Home»Régional»الفكر الاجتماعي في العصر الحديث الحلقة السادسة

الفكر الاجتماعي في العصر الحديث الحلقة السادسة

0
Shares
PinterestGoogle+

الفكر الاجتماعي في العصر الحديث/ الحلقة السادسة مدرسة الفلسفة الديالكتيكية

 يوسف حجازي

 الديالكتيك كلمة يونانية تعني التقاء الناس للحوار ، ولما كان هدف الحوار هو الإقناع والإقناع لا يمكن أن يتحقق بدون برهان ، لذلك اعتبر الديالكتيك فن الحوار، وقد ظهرت معالم التفكير الديالكتيكي لأول مرة في التاريخ في بلاد اليونان القديمة عند السوفسطائيون ، وهم مجموعة من المعلمين الذين اتخذوا من التدريس حرفة لهم ، وكانوا يتقاضون أجورهم من تلاميذهم ويعلمونهم كيف يخدمون فكرتهم كانت ما كانت وعلى أي وجه كانت بالحق أو بالباطل ، والسفسطة كلمة مشتقة من كلمة سوفيسطون اليونانية وتعني المعلم في أي فرع من فروع المعرفة ، وهي حركة فكرية اجتماعية ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد مع ظهور النثر الفني ورفعت شعار الإنسان مقياس كل شيء ودافعت عن نسبية الحقيقة وارتباطها بالظروف المتغيرة ، وقد حاول السوفسطائيون أن يفرضوا أفكارهم هذه على الأثينيين ، ومن أشهر فلاسفتهم بروتاغوراس 482 ق م 410 -ق م الذي شكك في وجود الله وجورجياس 480 ق م – 375 ق م الذي حاور سقراط وأفلاطون ،

 وتنقسم السوفسطائية إلى ثلاث فرق وهي اللاأدرية التي تقول باستحالة التعرف على وجود الله ، والعندية الذين يرون انه لا توجد قضايا عامة تتساوى العقول في إدراكها ويقولون أن الحق حق عند من يكون عنده حق وأن الباطل باطل عند من يكون عنده باطل ، والعنادية الذين يقولون أن ما من قضية أو نظرية إلا ولها معارضة ، ولذلك وبسبب أفكارهم هذه وقدرتهم على التلاعب بالألفاظ اللغوية واثبات صحة القضايا المتناقضة في وقت واحد وجعل الحق باطل والباطل حق رأى فلاسفة اليونان الكبار سقراط وأفلاطون وأرسطو كما رأى غيرهم من الفلاسفة في العصور الوسطى والحديثة أن ما جاء به السوفسطائيون من فكر اجتماعي كان دعوة إلى الفوضى الأخلاقية والفكرية ، وإنكار للحقائق الثابتة وجعلها خاضعة لميول البشر ومنافعهم التي تتغير وفقا للمصالح والأهواء الشخصية ، وهدما لكل قيم الخير والحق والفضيلة والاعتقاد الديني ، وبداية للنزعة المادية التي سادت في التفكير الاجتماعي حتى انتهت إلى ما يعرف اليوم باسم الفلسفة الذرائعية ( البرغماتزم ) ،

