لغاز البوطان بعدما صار الحطب مادة نادرة،وكان من الطبيعي أن يختفي الحصير ويسلم مكانه لمادة،،البلاستيك،،التي استجابت لكل الرغبات، والأهم من كل ذلك،فإن مجزوءات الشاي،قد صارت من الماضي بعدما ساد أسلوب الخدمة العصرية في تقديم الشاي وباقي المشروبات،وبذلك فقد التجار أسلوبا متفردا في الكسب لا يؤثر كثيرا على جيوب البدو الذين لا يفرطون في الدرهم الأبيض امتثالا لدروس الحياة التي لا يغفل عنها إلا من كان سفيها !
لم يعد بالإمكان اليوم الوقوف على،،رسم درس،،* ولا البكاء عليه لأن الآليات قد طوت تاريخا بكامله ،في انتظار أن نرى هيكلة جديدة للمكان يرضي الجيل الراهن والقادم،ويدفعنا للسفر في أزمنة لم تخل ذكريات عصية على النسيان،وأحداث كان لها أثرها الأزلي على شخصيتنا التي لا يرضيها الحاضر مجردا من الجذور !
* مقتبس من قصيدة ،،أبي نواس،،التي يسخر فيها من العربي الذي يبكي على الأطلال،ومن ذلك قوله :
قل لمن يبكي على رسم درس
واقف ،ما ضره لو كان جلس؟
يصف الربع ومن كان به
مثل سلمى ولبينى وخنس
اترك الربع وسلمى جانبا
واصطحب كرخية مثل القبس
Aucun commentaire