وكيل لائحة حزب الحمامة : أو عندما يتخلى الرفاق والأتباع والموالون عن المرء وحيدا في ساحة المعركة.. !!
المختار أعويدي
وأنا في طريقي عودتي اليوم إلى بيتي بمدينة العروي، مررت بجوار منزل عائلة السيد مصطفى المنصوري، وكيل لائحة حزب الحمامة في الإنتخابات التشريعية، وقد أثار انتباهي وتعجبي، وجود بضعة شبان بالمكان لا يتعدى عددهم الخمسة عشر بالكاد. يستعدون للمشاركة في خرجة دعائية إنتخابية للحزب المذكور، وهم يرتدون قمصانا تحمل رمز الحزب، ويحملون مطبوعات دعائية، عليها صور وكيل اللائحة، وباقي مترشحي اللائحة.
طارت بيَ الذاكرة في حينه إلى سنوات التسعينات من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة. يوم كانت أفواج الساكنة تتقاطر على منزل صاحبنا، شبابا وشيبا، صغارا وكبارا، من مختلف المناطق، ليل نهار. حتى من دون دعوة أو استدعاء أو طلب أو حتى إرادة. كانت تفعل ذلك فقط، رهبة أو خوفا أو طمعا أو جهلا أو انسياقا وانجرافا مع التيار. وهو ما كان يدفعها أو بالأحرى، يجبرها على المجيء لتأكيد المساندة والدعم، وتسجيل الحضور والظهور إلى جانب المترشح المذكور. كان البيت محجاً لأفواج الساكنة، ومقصداً للجحافل البشرية، الآتية من كل حدب وصوب. حتى أنه من فرط كثرة الوافدين عليه، كان يضيق باستيعاب الأعداد الغفيرة منهم. الذين يظلون وسياراتهم، مرابطين بالمكان طيلة فترة الحملة الإنتخابية. حتى أن المرور أو العبور من الشارع المذكور، خلال أيام الحملة الإنتخابة وبُعيدها، لم يكن أمرا سهلا متيسرا، نظرا لازدحامه الشديد والمستمر بالحاضرين إلى المكان ووسائل نقلهم. والذين كانوا طول الوقت، ينتظرون كلمة أو إطلالة أو إشارة من السيد المنصوري، لينطلقوا إلى الإستجابة والتنفيذ، بسرعة متناهية وحماسة زائدة.
كان هناك تنافسا غريبا منقطع النظير، بين الوافدين على المكان، في إبداء المساندة والدعم والإنتماء، وعرض الخدمات المختلفة على المترشح القوي، بل وحتى التعبير له عن « الولاء » والإخلاص. حتى أنه من فرط الرغبة في التقرب والتودد والمساندة له، كانت تتشكل تلقائيا، موازاة مع الحملة القائمة في منزل العائلة، جماعات بلطجية، أغلب عناصرها مدججة بالسيارات المجهولة. متحمسة بل مزهوة بوجودها في خندق وصفوف ذوي النفوذ. تقوم بالدعاية الإنتخابية الشعبوية للمترشح، وتعمل على استفزاز الناس، وأحيانا حتى الإعتداء على بعض الساكنة، ممن كانوا يجهرون بإبداء المعارضة أو « التطاول » على مرشحهم المفضل.
كان أكثرية الموالين لا يَجدون غضاضة أو حرجا في البروز والظهور عيانا جهارا، بمظهر المساند المتحمس المتفاني، بل والمتفاخر بذلك. بينما أقلية منهم كانوا يتحرجون من الظهور المباشر، وسط هذا الهرج والمرج، ومناخ الشعبوية الطاغي والمسيطر. فيفضلون التستر عن مجيئهم إلى منزل المترشح، للتعبير له عن « ولائهم » ومساندتهم. لا لشيء، سوى لأنهم كانوا يرقصون على أكثر من حبل. فتراهم لا يلتحقون بمنزل السيد المنصوري حيث ترابط الوفود، لتقديم فروض المجاملات والدعم، سوى متسللين خلسة وخفية، تحت جنح الظلام وفي آخر الليل، كما يفعل اللصوص، حتى لا تلحظهم العيون المتلصصة المتجسسة.