 لكن وللحقيقة والتاريخ يجب أن نسجل أن معالم التفكير الديالكتيكي السوفسطائي بدت في فلسفة كل من الفلاسفة هيراقليطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو ومكيافيللي وديكارت وسبينوزا وليبنز وكانت وهيغل وماركس وغرهم ، ولكن وللحقيقة والتاريخ أيضا ورغم أن كل هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين كانوا قد شربوا من نهر السوفسطائيين إلا أنهم جميعا القوا حجارتهم في هذا النهر، لكن الديالكتيك في فلسفة هيغل كمنهج فلسفي لدراسة الظواهر العامة ، وكمنطق ينفي منطق أرسطو الصوري والفلسفة الميتافيزيقية التي تقوم على نفي التناقض في الفكر والوجود ، وعدم وجود علاقة بين الأشياء لم يعد مجرد عملية استدلال ، ولكنه طريق سار في اتجاه آخر ليس في التدليل العقلي فحسب ولكن في التاريخ والكون كله ، لأنه حركة ضرورية تنتقل من الموضوع إلى نقيضه ثم إلى التركيب بين الموضوع ونقيضه ، وفي ذلك يقول هيغل ( إن أوسع العلاقات شمولا هي علاقة التناقض أو التقابل ، فكل حال فكرة أو حال شيء ، أو كل فكرة وكل حالة في العالم إنما تقود إلى نقيضها ، ومن ثم تتحد مع نقيضها لتشكل كلا متكاملا أرقى وأكثر تعقيدا ) وهذه الحركة الديالكتيكية الجدلية هي التي يعبر عنها هيغل بالموضوع ونقيض الموضوع ونقيض النقيض ، والأمر الواقع يثبت وجود التناقضات في كل شيء ، وان كل شيء يحتوي في داخله على جانب ايجابي وجانب سلبي أي جانب ينمو وجانب يموت ، ولذلك يجب أن تفرض هذه التناقضات وجود منطق جديد غير منطق أرسطو الصوري يؤكد منطقا جديدا هو منطق التناقض أي منطق الديالكتيك وهذا لأن كل شيء في حالة حركة وتغيير ، ولذلك وبناء على ذلك تكون كل فكرة عند هيغل تحتوي في طبيعتها نفيا خاصا بها يجعلها تتحول إلى فكرة أخرى تنفي ذاتها أيضا ، وبذلك يتضح أن الفكرة الأولى بنفيها الذاتي الخاص والفكرة الثانية بنفيها الذاتي الخاص ليستا إلا مرحلتين لفكرة ثالثة تشتمل على الفكرتين الأولى والثانية وترفعهما إلى فكرة أعلى ، وهكذا يتحقق التقدم الجدلى الديالكتيكي بواسطة ما يطلق عليه هيغل اسم النافي أو السالب ، ويوضح هيغل ذلك من خلال مثال المذهب الابيقوري والمذهب الرواقي والمسيحية ، وهو يقول أن المذهب الابيقوري كان يرى أن الخير هو اللذة وانتهى إلى المتعة ولذلك كانت المتعة هي الفكرة الأولى في المذهب الابيقوري ، ثم ظهر بعد ذلك المذهب الرواقي الذي كان يرى أن الخير هو سيطرة العقل على الغريزة وانتهى إلى التقشف ولذلك كان التقشف هو الفكرة الثانية في المذهب الرواقي ، ثم ظهرت بعد ذلك المسيحية وهي الحل الوسط بين المذهبين الابيقوري والرواقي ، كما يورد مثال آخر وهو مثال الكم والزهرة والثمرة ، ويقول أن الكم يختفي إذا ما تفتحت الزهرة والزهرة تختفي إذا ما ظهرت الثمرة ، وعلى ذلك تكون العلاقة بين الكم والزهرة والثمرة علاقة تضاد ، وتكون الثمرة هي الكل المتحد من الأجزاء الكم والزهرة ، ولذلك تكون الثمرة أيضا وحدة عضوية مكونة من هذه الأجزاء المنفصلة بعضها عن بعض ، والأجزاء هنا هي الكم والزهرة ، ولكن هذه الأجزاء الكم والزهرة تكون من جهة أخرى متصلة ومترابطة وكل جزء منها يحتوي في حقيقته على الثمرة ، الكم يحتوي في حقيقته على الثمرة والزهرة تحتوي في حقيقتها على الثمرة ، والثمرة طبعا هي الكل الموجود في كل جزء أي في الكم والزهرة ، وهكذا يكون كل جزء له علته التي تبرر وجوده وتفرض وجوده لأنه موجود من اجل الكل وبسببه ، والكل هنا هو الثمرة ، ويرى هيغل أيضا أن الكم والزهرة لم ينمحيا من الوجود في عملية الانتقال بل هي أجزاء موجودة متصلة الحياة وكل ما حدث لكل جزء هو تحوله من صورة أدنى إلى صورة أرقى ، وقد طبق هيغل هذا المثل على الطبيعة وقال أن نجم النبات يحمل في باطنه الشجرة الكبيرة والشجرة تنسخ النجم وتثبته في نفس الوقت ، وطبقه على الإنسان وقال أن الطفل يتضمن الرجل والرجل ينسخ الطفل ويثبته في نفس الوقت ، وطبقه على التاريخ وقال أن المدنية تتقدم برد فعل بين النزعات المضادة فعصور السلطة المطلقة تتبعها عصور فوضى ومن اتحاد العصور المطلقة وعصور الفوضى تنشأ مرحلة الحرية الدستورية ،

