ذاكرة مدينة وجدة المعرفية: رحلة سيدي عبد الله الجراري إلى وجدة سنة 1939 -الحلقة 18
بدر المقري
حل المؤرخ المغربي سيدي عبد الله بن العباس الجراري (1905-1983) مدينة وجدة يوم السبت 12 غشت 1939، فقصد لأول خطواته على ترابها ناظرها الفقيه الحاج أحمد الرجراجي الرباطي (توفي سنة 1955) ، ثم قاما معا بجولة في واحة سيدي يحيى. و مما قاله في وصف الواحة:
– (بها جماعة من الوجديين في قياطين و خيام أتوا بقصد الاستجمام و الراحة، يغسلون أثناء الإقامة أصوافهم و ثيابهم و أبدانهم من تلك العيون المتفجرة من الجبال كأنها أودية تجري في جداول منظمة تأخذ بالألباب مناظرها الجذابة…و يجلس الزوار و السياح على الكراسي بين جدولين براق حصاهما، تحت هدير المياه في رقة نسيم كونته يد الطبيعة الطلقة في تلك الأجواء الطيبة بأشجارها الباسقة التي تكاد أغصانها المتوغلة في الجو تصافح الزرقاء. يتفيأ ظلالها الزوار و كأن السعادة قد رامقتنا، إذ كانت العشية من أطيب العشايا، نلنا فيها ما نشتهي من أنس و طيب أحاديث).
ثم زار سيدي عبد الله الجراري بعد أوبته إلى وجدة مدرستها العلمية الملحقة بجامعها الكبير، فقال في ذلك:
– (في هذه المدينة الوجدية مدرسة مرينية نالت من الزخرفة و الرقة ما يتناسب و اهتبال الدولة بالمؤسسات العلمية بالمغرب لذلك العصر الزاهي الزاهر(الدولة المرينية)…. و تضم هاته المدرسة بين جدرانيها عدة بيوت ما بين سفلي و علوي لمأوى الطلبة. و قد بلغ عددهم لحد تاريخ الزيارة، ثلاثة و أربعين طالبا، يتقاضى كل مشاهرة قدرها خمسة و ستين فرنكا تنشيطا لهم على الدراسة…و المدير هو أخو رئيس جمعية أحباس الحرمين الشريفين، السيد قدور بن غبريط الجزائري (1868-1954). و أما العلماء و المعلمون، فمنهم: الفقيه أبو بكر بن زكري…و صديقنا الفقيه الواعظ الحاج أحمد بن الحبيب سيناصر أخ الفقيه الواعية المرحوم الحاج العربي سيناصر، حافظ تلك الديار الوجدية. و قد راجت بينه و بين الكاتب مباحث علمية…و منهم السيد الهاشمي بن علي الفيلالي…و الفقيه محمد بن إبراهيم اليزناسني…و العالم الحاج محمد المازوني…فأكرم بهاته الكتلة العالمة…و لشره الإخوان الوجديين على المعرفة و الطموح لمبادئ الكمال المرتكزة في أفئدة أحرار الإرادات الذين يصغر أمام أعينهم كل رفيع وعال جهة تثقيف أنفسهم و تهذيبها، أنهم يسعون جهد الطاقة لدى حكومة الحماية في تأسيس مدرسة ثانوية للعلوم الشرعية).
و قد لفتت نظر سيدي عبد الله الجراري نزعة أهل وجدة الدينية، فقال في ذلك:
– (إن أهالي وجدة المحبوبة لهم عناية غريبة بدينهم. آية ذلك، أنه لا يكاد وقت الصلاة ينبئ بها حتى تلفي المساجد قد اكتظت كرحابها بالمصلين ينتظرون الصلاة في هدوء و اطمئنان، لا لغط و لا همس، و إنما هو التسبيح و التقديس ينبعثان من قلوبهم الخاشعة، كأنما على رؤوسهم الطير. ميزة كريمة لها أهميتها في عالم التدين لا تكاد تتفق في المجموع ببعض العواصم إلا في أيام الجمع خاصة. و ذلك ما يزيدك إيمانا برسوخ قدم الإخوان الوجديين في التمسك بالملة و الدين…أما تلاوة القرآن جماعة بعد صلاة المغرب، فأكرم بها إذ نالت من الترتيل و التجويد حسب الوسط شيئا يروق السامعين و يلذ، لا سيما التالين للكتاب عن إحسان…و للسادات الوجديين أيضا محافظة على الوعظ، حيث عليه أحباس هائلة تصرف في سبيله، و يحضره الجم الغفير من المتعطشين للذكر…).
و مما قاله سيدي عبد الله الجراري في الحايك الوجدي:
– (نساء الوجديين من المشددات في الاحتفاظ بكرامته المقدسة. فهو من نسائهم قريب من حجاب نساء العدوتين (الرباط و سلا) في الاشتمال بالحائك و الاقتصار على كشف عين واحدة في دقة و ضيق، غير أنهن لا يتخذن الجوارب لستر الأرجل. و منهن من تتخذ الخلاخل كما هي عادة لديهن قديمة…).
و مما قاله سيدي عبد الله الجراري في أخلاق أهل وجدة:
– (يغلب عليهم الجد و الصمت، و خصوصا مع الأجنبي و البعيد، لغاية تبدأ الواحد منهم بالكلام. فلا يلبث لحينه ينظر إليك في قطوب، كأنك سببته أو نلت من كرامته. و يلوح لي أن هذا الخلق سببه التواء الألسن في التخاطب و بعد الوصول لفهم بعض الكلمات، إذ أن للقوم كلمات لا تروج في وسطنا كما لنا ذلك…و الوجديون بطبعهم ناس يألفون و يؤلفون. قوم يؤثر فيهم الإحسان و يأخذ منهم مأخذه. فلست تجدهم، ما سنحت لهم الفرصة، متقاعدين عن النهوض بواجب المكافأة…و من أخلاقهم أن الوجدي إذا لم تفتح معه باب الحديث لا يبدأك به، بل يسترسل في صموته و هدوئه إلى أن تفاجئه…).
Aucun commentaire