لم يكن في الواقع دافع كل هؤلاء الوافدين على المكان، المتنافسين على التقرب من المترشح، المتظاهرين بالتودد له، بل والتمسح به، لم يكن كل ذلك حباً فيه، أو إعجابا بشخصيته أو برنامج حزبه. ولكن أكثرهم كان يفعل ذلك، إما رغبة في تأمين مصالحه المشروعة وغير المشروعة، والبحث عن منافع ممكنة. أو خوفا ورهبة من النفوذ المتنامي للمترشح وعائلته في دواليب السلطة، والذي كان في قمة أوجه وقتذاك. وقليلون كانوا يفعلون ذلك اقتناعا أو إنتماء لنفس القبيلة أو العائلة.
وقتها، لم يكن المترشح المعني، في حاجة إلى تنظيم حملة انتخابية، في شوارع المدينة أو البلدات المجاورة كتزطوطين، أفسو، حاسي بركان.. فالحملة كانت تنظم تلقائيا في بيت العائلة الكبير، والمناطق المحيطة به. حيث كانت تأتي أعداد غفيرة من المواطنين تلقائياً وتباعاً، لتعلن دعمها ومساندتها، وتعرض خدماتها، وتتلقى التعليمات. فتنطلق هي الأخرى لتعبئة وتحفيز أفواج أخرى، على القدوم إلى البيت المعلوم. ولم تكن الخرجات الدعائية المعدودة، التي كان يقوم بها المترشح، مرفوقا بأعداد هائلة من السيارات والمركبات والمواطنين، سوى استعراضا للعضلات الإنتخابة القوية، وترهيبا للمعارضين، وتأكيدا للسطوة والمهابة. ودائما ما كان هذا الإستعراض الإنتخابي، يتوج بتنظيم تجمع حاشد بملعب المدينة، خلال اليوم الذي يسبق موعد التصويت (الخميس). حيث يحرص الجميع على تسجيل الحضور، وإبداء المساندة والدعم، والتصفيق والتهليل، والهتاف باسم المترشح.
يومها كنا مدفوعين بحماس الشباب الزائد، ورغبتنا العارمة في تغيير شيء ما، مما كان يحدث وقتها بالمدينة. وكانت الإنتخابات الجماعية، فرصتنا لرفع الصوت، والجهر بمحاولة التغيير والتعبير، والعمل على تصريف خطاب التحدي والتصدي لهيمنة الحزب الإداري وأعوانه من الأعيان، على تدبير شؤون المدينة. ولكن هيهات هيهات !! أن تسبح ضد تيار جارف، تشكـّل وقتها تحت وقع الرهبة والخوف من جهة، والجهل والأمية وضعف الوعي السياسي من جهة أخرى، والبحث عن المنافع وتأمين المصالح من جهة ثالثة. في وقت كانت فيه سطوة المخزن كاملة غير منقوصة، ومتناغمة مع الأحزاب الإدارية. ويده مرفوعة للضرب في كل وقت وحين. ومع ذلك كنا نصارع ونقاوم في حدود الإمكان، مع علمنا الراسخ، أن الموازين الإنتخابية وموازين القوى لم تكن البتة في صالحنا.
كانت الظروف المهيمنة المذكورة وحدها، كافية كي تجعل أغلب أفراد الساكنة، يتحاشون أو بالأحرى لا يجرؤون حتى الوقوف معنا، أو الحديث إلينا خلال الحملات الإنتخابية، وأحرى دعمنا أو مساندتنا انتخابيا، وكأني بنا كائنات جرباء. وحتى كثيرين ممن كانوا يجرؤون على فعل ذلك، تأكد لاحقا أن أغلبهم، إنما كانوا أعوان مترشحي الحزب الإداري، والأحزاب التي تحوم في فلكه، مدسوسين ومتغلغلين في صفوفنا. فقد كنا نـُنعت وقتها ب « إزرماضن »، وهو اللفظ الذي كان له مغزى قدحي من منظور العامة، وأيضا دلالة سياسية، تحيل على التمرد والعصيان وعدم الإنضباط، بمنظور أعيان المدينة ومحافظيها. ولم يكن الأمر يعني تيار اليسار السياسي المعروف. وهو ما كان مَبعث خوفِ كثير من ساكنة المدينة، مِن التعاون أو التفاعل مع حملاتنا، خشية وهـْم تعرضهم لغضب أصحاب الدار المذكورة. ومع ذلك فقد اكتسبنا الكثير من التعاطف غير المعلن من طرفهم.