 ولكن وإذا كانت علاقة التضاد هي جسم فلسفة هيغل الذي أطلق عليه الفلاسفة بسببها اسم فيلسوف العلاقات ، فإن المطلق هو روح هذا الجسم ، ولذلك كان هيغل يرى أن الكون هو عبارة عن عملية نمو وتقدم وفق ثلاثية الموضوع والنقيض ونقيض النقيض ، وانه وفي كل مرحلة من هذه المراحل الجدلية الثلاثية يوجد مطلق (حق الهي ) موقوف عليها بوصفها مرحلة ضرورية وحتمية من مراحل النشوء والارتقاء ، وأن المطلق موجود ليس كعنصر مستقل ولكن كروح سارية في كل شيء وفي ذلك يقول هيغل ( لا ينبغي أن نصور المطلق لأنفسنا ذاتا مجردة تنمحي فيها كل وجوه الخلاف ، وعنصرا ساكنا لا حركة فيه ، ولكن يجب أن ننظر إليه كروح حية منتجة ينتج عنها كل الأشياء النهائية الجزئية ، واستكشاف هذه الروح وفهمها هو الغرض من كل فلسفة وثقافة ، لأنها النقطة التي تتقاطع عندها كل فروع المعرفة جميعا من علم ودين ) كما انه كان يصف المطلق بأنه عبارة عن الانسجام بين الأضداد وأن كنه الدين وجوهره هو تمجيد الروح للمطلق تمجيدا باطنيا ، ولعل أكثر ما يوضح رأى هيغل في المطلق هو تطبيق حركته الثلاثية عليه كما يطبقها على الكون والطبيعة والتاريخ والإنسان ، ولذلك قال أن المطلق قد تجلى أولا في المرحلة السابقة للوجود وهي المرحلة التي أطلق عليها هيغل اسم مرحلة الكائن الخالص ، وتجلى ثانيا في مرحلة العالم الطبيعي بأن تحولت قوة المطلق إلى مادة ليظهر في صورة الحياة المادية ، وتجلى ثالثا في روح الفرد ونظام المجتمع وفيما يبدعه الدين والفن والفلسفة ، وينتهي هيغل من ذلك كله إلى الاعتراف باللاهوت المسيحي حيث يرى أن المسيحية هي ذلك السر العجيب الذي يوفق بين الضدين وبين النهائي واللانهائي وبين الإنسان وخالقه ، ولقد تحقق هذا التوفيق بين الضدين وبين النهائي واللانهائي وبين الإنسان وخالقه في شخص المسيح لأنه إنسان الهي ، ولأنه ولكي يتحد الإلهي مع الطبيعة البشرية لابد من أن يكون وسيلة هذا الاتحاد هو الإنسان ، فيكون أنسانا من ناحية وفكرة إلهية من ناحية أخرى ، وهكذا نرى أن هيغل لم ينكر وجود الله ولكنه يعتبره المطلق الذي تعلل به كل التبدلات في عالم الأفكار وعالم الأشياء وفق فلسفته القائمة على علاقة التضاد ، وهي فلسفة وأن كانت لا تخدم فكرة الإيمان إلا أنها لا تنكرها ، ولكن تحاول أن تثبتها منطلقة في ذلك من فرض تعقبه سلسلة من الفروض ،

