طعنة من أيام السيبة
محمد شحلال
يحتفظ التاريخ بصفحات سوداء لفترات عاشت بلادنا خلالها أحداثا مؤلمة ،طبعتها أعمال النهب والتنكيل التي مارسها الأقوياء ،في زمن ما عرف ب،،السيبة،،التي تعطل معها إعمال القانون لظروف قاهرة أحيانا ،لم تتجاوزها السلطة الحاكمة إلا بثمن باهظ.
كان بعض الناس يستغلون غياب،،المخزن،،في المناطق القصية من الوطن ليفرضوا شرائعهم ،بل شريعة الغاب، تحت قوة السلاح ممثلة في ،،ساسبو،، chassepot،الذي ظل مالكوه يخضعون به الرقاب، وينهبون أموال الناس ويستبيحون حرماتهم.
كانت منطقة ،،سيدي لحسن،،من البلاد التي عاث فيها قطاع الطرق ، وجيوش،،الحركة،، فسادا لأسباب عديدة،أهمها ،بعدها عن المدن ،ووجود غابات كثيفة ،سهلت مأمورية اللصوص والعصابات المنظمة.
لقد كان بعض الأشخاص يقومون ،،بغزو،،قبائل أخرى لجلب قطعان المواشي والأبقار لبناء الثروة،حتى تحول هذا العمل الشنيع إلى عرف لجأت إليه القبائل ضد بعضها البعض، كما توارثنا الخبر عن الأجداد،الذين حدثونا عن بعض ماحصل مع،،بني كيل،، و،،بني فاشات،،على سبيل المثال.
في ظل تلك الأوضاع العصيبة من أيام السيبة،جاء الدور على أجدادي، ليفقدوا ثروة هائلة بمقاييس يومئذ ،إثر غارة مفاجئة حصلت في اللحظة المناسبة.
كان هؤلاء الأقارب يملكون مئات الرؤوس من المواشي والبقر،حتى صنفوا ضمن أكبر الملاك في البلدة،وكانوا يتنقلون من مكان لآخر بحثا عن الكلإ، لكنهم اختاروا مكانا منيعا بنوا فيه بيوتا تقليدية ،يحتمون بها خلال فترات معينة من السنة ،ويختزنون فيها جرار السمن وزيت الزيتون،فضلا عن الحبوب.
كانت البيوت قد بنيت في أرض والدي،لكنها ظلت مشتركة بسبب متانة القرابة ،وقد اختير المكان لوقوعه على حافة واد، تنتصب فيه صخور مجوفة، تحتفظ بالماء عدة أسابيع،مما يسمح بالتزود من هذا الخزان الطبيعي وتلبية الحاجة في التنظيف.
ومن ميزة المكان كذلك،أنه كان محصنا بغابة البلوط والعرعر بأنواعه ونباتات أخرى عديدة، حيث لا تكاد البيوت تظهر إلا لمن يعرف المكان.
كانت العائلة تشغل راعيا أجنبيا مكلفا بقطيع كبير من الغنم والماعز خاصة،وكان عازفا ماهرا على الناي.
في صباح أحد أيام الجمعة الذي كان هو يوم السوق الأسبوعي ب،،لمقام العلوي،،قبل انتقاله إلى حيث هو الآن،كان جل الرجال غائبين باستثناء مسير ،،الخيمة،،الذي توجه إلى السوق لتجديد حذوات فرسه، التي فصل عنها مهرها لبعد المسافة.
خلت البيوت إلا من النساء والعجائز،في الوقت الذي كان الراعي يرسل ألحانه عبر ناي ،،خماسي،،يشق الآذان في جو يسود فيه ضباب كثيف.
كان الراعي ينتشي غير بعيد عن الطريق التقليدية الرابطة بين منطقة،،الظهرة،، وتفراطة،،عبر بلدتنا، حينما كان وفد من قطاع الطرق يمر بالمكان باحثا عن الضحايا المحتملين.
استوقفتهم ألحان الراعي الذي لا يظهر له أثر وسط الضباب،فتعقبوه من خلال أنين الناي ،إلى أن أحاطوا به ليقع بصرهم على قطيع يملأ جنبات الأرض.
توزع الغزاة إلى فريقين،تكلف الأول بقيادة القطيع نحو الوجهة الجديدة،بينما تولى الثاني استنطاق الراعي حول مالكي القطيع الذين لا يخفى يسر حالهم.
كان عازف الشؤم قد نال نصيبه من التعذيب ،لذلك قاد الغزاة مباشرة نحو المقر،حيث حملوا ما راقهم من متاع على ظهور الحمير المربوطة والبغال ،ثم روعوا النساء والأطفال من خلال إضرام النار في البيوت، لضمان انشغال الحاضرين،بينما غادروا المكان وقد اقتادوا الراعي رهينة،ليقيدوه بعدما صاروا في مأمن.
كان المتسوق قد أنهى تركيب الحذوات لتوه ،حين رمق المهر قد وصل فجأة وهو يقطر عرقا.
لقد هرب الحيوان الصغير من ألسنة النيران بعدما تمكن من تمزيق عقاله،فاقتفى أثر والدته !
ما إن رآه الرجل حتى توقع شرا ،وأخبر محدثه بأن بيت العائلة قد سرق، مفسر ذلك بوصول المهر وهو على تلك الحال. إنه حدس البدو الذي لا يكذب.
امتطى فرسه واعد سلاحه،ثم قفل راجعا بسرعة البرق،ليجد الخراب قد حل بالمكان،وارتسمت ملامح فقر مفاجىء.
انطلق الرجل متعقبا الغزاة،لكنه لم يجد غير صرخات الراعي وهو يئن تحت القيود المحكمة،فلما فك أسره ،دله الأخير على وجهة الفاعلين،لكنه لم يقف لهم على أثر.
لقد صاروا في مأمن من كل محاولة تعقب،تسعفهم كثافة الضباب.
انتسر الخبر بعد فوات الأوان،فلم يفض التقصي إلى نتيجة، عدا لملمة الجراح من أجل إعادة البناء القاسية.
كان كبار السن من الأهل يقومون بجرد حزين للمفقودات،وكان على رأسها قطيع ضخم من المواشي، وعدة جرار من السمن والعسل والزيوت،ناهيك عن الحبوب وخمسين قربة ،فضلا عن البغال والحمير ،وغيرها ما أغفلته الذاكرة.
إلى أوائل السبيعينات من القرن الماضي،كان جزء من جدران البيوت صامدا،لكنه لم يتخلص من أثر الحريق،لذلك صار الأهل يسمونها،،ثوذرين إحرقن،،تارة،، وثوذرين إهذمن ،،تارة أخرى:(البيوت المحروقة أو البيوت المهدمة).
أما الصخر الذي ظل يحتفظ بالماء،فلا زلنا نسميه،،إخوباش،، وهي الحفر التي يتجمع فيها الماء أو يطفو بعد إعادة حفرها،
وهي الحالة التي استرجعها خلال هذه الايام الممطرة.
ضاعت ثروة محلية سمع عنها كل الناس في المحيط ،ودرس مابقي من جدران ،لكن عزاءنا في إنجاز بئر حولت معالم الخراب،وصارت المغروسات الجديدة بما فيها نبات الصبار ،تنسي في الحادث الأليم.
Aucun commentaire