كان عنصر التنافس المتكافئ الشريف مع الحزب الإداري، وباقي الأحزاب المخزنية الرديفة له وقتها، أمرا بعيد المنال صعب التحقق، وذلك نتيجة عوامل متعددة. فقد اجتمعت لديه عناصر النفوذ والسلطة، والدعم الأعمى لأعيان المدينة ووجهائها، وإغراء المصالح والمنافع. ناهيك عن محدودية الوعي السياسي لأغلب ساكنة المدينة آنذاك، وطغيان النزعة القبلية في صفوفهم، واستشراء أساليب التزوير المختلفة، متمثلة في عمليات الإنزال، وتصويت الأحياء والأموات وغير المسجلين، والتصويت المتعدد للشخص الواحد، وتواطؤ السلطة، وكثيرا من رؤساء مكاتب التصويت ومساعديهم، وعوامل أخرى لا يتسع المجال لتفصيلها. ما كان يجعل ميول التصويت لمجموع القاعدة الناخبة بالمدينة، وعمليات التزوير، تنحو في اتجاه واحد، هو اتجاه الحزب الإداري، خلال الإنتخابات البرلمانية. وكذا مترشحي الأحزاب المخزنية الأخرى، خلال الإنتخابات الجماعية. الذين كانوا برغم اختلاف ألوانهم الحزبية، التي اقتضاها التصويت الفردي، يحومون في فلك ممثل حزب الأحرار بشكل مطلق لا خيار لهم فيه، والذين طالما كانوا يشكلون أغلبيته العددية المريحة، التي كانت تؤمن له الإمساك برئاسة البلدية لمدة عقود من الزمن. ورصيده اللازم من الأصوات، لتمرير الحسابات الإدارية بسلاسة ويسر.
كان اكتساح الإنتخابات من طرف مترشح حزب الحمامة وممثلي الأحزاب الموالين له، في ظل هذه العوامل وقتها، أمرا طبيعيا ومن نافلة القول. وكان انتظار وقت إعلان النتائج، إنما هو انتظار لانطلاق الإحتفالات الصاخبة، وليس انتظارا للتأكد من الفوز، كما كنا نتوهم نحن. فالنتائج تكون محسومة وبأرقام هائلة. وكذا بداية استعداد الوفود والجحافل البشرية الموالية للمترشح، للتهافت على بيت العائلة الكبير ومحيطه، لأجل تقديم التهاني والتباريك، وتجديد الولاء والدعم والمساندة للمترشح. ويظل البيت هكذا لأيام وأيام، يستقبل المهنئين، الذين لا ينفض جمعهم، سوى ليتجدد العهد والموعد مع محطات لاحقة.
هذه هي حال بيت وكيل لائحة حزب الحمامة أيام زمان، يوم كان عامرا بالوافدين، ضاجاً بحركتهم وصخبهم. أما اليوم ومن مكر الزمان وسخرية القدر، لم تعد لا للبيت، ولا لأصحابه، ولا للشوارع المحيطة به، تلك الجاذبية الإنتخابية القوية. فقد انفضت من حوله الجموع والوفود، وأصبح خاويا على عروشه، سوى من بعض المخلصين أو المنتفعين أو المقربين.. لا لشيء، سوى لأن الإنتكاسات السياسية توالت على صاحب البيت المهجور، بدءا بفقدان زعامة الحزب، ثم خسارة منصب رئاسة البرلمان، وانتهاءا بخسارة رئاسة البلدية. فتراجعت هيبة أصحاب الدار وتأثيرهم ونفوذهم.. فانصرف عنهم الناس زرافات ووحدانا.. منهم من تخلص من وهم رهبته وخوفه، وحتى انبهاره بأصحاب الدار. ومنهم من ذهب يبحث عن ولاء سياسي جديد، يطارد فيه مصلحته ومنافعه. ومنهم من عزف عزوفا نهائيا عن أهل السياسة و »البوليتيك ». ناهيك عن صعود جيل جديد من الشباب بالمدينة، متشبع بالوعي السياسي، وعارف بخبايا العمل الحزبي وتاريخه وتجاره ومريديه. وساخط على الممارسات الماسة بالروح الديموقراطية، وعازف عن الإرتماء في أحضان الأحزاب المخزنية، ومتمرد على كل الممارسات التي من شأنها تمييع العمل السياسي والحزبي. ناهيك عن تحسن المناخ السياسي في البلاد نسبيا إلى حد ما، خلال السنوات القليلة الماضية.