 وهكذا نرى أيضا أن فلسفة هيغل الديالكتيكية لا تقف عند حد أو عند نهائي أو عند مطلق أو عند مسلمات أو عند بديهيات ، ولكنها تكشف عن الطابع التطوري لكل شيء وفي كل شيء ، أما في موضوع التاريخ فقد كان هيغل يرى أن التاريخ حركة ديالكتيكية تتكون من التناقضات ، ولذلك كان يرى أن الصراع ليس شرا أو هما يجب التخلص منه ولكنه حقيقة واقعة ، وهو قانون التطور ، ولذلك كان يقول ( أن التاريخ حركة ديالكتيكية تتكون من التناقضات بحيث تصبح فيها امة بعد امة وعبقرية بعد عبقرية أداة بيد المطلق ) الذي أطلق عليه هيغل اسم إرادة الروح الكلي ، وهكذا يكون التاريخ في فلسفة هيغل الديالكتيكية حركة جدلية ديالكتيكية تشرف على الأحداث من وجهة نظر كلية غير خاضعة للزمن ، وهي وجهة نظر عقلية لأن العقل في نظر هيغل هو جوهر التاريخ ، ولأن العقل كما يرى هيغل أيضا هو الذي يحكم العالم ، ولذلك يكون التاريخ هو التاريخ الفلسفي الذي يؤدي إلى تحرير الإنسان من سلطة الحس وتحرير المجتمع من سيطرة الواقع الذي لا يسير في اتجاه حركة التاريخ ، وبناء على ذلك يكون عظماء التاريخ أدوات لا واعية للتاريخ ، وأنهم إذا ما اندفعوا إلى تحقيق أهدافهم الجزئية الخاصة إنما يحققون في الوقت نفسه أهدافا ربما لا تكون في نطاق وعيهم ، لأن أهدافهم الجزئية الخاصة تنطوي على المضمون الجوهري الذي يسميه هيغل إرادة الروح الكلي ( المطلق ) ، وهكذا لا يكون العظماء أباء المستقبل ، لأن المستقبل تصنعه روح العصر ، ودور العظماء فيه هو دور القابلات لما ينتجه الصراع الذي يصنع المستقبل ، لأنه ليس لديهم وعي بالفكرة العامة ولكن لهم بصيرة ترى ما كان ناضجا للتطور ، والفكرة العامة التي توجه مضمون فلسفة التاريخ وتتحكم فيه في نفس الوقت هي أن التاريخ العام هو التقدم في وعي الحرية ، والدولة التي تحكم بالعقل النقدي والقانون المطلق هي الحرية ، لأنها تجسد الحرية العقلية ، وحرية كل الأفراد ، ومصدر حريات الأفراد التي يدعيها كل فرد ، والتنظيمات السياسية في الدولة هي تلك التي تسير في اتجاه القواعد الأخلاقية لأن الدولة الهيغلية في حد ذاتها هي حقيقة الفكرة الأخلاقية ، ولذلك يكون دستور هذه الدولة عبارة عن التطور المنطقي القائم على أساس مفهوم التقدم نحو الحرية ، كما تكون سيادة الدولة أداة ضرورية للحفاظ على مجتمع الطبقة الوسطى وذلك بالقضاء على المنافسة الهدامة ، والسيطرة على المصالح المتعارضة بين الأفراد ، ووضع الحرية الفردية في نطاق لا تتجاوزه داخل حدود النظام الكلي للدولة ، وجعل المنافسة مصلحة ايجابية للحقيقة الكلية ، وهكذا فإن سيادة الدولة تفترض مقدما التنافس الدولي بين وحدات سياسية متعارضة تكمن قوة كل منها أساسا في سلطتها التي لا تنازع على أفرادها ، ولكن هيغل كان يرى انه لا ضرورة إلى فصل السلطات طالما أن الدولة ذات إرادة واحدة ، وفي مجال العلاقات الخارجية للدولة كان هيغل يرى انه يجب أن تكون مستقلة ولا تخضع إلا إلى إرادة الدولة ، كما انه كان يرى أن الاتفاقات والمعاهدات الدولية وقتية ويمكن أن تتغير أو تتعدل أو تلغى إذا كانت لا تتفق مع مصالح الدولة ، لأن القواعد الأخلاقية التي تلزم الأفراد في داخل الدولة لا تلزم الدول في علاقاتها الدولية ، ولذلك كان هيغل يرى أن الحرب ضرورية لاستمرار الدولة وكيان الدولة ووحدة الدولة ، لأنه لا معنى للدولة ولا معنى لكيان الدولة ولا معنى لوحدة الدولة بدون حرب ، وضرورية للإنسان لأن الحياة الإنسانية سوف تهوى وتنحدر بدون حرب ،

