أثارة من عكاز
عندما تهاوت بنية والدي الاستثنائية-رحمه الله-أواخر الخمسينات من القرن الماضي،بعد صراع مرير مع تكاليف الحياة،أصبح مجبرا على اقتناء عكاز يسعفه على الحركة.
كان العكاز من النوع الذي يباع، والذي يعرف محليا ب،،الخيزرانة،،حيث يتميز عن الصنع المحلي بجمالية خشبه،وبعض خطوط التزيين التي تجعل منه منتوجا محترما بالبلدة ،لا يوجد إلا في أيدي أشخاص قلائل،حيث كانت ،،الخيزرانة،،صنوا ،،للمظل،،التلمساني،،الذي يتزين به الفرنسان.
كان والدي في غنى عن،،المظل التلمساني،،بينما صار العكاز عونا على الدهر لا يمكن التفريط فيه.
كنت قد دخلت مرحلة الإدراك الأولي إسوة بأبناء المعوزين الذين يرغمهم الزمان على أن ينضجوا قبل الأوان، أواخر سنة 1957،وهي السنة التي دخل فيها والدي مرحلة العد العكسي، ليغادر هذه الدنيا التي عرف فيها من المحن ما ينسي في كل لحظات الدعة المحسوبة !
لا أستطيع تجميع ملامح وجه والدي،ولكنني أتذكر كيف أنه طلب مني وأخي الذي يكبرني أن نرافقة ليجتث جذور أشجار العرعار ،استعدادا لقساوة فصل الشتاء الذي كان على الأبواب.
لقد كانت قواه قد خارت،لكنه أبى إلا أن يفرغ مافضل معه من جهد ليوفر لنا وسائل التدفئة قبل أن يلبي نداء ربه أياما قليلة بعد جمع الحطب.
لقد كان يشعر بدنو أجله ،فراح ينتظر الموعد بعزيمة الرجال المؤمنين الذين يستقبلون الموت بصدر رحب،وقد قدم الدليل على ذلك حين تلا وصيته الشفوية على والدتي وأخي البكر الذي كان عليه أن يتحمل مسؤولية فوق طاقته.
لقد ظلت والدتي تذكرنا بوصايا والدنا العديدة،وفي مقدمتها عدم الاشتغال بمناجم جرادة التي اغتصبت منه أول أبنائه بداية الأربعينات من القرن الماضي.
ولما أصر أحد إخواني على معاكسة الوصية تحت ضغط الظروف،كان الثمن هو حادث شغل فقد عينه على إثره،ثم تبعه أخي الثاني الذي فقد رجله اليمنى في حادث مماثل وهو في بداية عقده الثالث.
كان من الوارد أن ألقى مصيرا مشابها لما حدث لأخوي ،لولا التزام والدتي بتعليمي كما كان يحلم والدي بأن أكون من حفظة كتاب الله ،سيرا على نهج أحد أقاربه الذي نذر حياته لتلاوة القرآن في معبد بدائي إلى أن التحق بالرفيق الأعلى.
ما إن أنهى والدي ،،مرافعته،،الأخيرة بحضور فقيه كان يسأل الله أن يكون هو من يجهزه،حتى أسلم الروح تاركا وراءه أربعة أبناء ليكونوا وقودا لمعركة الحياة السوريالية ،في كنف والدتنا التي تقمصت شخصية رجل خشن لضمان سبل البقاء !
لم يكن بد من أن تستمر الحياة-على علاتها-وأن نلهث وراء اللقمة بالوسائل المتاحة في بلدة تبرع في تلقين أبجديات عيش الشظف والبساطة المتناهية.
أصبحت،،الخيزرانة،،يتيمة،لكنها كانت من أبرز تراث الوالد ،،المادي،،لذلك حظيت بالعناية اللازمة لتظل على قيد الحياة.
وحفاظا على الأشياء ذات الرمزية كما هوا متوارث في البادية،فإن عكاز والدنا،قد تحول إلى وسيلة للتيمن،حيث كانت توضع في مخزن الحبوب لضمان بركتها، وصيانتها من الشرور!
لقد ظل العكاز يؤدي وظيفته،إلى أن بدأت المحاصيل تتراجع،واختفت طرق التخزين التي عجزت عن مقاومة المنتوج الجاهز،مما جعله يتنقل بين الأماكن والأيدي.
عندما لاحظت بأن ،،تراث،،والدي قد أصبح مهددا بسبب الاستعمالات المفرطة،فكرت في الاستفراد به،لكنني لم أفلح نزولا عند رغبة أخي الأكبر-رحمه الله- إلى أن كانت المفاجأة غير السارة قبل سنوات.
كان العكاز بيد أخي حين وفد عليه أحد الضيوف الذي استنبح كلبه الشرس،فلم تصرفه عنه إلا ضربة عكاز تعرض على إثرها للتكسر.
تألمت لضياع هذه التحفة،فقررت أن أحمي الجزء المتبقي منها لأشتم من خلاله رائحة أبي الذي لم يكتب له أن يواكب مسار أبنائه !
اللهم أسكنه جنة الفردوس الأعلى،وارحم جميع أموات المسلمين، أمين.
Aucun commentaire