فاطمة والكهف
مباشرة بعد عودتها من عملها الشاق، تصطف فاطمة ضمن طابور النساء والرجال من أجل ملء قنينات الماء من سقاية الحي.. وهو عمل يعتمد على الوقوف الطويل والمضني، ومضني أكثر في حالة عدم وجود نساء أخريات تتبادل معهن أسرار الحي من زواج وطلاق وعمل وبطالة كي تقتل الوقت فيحين دورها للظفر بقطرة ماء.
لقد ألفت فاطمة هذا النمط من العيش وهي لا تخشى على أبنائها من الأمراض التي يمكن أن تتسبب فيها أودية الماء الحار التي تجري فوق سطح الأرض، حيث تنبع من كل أزقة الحي وهي غنية برائحتها التي تزكم الأنوف..لأن أبناءها قد استأنسوا هذا الوضع وألفوا هذه الروائح..وفي حالة مرض أحد أولادها الستة، فإنها قد تدربت على الوقوف في سقاية الحي لتقف أمام مستوصف الحي الذي يبعد عن حيها بمسافة ساعة في انتظار قدوم الطبيب لعله يفحص ابنها وفي أروع الحالات يتبرع عليها بدواء مجاني كي يستعيد ابنها عافيته.
إن يوم فاطمة يبدأ مع أذان الفجر، إذ تنهض لتصلي وتهيئ فطورها وتترك ما تبقى منه لأبنائها، فتتوجه بعد ذلك إلى "الموقف" لعلها تجد من يتكرم عليها بعمل، وإن كان شاقا، فهو أفضل من أن تعود إلى بيتها لتجد الأفواه مفتوحة تريد لقمة، وأجسادا عارية تريد كساء، ومريضا ينتظر دواء. و ينتهي يومها في الساعة الواحدة ليلا حيث تضطر إلى طبخ غذاء الغد ليلا، وتنظف ملابس أبنائها المتسخة والملطخة بأوحال الحي، خصوصا عندما يهطل المطر فيضطرون إلى عبور أنهار وبحيرات وبرك الماء الممزوجة بالماء الحار الذي يغطي كل الحي لعدم وجود قنوات صرف المياه.
فالعلاقات الاجتماعية لفاطمة تكاد تنعدم، إنها لا تجد وقتا لتزور أحبابها الذين لم يسبق أن زاروها لأنهم يشعرون بالتفوق الاجتماعي، ومن غير اللائق أن يصلوا إلى حي مهمش متسخ لا يليق بمستواهم الاجتماعي. وهذا الشعور لدى أحبابها شكل لها عقدة تشعرها بالدونية والانحطاط. لكن في نفس الوقت يمنحها قوة وعزيمة لتضغط على أبنائها يوميا ليدرسوا جيدا لعل الله يغير من حالها وحالهم، وحتى لا ينظر إليها أحد على أنها من فئة اجتماعية أدنى وأحط . إن فاطمة تعلم أن بنجاح أبنائها فقط يمكن أن يتغير حالها وتخرج من هذا الكريان المنسي الذي يعمل يوميا على دفن كرامتها وكرامة أبنائها، ولذلك، تجدها حريصة على تعليمهم رغم أميتها.. وغالبا ما تقول لهم: " قراو وخرجونا من هذه الميزيرية"
قد يطول انتظار فاطمة حتى يكبر أبناؤها فيتغير حالهم وحالها. وغالبا ما يكون دعاؤها الرسمي بعد كل صلاة أن يغير الله حالها بحال أفضل، وأن يعفو عنها من "التبكير" صباحا وهو "تبكير" يعرض حياتها للخطر.
لم تكن فاطمة تتوقع أن الله سيستجيب لدعائها وسيعوض عليها الانتظار الطويل لأبنائها حتى يصيروا رجالا قادرين على الكد والعمل بمبادرة وطنية في التنمية البشرية يتزعمها ملك شاب يمثل ابن كل مواطن ومواطنة، وأب لكل يتيم ويتيمة..فاقتضت هذه المبادرة إعادة إسكان فاطمة بحي مجزء به مرافق حيوية تربوية وثقافية وملاعب رياضية تجعل أبناءها يشعرون بأن أباهم لازال على قيد الحياة..
لقد تم تسليمها بقعة أرضية بتجزئة النجد الجزء الثالث. ونظرا لعدم توفرها على مبلغ مالي به تستطيع بناء هذه البقعة ..تطوع أحد المحسنين للتكفل بذلك..فاستقرت فاطمة، ولأول مرة في حياتها ستشعر بوجودها، ولأول مرة ستوفر وقتا لرعاية أطفالها..ولأول مرة ستجد وقتا تزور فيه أقاربها بعزة وكرامة لأنها سارت تملك كباقي الناس مسكنا محترما به كهرباء وماء وقنوات تصريف المياه…وسترحب فاطمة بأحبابها متى شاءوا وستغفر لهم تكبرهم عليها يوم كانت تسكن في الكهف.
Aucun commentaire