 لكن الحرب كما كان يتصورها هيغل لم تكن الحرب الاستعمارية التي تؤدي إلى تأسيس إمبراطوريات استعمارية تجمع شعوبا غير متجانسة عرقيا ولغويا وحضاريا وبالتالي تفقد الدولة وحدتها الذاتية وفرديتها الأصلية ، ولهذا كانت تصعد إلى ذروة المجد ثم تنحدر إلى الحضيض وذلك لأنها لم تكن الدولة التي يهدف إليها التاريخ ، لكن الدولة الذي كان يهدف إليها التاريخ كما قال هيغل كانت الدولة البروسية ، ولذلك وقف التاريخ عندها لأنها الدولة التي تجسد المطلق وروح الحرية وروح الله ، وهكذا نرى هيغل يمجد القومية الجرمانية ورسالة الشعب الآري اتجاه العالم ، وهذا يرجع في الحقيقة إلى تأثير ظروف ألمانيا في ذلك الوقت وهو يرى أقدام الدانمرك والنمسا وفرنسا تسحق أجزاء من ألمانيا ، ويرى كيف كانت ألمانيا مشتتة وموزعة بين الإقطاعيين الألمان ، ولذلك كان هيغل يرى انه لا بد من بناء دولة تحطم السيادة الأجنبية والسيادات الإقطاعية ، ولا بد من ظهور المستبد العادل الذي يحقق للشعب الألماني وحدته ووجوده وللدولة الألمانية وحدتها ووجودها ، وقد كان لهذا التفكير تأثير واضح في حركة توحيد ألمانيا الذي قادها بسمارك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، كما كان لها التأثير الحاسم في تطور فكرة اشتراكية الدولة وتفوق العنصر ألآري ونظرية المجال الحيوي ، والتوسع الإقليمي ، ولهذا كان بعض الفلاسفة قد أطلقوا على هيغل لقب الفيلسوف الرسمي ، وأخيرا وبعد أربعون عاما من حروب وفوضى لا حد لها ولا قياس لها يحق لقلب كبير أن يسر لرؤية نهاية تلك المرحلة ويرى بداية مرحلة جديدة رضي عنها ، مات هيغل بعد صراع قاسي مع مرض الكوليرا ، وبدأ المؤرخون والفلاسفة والناشرون جهودهم في البحث عن مؤلفاته ونصوصه حتى تلك التي كانت محاضرات ودروس يلقيها على طلابه الجامعيين ، وقد جمعوها في ثمانية عشر مجلدا تشتمل على كتاب علم المنطق بفروعه الثلاثة مذهب الذات ومذهب الجوهر ومذهب المفهوم ، وموجز موسوعة العلوم الفلسفية ، ومبادئ فلسفة الحق أو موجز الحق الطبيعي وعلم الدولة ، وفلسفة الفن ، وفلسفة التاريخ ، وتاريخ الفلسفة ، وعدد من النصوص الطويلة التي كانت عبارة عن مواد تحضيرية لدروسه في الجامعات ، وقد كانت مؤلفاته صعبة بسبب انعدام الرشاقة في أسلوبه ، وتركيبه الكلامي المشوش ، والتوتر الشديد في تفكيره حيث كان احد ثلاثة فلاسفة هربوا من حاضر ألمانيا المزعج إلى العصر الذهبي لليونان وهم شيلنغ الذي ثار على الجمود الديني الذي كان سائدا في عصره ، وهولدرين الذي قال ( أفضل أن أكون حطابا في غابة على أن أكون رجل دين ) وهيغل الذي فضل دين اليونان الوثني على اللاهوت المسيحي ، وهكذا أدى هذا الهروب إلى إنتاج خليط مسيحي وثني كان أحيانا ينتصر للمسيحية وأحيانا أخرى ينتصر للوثنية ، وهكذا نرى أن اللاهوت الكنسي المسيحي كان هو الجسر الذي عبر عليه الإلحاد ، ولكن هيغل تراجع عن دين اليونان القدماء الوثني إلى المسيحية لأنه رأى في الاعتقاد المسيحي في الطبيعة المزدوجة للمسيح المكونة من طبيعة بشرية وفكرة إلهية تجسيدا لفكرته عن المطلق ( الروح الكلي ) ، وفي صلب المسيح كما تزعم المسيحية تجسيدا لتوجهاته الأخلاقية في التضحية وإنكار الذات ، ولأن هيغل كان مثاليا يؤمن بالمثالية العفوية وبأن الفكر وحده هو الذي يمكن أن يغير العالم ، لذلك كان شديد التأثر بأفكار جان جاك روسو الذي كان يتحدث عن الحقيقة كمثال اعلي ، وكانط الذي كان يعتبر الصدق والحقيقة بمثابة القيمة المطلقة ، وفيخته الذي كان يقول ( أن العدل يجب أن يتحقق حتى لو خرب العالم ) ولكن وللأسف كان الثلاثة قد سمحوا بالكذب تحت ضغط وطأة الحياة وضورياتها ، ولذلك تراجع هيغل وشيلنغ عن المثالية المطلقة التي كانا يحلمان بها وراحا يساومان إلى حد ما على الحقيقة لكي يستطيعا الوصول إلى الكراسي الجامعية ويشقان طريقهما في الحياة ، ووحده ظل هولدرين مخلصا للمثالية الأولى فاصطدم بالواقع المر وجن ، ولكن ولأنه كما قال كانط الذي قال عنه الشاعر الساخر هيني ( من الصعب أن تكتب ترجمة لحياة كانط لأنه لا حياة له ولا ترجمة لحياته لأنه آلة مفكرة – أنه لا توجد قضية في مجال الفكر ليست مثار جدل واختلاف ) فقد

