حكايا استاذ متقاعد : في غضبات وادي زا
ان من يمر اليوم بمحاذاة وادي زا، يخيل اليه وكأن هذا الأخير قد اجتاحت أوصاله واحدة من أمراض عصرنا التي ما أن تتسلل الى جسم حتى تفكك بنيانه الى ان ينهار.
ولعل من عرف صولات هذا النهر في الماضي، اولى الناس بالتأثر لما الت اليه حالته بعدما تظافرت عوامل عديدة للنيل من كبريائه.
وقبل الحديث عن أمجاد هذا النهر، فانه لا بد من التذكير بأنه ربما كان النهر الوحيد الذي يتغير اسمه من منطقة الى اخرى.
وهكذا، وقبل أن تقتحم مياهة بلدة عين بني مطهر، يسمونه،، وادي الشارف،، وهو توصيف قريب الى الواقع، لأن صبيبه قبل الوصول الى هذه البلدة لا يختلف عن صبيب ساقية عادية يسمع خريرها بالكاد.
وعندما يصبح النهر في احضان عين بني مطهر، فان الفرشاة المائية الغنية هناك، تجعله ينتفض بقوة ليشرع في الهدير في طريقه الى،، تكافايت،، حيث يحمل اسما جديدا: الوادي الحي.
وهذا الاسم يحيل على القوة التي تقابل الاسم القدحي السابق،لأن العيون التي تغذيه تجعله ينساب بكبرياء يتعزز بمجرد وصوله الى بلدة تكافايت حينما يستقبل المياه العذبة لعشرات العيون المتدفقة من هذه الربوع التي تجذب ساكنة الجوار للاستمتاع بحمامات طبيعية وفواكه محلية غنية لا تقاوم.
حين يغادر النهر بلدة تكافايت والقبائل المنتشرة على الضفتين، يستأنف رحلته بين تضاريس عجيبة لا يقدر روعتها الا من ذرع جنبات النهر كما كنا نفعل ذات زمان.
يحتاج النهر الى قطع كلمترات عديدة يتوارى خلالها بين أجراف شاهقة من الغرانيت لا مكان فيها للانسان قبل أن يطل على منطقة ،، السوايخ،، ايذانا بدخوله ملكيات القبائل العمراوية التي تبتدىء من دوار،، العثامنة،، لتنتهي ببني ورغ.
في هذا الفضاء حيث خرجت الى الوجود،يحمل النهر اسما حالما، ذلك أن أهالينا كانوا يطلقون عليه اسما بربريا: اغزر نورثان، أي نهر أشجار التين.
كان الاسم على المقاس، لأن الوافد على النهر في الصيف، كان أريج هذه الأشجار اول من يحتفي بقدومه،قبل أن يتنافس عبير باقي عناصر الطبيعة على النفوذ الى أعماقه.
اما حين يبتعد النهر ليصبح على مقربة من مدينة تاوريرت، فانه يرغم على حمل اسم من حرفين لا يحيلان على مسمى ما: زا !
في السنوات الأخيرة، تنبه الناس الى مياه نهر زا التي كانت تنساب بحرية وسط اراض شبه خالية من السكان لينقضوا عليها فجأة في استغلال ليس له من افق الا الاستنزاف كما حصل في اماكن أخرى، وزاد تراجع التساقطات من تراجع قوة النهر بشكل لا تخطئه العين.
خلال السنوات التي كان فيها النهر بعيدا عن عبث العابثين، كنا على موعد مع فيضانات مفاجئة للنهر لا سيما في فصلي الصيف والخريف، مما سمح برسوخ تقاليد من وحي هذه الفيضانات بين السكان.
كثيرا ما كنا نقطع شغبنا بضفاف النهر بعد أن تتناهى الى أسماعنا صرخات قوية للرجال والنساء ليفهم الجميع بان النهر قد انتابته حالة غضب بعدما انفضت معارك رعود،، الظهرة،، وتحولت الى سيول تجرف كل ما يقع في طريقها من حيوان وأشجار .
ان الصرخات التي تتجدد من مكان الى اخر، هي في الواقع تحذير للغافلين ليخلوا سبيل النهر الذي لا يرحم.
وهكذا يسارع من كان في الضفة الاخرى الى الالتحاق بالجانب الاخر، بينما تسارع النساء الى التزود بالماء قبل ان يتغيرلد لونه ومذاقه لعدة ايام.
اما الرجال، فكان من يحسنون السباحة منهم يتافسون في التقاط الاخشاب والحلفاء المعدة للترويض وكل ما يصبح في المتناول لان مفاجأت النهر تفوق كل التوقعات.
لقد كان له ضحايا من الحيوانات والانسان أحيانا، مما جعل الساكنة تأخذ كامل حذرها تحسبا لما يمكن أن ينجم عن هيجان النهر.
اتيح لنا ان نقف على العديد من فتوحات النهر خلال فترات غضبه، فقد كان يتلف السدود التقليدية والسواقي، كما كان يدمر القناطر البدائية التي كنا نعبرها، لكن أهم تغيير كان يحدثه، هو التأثير في طبيعة الاستغلاليات، حيث يحول المستوية الى الى أجراف هنا، بينما يسوي مرتفعات هناك لتصبح قابلة للزراعة في انتظار ما يحصل في الفيضانات الموالية.
الى جانب التخريب الذي كان يلحق المزروعات، فان فيضان النهر كان يحول دون تنقل الساكنة نحو الوجهات الاخرى لعدة ايام، لا سيما يوم السوق الاسبوعي.
كان اخر فيضان اتى على المنشأة التي كانت تسقي اراضينا هو ذلك الذي حصل اواخر الستينات من القرن الماضي، وتعذر اصلاحها الى ان شيد سد لغراس الذي تغيرت معه معالم المكان ويتحول الى بركة زرقاء تعرف اليوم تراجعا مهولا.
لم تعد الفيضانات منتظمة كما كان الحال قبل عقود، وتراجع صبيب النهر حتى علقت به الطحالب، أما السد الذي يعول عليه لسقي جزء من سهل تافراطة، فقد تراجع مخزونه بشكل مهول، فهل تجود السماء ليستعيد زا امجاده؟ ذاك ما نامله.
اما الوضع الحالي فان يحمل على كثير من القلق والحسرة.
1 Comment
شكرا استاذي الفاضل على هذه اللوحة الجذابة وعلى الوصف الشيق لود زا .في الحقيقة لقد لمست جرحا غائرا في أعماقي و حركت شوقا عارما في فؤادي إلى تلك المنطقة الرائعة و العزيزة على قلبي التي لا تزال صخورها تنبض بذكريات لا تنسى .و لازال خرير النهر يبوح ويحكي أساطير أجدادي.
شكرا السي شحلال
بكل حب و احترام محمد ايناو من جرادة