تلكم كانت قصة البيت المهجور الذي مررت بجواره اليوم، وكان يقف بجانبه الخمسة عشر شابا، في صورة « حزينة »، مخالفة تماما لما كان عليه الحال في السابق، يوم كان معمورا تـُشد إليه الرحال، وتغصّ به الوفود، ويقدَّم فيه الولاء، ويُشرب فيه نخب الإنتصار، ويُقرر فيه مصير تدبير شأن المدينة، من طرف كائنات أغلبها عديمة الخبرة والتجربة والجدوى. يعوزها حب المدينة وعشقها. وتنقصها الدراية اللازمة، لمباشرة الفعل التنموي المجدي. ويغلب على كثير من أفرادها الجشع والطمع، وعبادة المصالح الشخصية. والتي برغم التحذيرات والتنبيهات التي تلقاها رئيس البلدية، من عدة جهات وأطراف، بشأن خطورة وفساد مثل هذه الكائنات، العابثة بزمام المسؤولية بالمدينة، بالنظر لجشعها وجهلها، وسوء تواصلها وتفاعلها مع انشغالات وهموم الساكنة. فإنه لا حياة لمن تنادي !!
لم يعد البيت كما كان في الماضي القريب، فقد اختفت وانتفت عنه صور الأفواج العارمة التي كان يعج بها، وتبددت الهيبة والمهابة التي كانت ترفرف في أرجائه. وخلا حتى من وجوه كبار الإنتهازيين والمنفعيين والسماسرة والمصلحيين، الذين طالما كانوا مُولين وجوههم شطره، من الذين راكموا بفضل ارتمائهم في أحضان مترشح حزب الحمامة، واختبائهم في ظله، الكثير من المنافع والمصالح الشخصية. بل كانوا وخاصة منهم الذين باشروا بعض صلاحيات تدبير شؤون البلدية، سبب تعطيل التنمية بالمدينة. انفضوا عن المكان، وانصرفوا عن صاحب الدار، ناكرين فضله عليهم، ومتناسين كل ما تحمّله بسبب انزلاقاتهم وفسادهم من ويلات وانتكاسات. وباحثين عن وجهة أخرى وسادةٍ جدد، يحتـَمون بنفوذهم، لأجل خدمة مصالحهم ومنافعهم المتجددة أبدا. ذهبوا وتركوا صديقهم القديم، يتلقى الضربات والطعنات الموجعة، وحيدا فريدا في معركة شرسة لا ترحم. انصرفوا عنه لا يلوون على شيء، وكأني بهم يقولون له، ما قاله المَلأ من قوم موسى لموسى : « فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون « .
إنه درس عميق المغزى، بالغ الدلالة لجميع الساسة ومحترفيها. أن السياسة حال وأحوال، وأنها متقلبة متبدلة كشمس الخريف. فهي قد ترفع المرء إلى أعلى عليين، لكنها يمكن أن تطرحه أيضا في الحضيض. وعليه، فلا ينبغي للمرء الإطمئنان لنعيمها وعطائها، ولوَلاء الناس ودعمهم وتهافتهم، فهُم متقلبون متلونون كجلد الحرباء. لا يستقرون سوى على أمر ثابت، ومعبود واحد، هو المصلحة ثم المصلحة ثم المصلحة. وليتأكد هؤلاء أيضا، أنهم ذاهبون راحلون عابرون لا محالة. وأن جموعهم وأنصارهم وأتباعهم وحشودهم سوف تتفرق وتنفضّ لا شك في ذلك. وأن وطنهم ومدنهم التي ارتقوا يوما ما باسمها، باقية ثابتة شامخة لا تزول ولا تتزحزح. فليحرصوا إذن على أن لا يذهبوا إلى مزبلة التاريخ !!
Aucun commentaire