اختلف الفلاسفة والمؤرخون حول فلسفة هيغل وقد أكد ذلك المفكر رينيه سيرو الذي قال في مقدمة كتابه ( هيغل والهيغلية – أن المدرسة الهيغلية انقسمت إلى تيارات متعددة بسبب ما ثار من مشكلات حول أراء هيغل في الدين والسياسة ) ، وقد انبثق عن ذلك تيارات فكرية متباينة ، تيار يرى في الهيغلية أعمق تفسير للمسيحية ، وتيار يرى أنها مصدر النزعة الوحدوية الجرمانية ، وتيار يرى أنها جذر الماركسية ، ولذلك انقسم الفلاسفة والمؤرخون اتجاهها ، فريق أيدها والتزم بها جملة وتفصيلا في الأسلوب والمحور ( الديالكتيك والمطلق ) ، وفريق أيدها والتزم بها جزئيا فأخذ الديالكتيك ( الأسلوب ) وهو جسم فلسفة هيغل وترك المطلق ( المحور ) وهو روح هذا الجسم واستبدلوه بالمادة وقالوا أن وجودها حقيقي ولا يتوقف على وجود أي شيء آخر ، وان ما هو عقلي يتطور عما هو مادي ولا بد أن يفسر على أساس طبيعي وهم الماركسيون ، وهكذا كانت فلسفة هيغل هي الأخشاب والمسامير التي صنعت منها الماركسية سلمها لتصعد فوقه إلى الشيوعية والسلطة والنفوذ ، ولكن هيغل لم يرى هذا السلم في أيدي أصحابه ولكنه أحس في شيخوخته أن هناك حركة تجري لصنعه ، وفريق رفض فلسفة هيغل جملة وتفصيلا في الاسلوب والمحور ومنهم الفيلسوف لودفيغ فيورباخ ( 1804 – 1872 ) الذي تتلمذ على يد هيغل ولكنه انتهى إلى أن يصبح من اكبر منتقدي فلسفته لأنه لم يكن ذو توجه جدلي أو تناقضي وإنما كان ذو توجه مادي ميتافيزيقي يعمد إلى تفسير الأشياء عن طريق العلم ، ومن أشهر كتبه ( في الفلسفة النصرانية ) الذي كتبه في سنة 1839 وقد ذهب فيه إلى حد القول أن الديانة المسيحية قد محيت من عقل الجنس البشري منذ عهد بعيد ، وكتابه ( روح النصرانية ) الذي نشره في عام 1841 وجدد فيه حملته على المسيحية وحاول أن يخلع على اللاهوت صفة إنسانية ، وكذلك الفيلسوف الدنماركي سورين كير كغارد (1813 – 1850 ) تلميذ الفيلسوف شيلنغ الذي قال في فلسفة هيغل ( أن الربط بين متاهات من كلمات لا معنى لها ولا لزوم ربطا لم نعرف له مثيلا إلا في مشافي المجانين إنما بلغ ذروته عند هيغل ، كما انه وصف فلسفة هيغل بأنها أسطورية وستكون وتبقى نصبا تذكاريا للغباء الألماني ، وأضاف قائلا أن الجدلية التاريخية التي يلتزمها هيغل لا تناسب إلا جيلا فاقد البأس والعزم لأنه كما قال سورين كير كغارد يريد أن يحبس كل شيء في منظومة لا تترك إن كانت كاملة محلا للحرية ، ويستمر في حملته على هيغل فيهاجم مذهبه من حيث هو مذهب ويعارضه بالحقيقة الواقعة المعاشة ويطالب باستقلال الفرد وبحقوقه الذاتية ويرى أن ما جاء به هيغل من حذف كل فرق بين باطن الأرض وظاهره في الحياة معناه إخماد لهب الإيمان .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *